بدء جلسات النسخة ال9 من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض    تدشين الملتقى التاسع للمشرفين والمشرفات المقيمين بالطائف    مركز الملك فهد الثقافي الإسلامي بالأرجنتين يُكرّم 40 فائزًا وفائزة    تأثير محدود للعقوبات على أسعار النفط    واشنطن وطوكيو توقّعان اتفاقية ل"تأمين إمدادات" المعادن النادرة    زلزال بقوة 5.8 درجات يضرب شمال مصر    مدير عام الدفاع المدني: استضافة المملكة لبطولة الإطفاء والإنقاذ تعكس جهودها في تعزيز التعاون الدولي    كباشي: شكراً صحيفة «البلاد»    القيادة تعزّي ملك مملكة تايلند في وفاة والدته الملكة سيريكيت    قدم الشكر للقيادة على الدعم الإنساني.. مصطفى: السعودية خففت معاناة الشعب الفلسطيني    مطالب دولية بحمايتهم.. «الدعم السريع» يقتل مدنيين في الفاشر    اقتحموا مقرات أممية بصنعاء.. الحوثيون يشنون حملة انتقامية في تعز    ارتفاع تاسي    بثلاثية نظيفة في شباك الباطن.. الأهلي إلى ربع نهائي كأس خادم الحرمين    في ختام دور ال 16 لكأس الملك.. كلاسيكو نار بين النصر والاتحاد.. والهلال ضيفًا على الأخدود    الهلال بين فوضى جيسوس وانضباط إنزاغي    ضبط مشعل النار في «الغطاء النباتي»    الدفاع المدني.. قيادة تصنع الإنجاز وتلهم المستقبل    لماذا يعتمد طلاب الجامعات على السلايدات في المذاكرة؟    شدد على تعزيز أدوات التصدير والاستثمار المعرفي.. الشورى يطالب بالرقابة على أموال القصر    تعزيز الشراكة مع الولايات المتحدة وبريطانيا    « البحر الأحمر»: عرض أفلام عالمية في دورة 2025    العلا تفتح صفحات الماضي ب «الممالك القديمة»    350 ألف إسترليني ل«ذات العيون الخضراء»    الحوامل وعقار الباراسيتامول «2»    إنجاز وطني يعيد الأمل لآلاف المرضى.. «التخصصي» يطلق أول منشأة لتصنيع العلاجات الجينية    وزير الداخلية يدشن وحدة الأورام المتنقلة ب«الخدمات الطبية»    وزارة الحرس الوطني⁩ تطلق البطاقة الرقمية لبرنامج "واجب" لأسر الشهداء والمصابين    ولي العهد يلتقي رئيسة جمهورية كوسوفا    أكثر من 54 مليون قاصد للحرمين الشريفين خلال شهر ربيع الآخر 1447ه    «الشورى» يطالب بمعالجة تحديات إدارة وتنمية الأصول العقارية للقُصّر    التواصل الحضاري يسلط الضوء على واقع ذوي التوحّد    نائب أمير الشرقية يطّلع على جهود "انتماء وطني"    التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب يستقبل وفدًا من جامعة الدفاع الوطني    القيادة تهنئ حاكم سانت فنسنت وجزر الغرينادين    اكتشاف يفسر لغز المطر الشمسي    "موهبة" تشارك في مؤتمر "الطفولة تزدهر 2030"    "عفت" تشارك في مهرجان البحر الأحمر بأفلام قصيرة    المعافا يقدّم التعازي لأسرتي العر والبوري في القمري    53% من صادرات المنتجات البحرية لمصر وعمان    2600 نحال يقودون تربية النحل بمدن عسير    اليوسف يلتقي عددًا من المستفيدين ويستمع لمتطلباتهم    "تجمع القصيم" يستعرض برامجه النوعية في ملتقى الصحة    إسرائيل بين تحولات الجنوب وتصاعد التوترات مع لبنان    الخليج يكسب التعاون ويتأهل لربع نهائي كأس الملك    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرعى حفل افتتاح بطولة العالم لرياضة الإطفاء والإنقاذ ومئوية الدفاع المدني    الأمير تركي بن طلال يزور جناح جامعة جازان في ملتقى التميّز المؤسسي    نائب أمير مكة يتسلم تقريرًا عن استحداث تخصصات تطبيقية بجامعة جدة    الأميرة نجود بنت هذلول تتابع تطوير أعمال تنظيم وتمكين الباعة الجائلين بالشرقية    "التخصصي" يوقّع أربع اتفاقيات لتعزيز الوصول إلى الرعاية الصحية التخصصية    رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية يغادر المدينة المنورة    أكثر من 11.7 مليون عمرة خلال ربيع الآخر    إنطلاق الملتقى العلمي الخامس تحت عنوان "تهامة عسير في التاريخ والآثار "بمحايل عسير    تركي يدفع 240 دولاراً لإعالة قطتي طليقته    المعجب: القيادة حريصة على تطوير البيئة التشريعية    أثنى على جهود آل الشيخ.. المفتي: الملك وولي العهد يدعمان جهاز الإفتاء    116 دقيقة متوسط زمن العمرة في ربيع الآخر    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على هيفاء بنت تركي بن سعود الكبير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشهد الثقافي السعودي في الذكرى المئوية لتأسيس المملكة فوكوياما وشتراوس وطه حسين في نادي جدة الأدبي والحداثة هجرها خصومها إلى الفضائيات 1 من 3
نشر في الحياة يوم 26 - 10 - 1998

تعيش الثقافة السعوديّة فورة مدهشة، لا يتصوّرها من لا يزال أسير "الكليشيهات" والأفكار المسبقة. فالنوادي الأدبيّة تضجّ بنقاشات عميقة ومفاجئة، واذا كانت الرياضة والأدب الشعبي والفضائيّات من المخاطر التي تفتك بالثقافة، فهذا لا يمنع الساحة الفكريّة والابداعيّة من أن تزدحم بالهموم المثيرة والمواجهات الخصبة. الجيل الصاعد جاء بأسئلته، دافعاً أتباع الحداثة إلى اعادات نظر جذريّة. والأدباء الجدد يطالبون العرب بالتعامل معهم كأفراد، صارخين بوجه العالم الخارجي: "دعوا ابداعنا يقول هويتنا". وفي المناخ السعودي، سرعان ما ينقلب كل موضوع يمس الثقافة إلى معركة. مع بدء الاحتفالات بالذكرى المئويّة لتأسيس المملكة، قامت "الوسط" بجولة على كواليس الثقافة السعوديّة، وعادت بأصداء حوارات وتساؤلات ومراهنات.
من الطائرة تبدو مدينة جدة مثل رقعة شطرنح : شوارع متوازية بالطول، وطرقات متوازية بالعرض. هنا البحر وهناك الصحراء. ومع ذلك ثمة اخضرار كثير، مساحات من الخضرة. وأشجار تتعايش مع العمران الزاحف من الجنوب أكثر فأكثر. خلال العقدين الأخيرين تغيرت جدة، زاد حجمها مرتين على الأقل، وازدادت رقعة الاخضرار فيها مرتين. وحده البحر لم يتغير. ظل على حاله، أزرق على حلكة وصخب يدفعانك إلى التساؤل عن الذي جعله بحراً أحمر. جدة مدينة هادئة، تغمرها شمس تجمد الحركة تماماً. شمس صارخة كما يمكن للشمس الحقيقية أن تكون. ترفع معدلات الحرارة إلى درجة تفوق المحتمل، وحتى حين تغيب ويحل الليل المفاجئ، يخيل إليك أن الشمس لا تزال موجودة. لهيبها يصفعك أينما تحركت. حتى تتساءل كيف يمكن للناس أن يتحركوا هنا.
لكن الناس يتحركون في بطء، في صمت. أناس من كل الأصناف، من كل الشعوب، يتحدّثون كل اللغات. تعتقدون بأن لندن مدينة "كوزموبوليتية"؟ حسناً... زوروا جدة، ستجدون آسيا وأفريقيا وأمم أوروبا، وتختلط عليكم اللغات فتحارون أيّها تتحدثون كلّما التقيتم شخصاً جديداً. جدة مدينة كوزموبوليتية بامتياز، من داخل الطائرة حتى الأسواق الشعبية، مروراً بالفندق والطريق وسيارة الأجرة والمخازن ... المخازن الكثيرة التي تكاد تجعل المدينة مستودع استهلاكٍ من طراز نادر. بضائع فوق بضائع فوق بضائع. وزبائن فوق زبائن . ضجيج أسواق جدة لا يعادله ضجيج الأصوات في أي سوق في العالم. ومع هذا، فجأة يتوقف الضجيج تماماً. تهدأ الأصوات، تنام المخازن والبضائع واللغات والأعراق. ينام كل شيء.
جدة مدينة ساحرة مبهرة، ليس فقط بالمقاييس الجغرافية والهندسية. إنها بالتأكيد مدينة غريبة، تشعر فيها بأن ثمة همهات تسري في الزوايا، ويتجاور فيها التمر الحقيقي الذي يباع بأصنافه التي لا تحصى، مع أحدث الساعات وأطرزة الثياب واكثر السيارات تطوراً، فضلاً عن التبغ والأراجيل. والأسعار لا تضاهى.
جدة باختصار تكاد تشبه اكوام الصحف في الأكشاك. صحف سعودية وأجنبية، بكل اللغات ايضا وبكل الالوان. تغريك الصحف السعودية لأنها الأكثر امتلاء بالالوان. وستكتشف انها الأكثر امتلاء بالضجيج والمعارك، معارك من حول الثقافة، من حول الغناء الشعبي، من حول الرياضة والفضائيات. هنا ازاء هذا النوع من الصحف، تحس نوعاً آخر من الحياة. هنا لا تعود المسألة متعلّقة بالكوزموبوليتية ويخطئ من يعتبر نفسه في "برج بابل" عصري. التنوع موجود، ولكن ضمن اطار وحدة الهموم. ووحدة الهموم تجدها اكثر ما تجدها لدى المثقفين الذي تحول أكثرهم صحافيين، خلال العقد الاخير. ولئن كانت الصحافة السعودية متشابهة، الى حد كبير، في موادها السياسية والاقتصادية وربما الاجتماعية أيضا. فإنها، في الثقافة متنوعة الى ابعد الحدود، وتكاد وحدها في هذا الاطار تضيف ألف داحس وألف غبراء.
هنا تكثر المعارك ويكاد عددها يوازي عدد المثقفين/ الصحافيين. ولكن، انى قلبت وجهك وانى توجهت، ومهما تجوّلت وسط الخصومات والعداوات، ستفاجأ في المحصلة الأخيرة بوجود أعداء مشتركين، يشكو الجميع منهم ومن سطوتهم: الرياضة، الأدب الشعبي، والفضائيات.
"أمام غزوة الرياضة، تهون خلافاتنا ومعاركنا نحن المثقفين" يقول لك كاتب صديق. ويذكرك هذا الصديق بجلسة في الرياض قبل عشر سنوات، دار خلالها الحديث على ما تحفل به الصحافة من مواد ثقافية جادة تحاول تأسيس ثقافة جديدة في بلد كان بعض العالم الخارجي ينظر إليه على انه بلد نفط ومال لا أكثر، وتلك النظرة لم يفلت منها وقتذاك بعض المثقّفين العرب! في ذلك الحين كانت بدأت تبرز أسماء شعراء ومفكرين بدا وكأنهم طلعوا فجأة وسط بلد الرفاه والتصنيع السريع والسياسة الخارجية القويمة، ليقولوا: إننا قادرون على انتاج ثقافة ايضاً، وكان من الصعب اخذ ذلك الكلام كلياً على محمل الجد. فالمركزية كانت للقاهرة وبغداد وبيروت، وكان المغرب العربي اثبت حضورا مباغتاً. أما الخليج... أما السعودية!
وفجأة حدثت الصدمة، واكتشف القارئ العربي أشعار الصيخان والحربي والثبيتي والدميني، وكتابات الغذامي والسريحي، وغيرهم من ورثة جيل الرواد الذي كان معروفاً للعرب من قبل، لكنه كان ينتمي الى مرحلة ما قبل الفورة النفطية. والاهم من ذلك ان القارئ العربي اكتشف أيضاً صخب المعارك الدائرة على الساحة الثقافيّة حول الحداثة. واعتاد القارئ تدريجاً على التعامل مع ما ينتج في السعودية باعتباره جزءاً حيوياً، وأصيلاً في معظم الاحيان، من النهضة الثقافية العربية بشكل عام. وكانت الصحافة السعودية تواكب هذه الدينامية الجديدة، تكرس لها ملاحق وصفحات.
اليوم تضاءل هذا الاهتمام، وشرّعت الصفحات للرياضة والفضائيات، من خلال مقالات لا تغامر في النقد والتحليل بل تكتفي بالمواكبة الاخباريّة. كما تركّز الاهتمام على الشعر الشعبي، هذا اللون التراثي الذي عرف خلال العقد الأخير فورة مدهشة، وصار له أقطابه وجمهوره المتزايد وأنواعه المدروسة ومجلاته وصحفه و... معاركه. ففي المناخ الثقافي السعودي، في جدة كما في الرياض وغيرهما، سرعان ما يتحول كل شيء ثقافي، او يمس الثقافة إلى معركة. والصحافة هي التي تشعل هذه المعارك غالباً، وهي أيضاً التي تطفئها في بعض الأحيان.
صراع ودّي بين عبده والمدّاح
المعارك اليوم، في الصفحات الثقافية السعودية كثيرة: من يكتب للشاعرات؟ الصلح بين عبدالمجيد عبدالله والشاعر الفلاني، السرقات الادبية... وحسبك في جلسة طيبة وطريفة في بيت طلال مداح أن تذكر ما يفعله محمد عبده اليوم ويكون المذكور "نسي" أن يخبر به صديقه طلال، حتى تكون آفاق معركة.
والحال اننا خارج اطار هذه الآفاق، سنلاحظ ان طلال ومحمد عبده، هما العائدان الكبيران الى الساحة الغنائية السعودية هذه الأيام. طلال غاب طويلاً في الخارج، حيث أجريت له جراحة في القلب تمت بنجاح، وها هو يستأنف نشاطه ويستقبل محبيه في بيته كل مساء. ومحمد عبده بدوره عاد الى نشاطه، ويرى الكثير من المثقّفين والمراقبين ان عودتهما تضع حدا لما أسماه ناقد في صحيفة سعودية ب "التشتت والكساد والأغاني التي انحدرت بأذواق الناس، وأثقلت اسماعنا في هذا الزمن".
مهما يكن، فإن عودة طلال ومحمد عبده تترافق مع مناسبة تلوح فيها حاجة ماسة إليهما: فالسعوديّة تبدأ هذه الأيام الاحتفالات بالذكرى المئوية الأولى لتأسيسها. هذه الاحتفالات ستتواصل طوال عام هجري كامل. وعلى رغم ضخامة المناسبة، يفاجئك خلو الشوارع في جدة من اللافتات الصاخبة، ومن الشعارات التي تملأ الجدران والمفترقات والأماكن العامة في مناسبات عربية اقل اهمية من هذه بكثير. أما مئوية الرياض فتتخذ طابعاً ثقافياً فنياً، وقد شاءت العاصمة لاحتفالاتها أن تكون ذات مستوى استثنائي لم يسبق له مثيل. ومن هنا ما يحضر له محمد عبده، من ناحية وطلال مداح من ناحية اخرى وربما تلتقي الناحيتان، لكن هذه مسألة مؤجلة!، من اغان وطنية ذروتها أوبريت يسجلها طلال وأخرى يسجلها محمد عبده.
لن تقتصر فعاليات الاحتفالية طبعاً على اغنيات هذين القطبين، وهما اليوم من أبرز وجوه الغناء السعودي والعربي، بل ستشهد ندوات ومؤتمرات ولقاءات ونشاطات فنية أخرى، إلى جانب الاهتمامات التلفزيونية وصدور الكتب والاعداد الخاصة من الصحف والمجلات.
الحلم الذي تحقق
حتى الآن تطلّ المئويّة عبر الصحافة اليومية والاسبوعية التي تستعيد ذكرى المؤسس وتستعرض انجازات المملكة، على الاصعدة كافة، طوال مئة عام، خرجت خلالها هذه المنطقة من العالم، من حضن صحرائها وفقرها وانغلاقها على تاريخها السالف المجيد، لتلج العصر من بوّابته العريضة، ولتصبح طرفاً أساسيّاً بين الأمم في صناعة التاريخ وتحديد ملامحه ومساره. هكذا تحقّق الحلم، ومن السهل طبعاً ان تعزو هذا التغيير الجذري إلى الثروة النفطيّة، لكن كل قراءة تكتفي بهذا القدر من التحليل تكون ناقصة، وغير عادلة، ومخالفة للحقيقة. فدارس المسيرة السعودية عبر العقود، يلاحظ بوضوح كيف كان هناك دائماً الى جانب الثروة إرادة، وإلى جانب النفط حكمة.
وهل ينبغي التذكير بالصراع الرهيب مع الطبيعة على الدوام؟ علاوة على أن الثروة التي هي نعمة في معظم الأحيان، قد تكون نقمة في بعض الحالات. والعواصف التي تعرضت لها السعودية على مدى تاريخها الحديث - بسبب ثروتها تحديداً - كانت على الدوام أعتى واصعب من المناخ المتقلب، الحار والقاتل.
ومع ذلك ها هي المملكة في الذكرى المئويّة لتأسيسها واحدة من اقوى الأمم. وها هي تبدو وقد حققت الحلم، حلم مؤسسها عبدالعزيز بمدينتها الكبرى جدة، بابل جديدة صاخبة، حية، تقاوم المناخ والعواصف.
"مقاومة المناخ والعواصف تبدو لي أحياناً أقل صعوبة من مقاومة حب الناس لكرة القدم"، يقول الناقد الدكتور سعيد السريحي وهو يقود سيارته في اتجاه نادي جدة الادبي الثقافي، حيث ستقدّم مداخلة مهمة كما يبدو. "مهمة في قدرتها على اثارة السجال" يستدرك السريحي الذي صار خلال العقد الأخير من العلامات البارزة في الحياة الثقافية السعودية، وبات معروفاً في العالم العربي على نطاق واسع.
مفاجأة النادي الأدبي
الجلسة في نادي جدة الادبي بسيطة، وتبدأ عادية هادئة: مجموعة من المثقفين الاكاديميين لمعظمهم اسماء تعرفها من قبل حضورك. الثياب التقليدية طاغية كليّاً. هنا قد تغيب "الكوزموبوليتية" عن الجلسة، ولكن... إلى حين. وكل شيء يبدأ بالسلامات التقليدية. يتحلق الحاضرون حول طاولة فاخرة تحيط بها الكتب من كل جانب. وعلى الطاولة أوراق وأقلام ومياه شرب، وعدد لا بأس به من الهواتف النقالة.
الجلسة مخصصة للاستماع الى مداخلة يلقيها مثقف ورئىس بلدية هو ابراهيم البليهي، حول الثقافات والبنى الذهنية. وتقوم أطروحته بشكل أساسي على وجود علاقة أساسية، في الحضارة الغربية، بين الناس والفلسفة، في حين أن هذه العلاقة غير متوافرة في حضارتنا العربية. يتكلم الرجل مدة ثلث ساعة، يحدد افكاره ويعرضها ثم يعمقها، معتقداً وهو يختم بأنه ألقى درساً مفيداً. واذا بالمناقشات تحمل إلينا المفاجأة: صخب وكلام كبير. مداخلات ثاقبة، تهدأ حينا وتضعف احيانا. وعلى امتداد المداخلات، تتطاير في فضاء القاعة أسماء رولان بارت وكارل ماركس وهيغل وكانت وطه حسين الذي يتمّ تناول كتابه "في الشعر الجاهلي" ونجيب محفوظ وآخرين... عالم من الثقافة. عالم من السجال، ودقة في الرد. فوكوياما... هانتنغتون... "أنت عنصري"... "هنا سرقتَ من ماركس"... "لو يسمعك الجابري"... "بل جورج طرابيشي".
يعلق المحاضر على كلّ ردّ، ماضياً في توضيح أفكاره وتعميق تحليله. ساعتان، ولا يضجر الحاضرون. يخيل اليك فجأة انك في أحد مقاهي الحي اللاتيني قرب السوربون، في صميم باريس. وتنظر بدهشة: من اين للقوم كل هذه الحيوية؟ كيف تمكنوا من ان يستعرضوا كل هذا التاريخ الثقافي خلال ساعتين؟ كيف وصل كلود ليفي ستراوس وفرنان بروديل إلى هذا المكان؟ وتتساءل: هل يمكن لأية مدينة عربية ان تحتضن مثل هذا النقاش العميق والحيوي، الذي يبدو على قدر من البساطة؟ وحين تعبّر عن دهشتك الحقيقية وأنت إلى مائدة العشاء الذي يلي النقاش، يأتيك الجواب: هذه هي خصوصية نوادينا الثقافية. انها منابر للنقاش الحر المفتوح. واماكن نتعلم فيها كل يوم. البساطة تلوح على سيماء جدة وعلى سيماء مثقفيها...
حركة النوادي الادبية باتت اليوم قديمة وعريقة في امهات المدن السعودية، وتحل محل اتحاد الكتاب، متميزة بالحيوية والجرأة. ولقد اشتهر نادي جدة تحديداً لتميزه، ولكونه نافذة تطل على الفكر العالمي. ونشاط هذا النادي لا يقتصر على الجلسات والندوات، بل يمتد ليشمل اصدار العديد من الكتب والمجلات. وفي الوقت الذي تموت معظم المجلات الثقافية والفكرية على امتداد الوطن العربي وتخبو، وسط لامبالاة تامة، تنمو المجلات في السعودية، ومنها خصوصاً مجلات نادي جدة، التي تطالع قرّاءها بمضمون متميز.
في مقدم هذه المجلات "علامات في النقد" التي يرأس تحريرها عبدالفتاح ابو مدين، وتضمّ هيئتها التحريرية عبدالله الغذامي وسعيد السريحي، كما تحيط بها هيئة استشارية تضم عبدالله الشهيل، منصور الحازمي، عبدالله المعطاني ابو بكر باقادر وعابد خزاندار. هذه المجلة التي اصدرت بالامس عددها الخامس والعشرين، تبدو ناضجة وطليعية الى ابعد الحدود، وكتابها ينتمون الى شتى البلدان العربية. اما موادها فنقدية معمقة: في العدد الاخير على سبيل المثال دراسة عن محمود درويش لعلي جعفر العلاق، وأخرى عن "وصية ابي تمام للبحتري" لخليفة الوقيان، وثالثة عن "نمو اسلوبية جديدة للرواية" لمحمد بوعزة.
وليست "علامات في النقد" سوى واحدة بين حفنة من المجلات التي يصدرها نادي جدة، نذكر أيضاً: "الراوي" التي تعنى بالابداع القصصي في الجزيرة العربية، "عبقر" التي تعنى بالشعر، و"نوافذ" التي تعنى بترجمة الآداب الاجنبية... وقريباً يصدر العدد الاول من مجلة "جذور" المتخصّصة بالتراث .
رنة حداثية
واللافت في جميع هذه المجلات والدوريات تلك الرنة الحداثية المسيطرة عليها. هل معنى هذا ان التيار الحديث انتصر نهائياً؟ تطرح السؤال على سعيد السريحي فيجيب بهدوء، وبابتسامة غامضة بعض الشيء: "لست أدري ما الذي تعنيه بكلمة "انتصر"! المهم اننا موجودون ونحاول ان نقول ما لدينا. في الماضي تعرضنا للهجوم بشدّة وكثافة مركّزة. وفي احيان كثيرة كدنا نستسلم لليأس. أما اليوم فيبدو ان من كانوا مهووسين بنا، تشغلهم هموم اخرى، لذلك يفضلون تجاهلنا". ما هي هذه الهموم الأخرى؟ "الفضائيات"، يجيب السريحي، "حتى لو قلت لك ان الفضائيات عدو لنا، سأضيف انها في الوقت نفسه انقذتنا، لأنها شغلت عنا خصومنا".
والفضائيات تثير نوعين من الغضب. النوع الاول يتعلق بسطحية برامجها وقدرتها الفائقة على السيطرة على كل بيت وإفساد الذوق العام. والنوع الثاني يتعلق بما فيها من "اباحية" حسب تعبير أحد خصومها. انها الثورة الجديدة يقول سعيد السريحي ضاحكاً، ومن يريد ان يهتم بها، "لن يجد بعد ذلك وقتاً لحفنة من المثقفين المنشغلين ب "همومهم الفكرية العتيقة" حسب بعض منتقدينا".
عبده خال، القاص الذي يعتبر من أكثر أبناء جيله حضوراً وموهبة، يوافق على هذا الكلام. لكنه يضيف ان المعركة كانت، قبل عشر سنوات، بين الحداثة وخصوم يطالبون باحراقها، أما اليوم فصارت معركة داخلية."استقرت الحداثة على جماعة من الناس، نمت وترعرعت بينهم، وظلت محصورة بهم. ولم يلاحظ هؤلاء نشوء جيل جديد. وهكذا بعد سنوات التضامن والدهشة الأولى، بدأت الأسئلة داخل الحركة نفسها. وبدأ الصراع بين من وقفوا عند حدود الشكلانية، من دون اي اعتبار للمضمون الاجتماعي، ومن تجاوزوها ليُدخلوا البعد الاجتماعي في صلب مشروعهم". ولكن هل اثرت هذه الحركة النقدية الحداثية على المبدعين أنفسهم؟ هل انعكست تطوراً على نتاجهم الابداعي؟ "لا اعتقد، يجيب خال: "كل ما في الامر ان عمل الحداثيين جعلنا على تماسٍ أكثر صحةً بالعالم الخارجي".
عبده خال كان سعيداً في ذلك اليوم، إذ تلقى النسخة الاولى من رواية جديدة له طبعت في بيروت عن منشورات "دار الساقي" بعنوان "مدن تأكل العشب". ورأى في "اصدار هذه الدار المرموقة لروايتي نوعاً من التكريس العربي".
وهذا "التكريس العربي" هو ما يتطلع اليه اليوم عدد كبير من المبدعين الشبان في السعودية. ما يريده هؤلاء هو ان يعاملوا كمبدعين عرب، لا ان تلصق بهم تلك "الخصوصية السعودية" كما يوضح الشاعر هاشم الجحدلي، وهو من الاصوات الشابة المثيرة للاهتمام في الشعر السعودي الحديث. فمعيار "الخصوصية السعودية"، يؤدّي برأيه إلى أمر من اثنين: "إما أن يجاملنا عالم الثقافة العربية لكوننا شعراء سعوديين، من دون اي اعتبار لمستوى ابداعنا، واما أن يرفضنا ويتعامل معنا بازدراء للسبب نفسه"، ويضيف الجحدلي بحدّة: "نريد أن نعامل كمبدعين أفراد لا ك "قطيع". دعوا ابداعنا يقول هويتنا، ودعونا من تلك النظرة التي تجعل هويتنا هي المحددة لقيمة ابداعنا".
والصرخة نفسها نسمعها في كل مكان. إنها الشكوى الطالعة من أفئدة قوم سئموا ان يتمّ التعامل معهم انطلاقاً من أحكام مسبقة. وهي الشكوى نفسها التي كنا نسمعها قبل عشر سنوات.
نحن والآخرون
ويقول لك هذا الشاعر بكل بساطة، ومن دون اي قدر من تفخيم الذات، إنه يعتبر بدايته الحقيقية حين كان لا يزال يافعاً ونشر له أدونيس عشر قصائد في أحد أعداد "مواقف". "لقد عامل أدونيس شعري بمعزل عن نظرته إلي. وعندما يعاملنا سائر اخواننا وزملائنا على الشاكلة نفسها سنشعر بالاطمئنان والأمان". هاشم الجحدلي، في حديثه، في إهتماماته، في نظرته المندهشة، شاعر عربي شاب، وهو لا يريد أن يكون أكثر من ذلك. وصرخته الشعرية تؤكّد هذا الموقع، وتجعله وريثاً لذلك التيار الذي نشأ في الثمانينات رابطاً الحداثة بالتصوف، مشتغلاً على اللغة، كفضاء للذات.
يقول الجحدلي في واحدة من قصائده الجديدة: "تنامى علي وأوقف ظلي/ وجهي/ رج يدي، وأوقفني عنوة في سكون الدهاليز، والغيب يحجب عن ناظري حكمة النار والماء،/ والغائبون عن الملح يختصمون على قطرة الحلم حيث تذوب على وردة أخرجت فرحتي عن سواء السبيل،/ وسدت دروب الخلاص علي". غير أن حماسة الجحدلي للشعر تتناقض، بالطبع، مع المهمة الصحافية الموكلة إليه في صحيفة عكاظ، حيث كلف برئاسة قسم المحليات! أمام هذا التناقض يبتسم عبده خال، وهو يحمل روايته الجديدة متأملاً غلافها بفرح، ويقول: "ليست وضعية الجحدلي استثنائية. أنا مثلاً، هل قرأت مقالي الأخير؟". تناولت المقال وقرأته، إنه يتساءل لماذا لا تكون هناك خادمات محليات بدل الخادمات الأجنبيات، ويكتب: "في أي مجتمع توجد طبقات يساند بعضها بعضاً، وتؤدي كل منها خدمة للطبقة الأخرى. ونحن لا نجلس خارج هذا القانون، فهناك نساء في حاجة إلى العمل، حتى ولو كان هذا العمل أن تصبح خادمة مقابل مبلغ يحقق لها الكفاف من العيش".
في شكله الخارجي، يبدو هذا الكلام وكأنه يسير ضمن خط "السعودة" المسيطر حالياً على سوق العمل والتوظيف، والذي تفرد له الصحف السعودية صفحات يومياً. لكنه يستبطن في أعماقه شيئاً آخر، أكثر أهمية على الصعيد الأنطولوجي. يقول إن الأوان قد آن لكي يُعتبر السعوديون شعباً ككل شعوب الأرض، وأن يعامل كشعب له أغنياؤه وفقراؤه، كتابه وقراؤه، بسطاؤه وتجاره الكبار...
وقال ل "الوسط" أستاذ علم اجتماع فضّل عدم ذكر اسمه: "الآخرون هم الذين أعطوا عنا تلك الصورة الكاريكاتوريّة، صورة شعب كامل ينام على ثروات لا تنضب، ويشتري العالم كله بثرواته. هذه الصورة غير صحيحة، وقد آن الأوان لأن نعامل كشعب له حسناته وسيئاته، أفراحه وأحزانه. وفي اعتقادي أن هذه أكبر هدية يمكن تقديمها كتحيّة لذكرى الملك الراحل عبدالعزيز ابن سعود في مئوية تأسيس المملكة. فالملك وصحبه حين قاموا بثورتهم وأسسوا هذا الوطن، كانوا فقراء مقاتلين طموحين يريدون أن يعيشوا ويوحدوا بلادهم ويدخلوا العصر. اليوم بعد مئة عام، ها نحن دخلنا العصر. لكننا نريد أن نظهر على حقيقتنا، لا تبعاً للصورة التي يرسمها لنا الآخرون"
العدد المقبل: الرياض وابداعاتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.