يعتبر الكرملين توقيع "الوثيقة الأساسية" بين الحلف الأطلسي وروسيا في باريس أكبر انجاز تحققه موسكو في ميدان السياسة الخارجية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. واختلفت الآراء في تفسير الوثيقة، لكن الخبراء السياسيين يعتقدون بأن 27 أيار مايو، اليوم الذي وقعت فيه الوثيقة في باريس سيدخل التاريخ، لأنه اليوم الذي رسم النظام الأوروبي الجديد. وبموجب الوثيقة الأساسية لم تعد روسيا والأطلسي يعتبران بعضهما البعض خصمين محتملين، وهما يسعيان من الآن فصاعداً الى تجاوز المواجهة السابقة نهائياً وتطوير التعاون والثقة المتبادلة. ويشمل ميدان التعاون توافر الأمن والاستقرار في أوروبا ودرء الخلافات بوسائل الديبلوماسية الوقائية والقيام بعمليات مشتركة لحفظ السلام ومشاركة روسيا في مجلس التعاون الأوروبي الأطلسي وفي برنامج "التعاون من أجل السلام"، وتبادل المعلومات في ما يتعلق بالخطط العسكرية والاستراتيجية والموازنة الدفاعية، ومراقبة التسلح وعدم نشر سلاح الإبادة الجماعية وتوفير مستلزمات سلامة الطيران المدني وازالة آثار الكوارث الطبيعية وتحويل الصناعات العسكرية الى صناعات مدنية ومكافحة الارهاب والمخدرات. وسيصار الى تشكيل مجلس مشترك للتشاور واتخاذ القرارات، ولا يفترض في تشكيل هذا المجلس أن يكون للطرفين حق النقض على قرارات روسيا وأعضاء حلف الأطلسي، مما يهدد سيادة تلك الدول. وسيعقد المجلس جلساته على مستويات عدة: مرتين في العام على مستوى وزراء الخارجية ووزراء الدفاع، ومرة في الشهر على مستوى السفراء، وما لا يقل عن مرتين في العام على مستوى رؤساء الأركان العامة. وتتخذ كل قرارات المجلس بالاجماع. ومعروف ان روسيا اعترضت بصورة قاطعة على توسيع الأطلسي باتجاه الشرق، ولا تزال على موقفها بعد توقيع الوثيقة، لأنها تعتبر ان توسيع الأطلسي خطأ سياسي جسيم، بل انها ضد استمرار الحلف، فأين نجحت موسكو إذا كان الأطلسي لا يزال مستمراً؟ كان الكثيرون في الغرب يعتقدون منذ البداية بأن أي اتفاق مع روسيا يجب ألا يتجاوز اطار البلاغات الصرف. وطرحت صيغ عدة منها الميثاق والبيان والمذكرة والوثيقة المغفلة من التواقيع. لكن موسكو أصرت على صيغة أخرى للتسمية هي المعاهدة. إلا أن المعاهدة، مهما كانت، انما تتطلب ابراماً من برلمانات دول الأطلسي ال 16. ولو اعترض برلمان اللوكسمبورغ مثلاً أو غيره على المعاهدة لتبددت الجهود الديبلوماسية الكبيرة التي بذلت حتى الآن. وعثر على حل وسط هو "الوثيقة" التي لها صفة الزامية في اعتقاد موسكو. ومن الجوانب المهمة جداً في الاتفاقية ما يتعلق بالأسلحة النووية الذي يستجيب لمصالح روسيا. فالأطلسي يعلن بأنه لا ينوي ولا يخطط لتوزيع السلاح النووي وخزنه في أراضي الأعضاء الجدد، وليس ثمة ما يدعوه الى القيام بذلك. وليس المقصود فقط حظر استحداث مواقع جديدة لهذا الغرض، بل وكذلك عدم استخدام المواقع القديمة المتبقية من عهد حلف وارسو. وحصلت موسكو على الكثير في ما يتعلق بالقوات المسلحة العادية وبإعادة النظر في المعاهدة المتعلقة بتلك القوات في أوروبا. وشطبت من نص الوثيقة الاشارة الى القيود الجانبية التي حددت نشاط روسيا طوال سنين عدة، بما في ذلك نشاطها ابان الحرب الشيشانية. ونزولاً عند رغبة موسكو أبدى حلف الأطلسي موافقته على الانتقال من معيار "الأحجام القصوى" الأطلسية للأسلحة العادية الى أحجامها الوطنية. وتمكنت موسكو أخيراً من جعل الأطلسي يقر بأنه سيواصل التحول نحو توسيع الوظائف السياسية ووظائف حفظ السلام. وسيعاد النظر في المذهب الاستراتيجي للحلف. فلا يجوز تعزيز قوات الأطلسي المقاتلة إلا في ثلاث حالات: 1- إذا حدث عدوان على أراضي أحد أعضائه. 2- إذا اقتضت الضرورة اجراء عمليات لحفظ السلام. 3- إذا دعت الحاجة الى اجراء مناورات. وفي حديث الى "الوسط" أكد الخبير الاستراتيجي الروسي مدير معهد الولاياتالمتحدة وكندا في موسكو البروفيسور سرجي روغوف ان روسيا نجحت في جعل الأطلسي يوافق على تنفيذ 95 في المئة من شروطها المتعلقة بالأسلحة النووية. وفي ما يتعلق بتقدم الأسلحة العادية للحلف صوب الحدود الروسية فقد أمكن، حسب روغوف، تنفيذ 70 في المئة من مطالب موسكو. وتساءل وزير الخارجية الروسي يفغيني بريماكوف اذا كان هناك من موجب للحديث عن غالب ومغلوب؟ وهل من ضرورة لحساب النقاط؟ واعتبر ان "الغلبة للعقل السليم، وفاز الجميع". وكان بريماكوف لعب دوراً مهماً في الاتفاق بين روسيا والأطلسي. وظل حتى النهاية معارضاً صلباً لتوسيع الحلف. ولم يكن موقفه هذا جديداً، فقد دأب عليه منذ أن ترأس دائرة الاستخبارات الخارجية في روسيا. وكان نشر في العام 1992 تقريراً تحليلياً لدائرة الاستخبارات الخارجية حذر فيه من مغبة توسيع الأطلسي بالنسبة الى روسيا. وجاء في التقرير "ان وضعاً جيوسياسياً جديداً ينشأ في المنطقة، هو وضع غير ملائم لروسيا اطلاقاً. لأن تحريك أطراف حلف شمال الأطلسي صوب الحدود الروسية يتطلب أحد أمرين، اما تعزيز روسيا عسكرياً، الأمر الذي لا يستجيب لمهمات التنمية الاقتصادية، واما الموافقة على الاعوجاج واللاتناسق في ميدان الأمن، الأمر الذي يتعارض أيضاً مع مصالح روسيا". وعلم أخيراً ان بريماكوف نشر تقريره هذا بعدما عرضه على يلتسن، عندما كان وزير خارجيته أندريه كوزيريف، خلافاً لرئيسه، يؤيد في الواقع توسيع الأطلسي من دون قيد أو شرط. وكانت مراكز الضغط الموالية للغرب ولحلف الأطلسي في الأوساط السياسية الروسية تنادي عموماً بانضمام روسيا الى الحلف، فيما يعتقد بريماكوف ان تلك الدعوة كانت مكيدة للإيقاع بالكرملين. ويضيف بريماكوف: "لو قدمنا طلب الانتساب الى الأطلسي لجاءت النهاية بسيطة للغاية. كانوا سيقبلون كل من يريدونهم، بينما يضعون طلب روسيا على الرف. ويتعين على الأطلسي، حسب ميثاقه، ان يوجه دعوة للانتساب، أما أنا فكنت واثقاً أن دعوة كهذه لن توجه الى روسيا رسمياً. وكنت فاتحت زملائي وزيري الخارجية الفرنسي والألماني وغيرهما. وكلهم يدركون ان انضمام روسيا الى الأطلسي يدمر الحلف تماماً. فهو والحال هذه يجب أن يضمن أمن روسيا، هذا البلد الاوراسي المترامي الأطراف. وليس ذلك وارداً في مخططات الحلف. فهو يفتت شواطئه ويقوده في الواقع الى حافة النهاية". لعبة بريماكوف وفي سياق المحادثات مع الأطلسي لعب بريماكوف لعبته المضادة. اقترح توسيع الأطلسي بدءاً بقبول روسيا في عضويته، وبعد ذلك فقط ينظر في قبول أعضاء جدد. وقال بريماكوف: "يحق لروسيا، على أية حال، الا تقف في طابور المنتظرين. قولوا، مثلاً، انكم مستعدون لقبول روسيا بعد عشر سنوات في عضوية الأطلسي بعد تحويله وتكييفه مع الواقع الجديد. وحتى ذلك الحين تمتنعون عن قبول أي عضو آخر". لكنهم قابلوا اقتراح بريماكوف بابتسامة، على حد قوله. ولم يكن لدى موسكو مجال واسع للمناورة الديبلوماسية. فمسألة توسيع الأطلسي في حكم المنتهية. ومنذ بداية المحادثات قال وزير الخارجية الأميركي السابق وارن كريستوفر لوزير خارجية روسيا: "ستضطرون للنوم مع قنفذ". وتذكر بريماكوف هذا الكلام وعقّب مازحاً: "قلت له: لا أفضل النوم مع قنفذ. وعلى رغم كونه الآن بلا أشواك فالنوم معه ليس مدعاة للارتياح". وعلمت "الوسط" من مصادر مطلعة ان الخارجية الروسية لم تكن راغبة في تعجيل الاتفاق مع الأطلسي. فهي تعتقد بأن الوقت يتسع للأخذ والرد. فقبول اعضاء في الأطلسي يبدأ نهائياً في العام 1999 وليس قبله. ولا مفر من وقوع مشاكل في سياق تنفيذ مشروع توسيع الحلف. وقد باتت أعراض تلك المشاكل واضحة للعيان. ومنها مسألة الأولوية في القبول، التي تقتضي تقسيم البلدان دولاً من "الصنف الأول" وأخرى من "الصنف الثاني". وهناك الجانب المالي من العضوية، وهو يتلخص في المبلغ الضخم اللازم لإعادة تسليح الأعضاء الجدد. إلا ان يلتسن كان شديد الرغبة في انهاء قضية الأطلسي التي تقف حجر عثرة في علاقاته مع الغرب. فهو طالما بدا متشوقاً الى دخول التاريخ بصفة صانع للسلام يشارك في قمة باريس. فهو بالذات الذي حدد موعد توقيع الوثيقة الأساسية في 27 أيار مايو، واضعاً بذلك توقيتاً صارماً أمام الديبلوماسية الروسية وأمام بريماكوف شخصياً. الا ان الخبراء يعتقدون بأن "القنفذ" الأطلسي غارق في الإبر والأشواك. ففي رأي الجنرال ليونيد ايفاشوف أحد مسؤولي وزارة الدفاع الروسية، يشكل تناسب القوات المسلحة واحداً الى ثلاثة في مصلحة الأطلسي. وفي مقدمة الدول المرشحة للانضمام اليه المجر وبولونيا وتشيكيا. وتتألف قواتها المسلحة من 14 فرقة. فيرتفع عدد فرق الأطلسي من 48 إلى 62 فرقة. وستزداد قوات الأطلسي الجوية بنسبة 17 في المئة، كما ستتعزز قوات الدفاع الجوي من خلال التشكيلات الصاروخية والقوات الجوية في الدول التي ستنتمي الى الحلف. وسيحصل حلف الأطلسي على 283 مطاراً في أراضي المجر وبولونيا وتشيكيا. وفي حديث الى "الوسط" قال المحلل السياسي آندرنك ميغرانيان: "التزم حلف الأطلسي بأنه ليست لديه التزامات تجاه روسيا. فالوثيقة التي وقعت تفرد مكانة مزرية لروسيا في أوروبا. كل ما تفعله انها تطيل التوهم بأن الغرب يقيم لنا اعتباراً، فيما يحصل هو على الشيء الرئيسي، اي موافقة روسيا رسمياً على توسيع الناتو". ويرى ميغرانيان انه كان من الأفضل لروسيا عدم توقيع الوثيقة لتحتفظ بحرية التصرف. ويعلن خصوم الأطلسي ان الأفضل لروسيا ان تشكل منظومة أمنية خاصة بها. وقد تمت خطوات في هذا الاتجاه. ونعني الاتحاد مع بيلوروسيا، وتمتين العلاقات مع الصين والهند وايران وصياغة النظرية الجديدة للأمن القومي التي لا تستبعد ان تكون روسيا البادئة باستخدام السلاح النووي. وقد اضطر بريماكوف ويلتسن الى تخفيف حدة العداء للأطلسي ومراعاة تلك الأمزجة. فبريماكوف يعيد ويكرر ان روسيا لن تتخلى عن موقفها السلبي ازاء مخططات توسيع الأطلسي، لكن الاتفاقية الموقعة هي أفضل مخرج من المأزق الحالي. وعاهد وزير الخارجية الروسي المعارضة بأن روسيا ستعيد النظر في مجمل العلاقات مع الحلف فيما لو انضمت اليه أقطار البلطيق. لكنه استدرك قائلاً: "الا ان موسكو لن ترد بالشكل الذي رد به الاتحاد السوفياتي على الأحداث في تشيكوسلوفاكيا في العام 1968". ويحذر بريماكوف: "إذا تعرضنا الى عدوان أو إذا عجزنا عن صد هذا العدوان بسبب التقليص الجاري في قواتنا المسلحة العادية فاننا نحتفظ بحقنا في المبادأة باستخدام السلاح النووي. ولا أرى في ذلك شططاً أو خطأ". ولكي يهدئ يلتسن من روع خصوم الأطلسي في البرلمان الروسي اقترح على النواب ان يستفيدوا من آلية الاستدراكات. فبوسع مجلس النواب، على حد قوله، ان يحدد الملابسات والمواقف التي يعتبر فيها الاتفاق مع الأطلسي لاغياً. وهكذا فالأشواك كثيرة في ورود الفوز الذي سجله يلتسن في باريس .