شنت روسيا هجمة ديبلوماسية واسعة على مخططات توسيع حلف شمال الأطلسي نحو الحدود الروسية الغربية، شاركت فيها نخبة الكرملين. فرئيس الوزراء فيكتور تشيرنوميردين بحث في المشكلة أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة. وتوجه أناتولي تشوبايس مدير ديوان رئاسة الجمهورية للغرض نفسه إلى الندوة الاقتصادية الدولية في دافوس. واجتمع وزير الخارجية يفغيني بريماكوف مع خافير سولانا السكرتير العام لحلف الأطلسي، وسيلتقي مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية، وأثناء مقابلته الرئيس جاك شيراك أخيراً ناشد الرئيس بوريس يلتسن نظيره الفرنسي أن يؤيد موقف روسيا، وهو يأمل أن يجد وسيلة للتفاهم مع الرئيس بيل كلينتون بهذا الخصوص. وكان تقرر أن يتم اللقاء بينهما في هلسنكي في 19 - 21 الشهر المقبل لأن حالة يلتسن الصحية لا تمكنه من السفر إلى واشنطن بالطائرة كما جرى الاتفاق عليه سابقاً. ومعروف أن الحلف الأطلسي سيتخذ قراره بقبول أعضاء جدد من بلدان أوروبا الشرقية مطلع الصيف المقبل، وفي مقدمة تلك البلدان بولونيا والمجر وتشيكيا. ويحتمل أن يتم قبول بلدان أخرى من أعضاء حلف وارسو المنحل. وفي العام 1999 يتوقع ان تغدو تلك الدول اعضاء في الأطلسي بكامل الحقوق. وتسعى بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة مثل ليتوانيا ولاتفيا واستونيا إلى الانضمام إلى الحلف. مخاوف روسيا ولا بد أن يثير ذلك قلق روسيا ويدفعها إلى طرح حججها المعروفة ضد توسيع الأطلسي، وهي تتلخص في النقاط الآتية: أولاً، يجري توسيع الأطلسي في وقت انتهت فيه، حسب الظاهر، سياسة الأحلاف. وترى روسيا ان هذه السياسة يجب أن تمضي من دون رجعة. ثانياً، بعد اختفاء خصوم الأطلسي الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو تبدل الوضع الجيوستراتيجي جذرياً في أوروبا والعالم. إذ لا يهدد أحد البلدان الغربية. ففي نهاية العام 1993 سحبت روسيا من أوروبا الشرقية ومن أقرب الجمهوريات السوفياتية السابقة حوالى 640 ألف عسكري وأكثر من 30 ألف دبابة ومدرعة و9 آلاف راجمة مدفعية وأكثر من 4 آلاف طائرة ومروحية و46 فرقة عسكرية و64 لواء. وانسحبت تلك القوات من منطقة شاسعة تشمل المانيا وتشيكيا وسلوفاكيا والمجر وبولونيا ومنغوليا وليتوانيا ولاتفيا واستونيا وكوبا. إضافة إلى ذلك، أصبحت القوات الروسية، باعتراف وزير الدفاع ايغور روديونوف، ضعيفة واهنة "بشكل فظيع". وفي رسالة بعثها الوزير إلى الرئيس يلتسن حذر من أن روسيا "ستفقد قدرتها الدفاعية نهائياً" في العام 2003 إذا استمر نقص التمويل على حاله. وفي هذه الظروف يشكل اقتراب آلة الأطلسي الحربية من حدود روسيا الغربية تهديداً مباشراً لأمنها. ثالثاً، تعتبر روسيا نفسها مخدوعة. ففي حينه وعدت الولاياتالمتحدةوالمانيا الغربية، حسب شهادة جاك ميتلوك السفير الأميركي السابق في موسكو، بعدم توسيع الأطلسي بعد توحيد المانيا، إذ يقول السفير الأميركي: "كنت شاهداً على ذلك. وقد خدعنا الروس". رابعاً، تحذر سلطات الكرملين من أن توسيع الأطلسي يمكن ان يثير رد فعل عاصفاً داخل روسيا قد يدفعها إلى التخلي عن الاصلاحات والعودة إلى النظام الشيوعي. واللافت أن وزير الخارجية الروسي بريماكوف لعب دوراً كبيراً في صياغة حجج موسكو هذه. وكانت الاستخبارات الخارجية التي ترأسها في حينه أقدمت العام 1992 على خطوة غير مألوفة من خلال نشر رسالة مفتوحة كتبها محللو الاستخبارات عن العواقب المحتملة التي يمكن أن يسببها توسيع الأطلسي بالنسبة إلى روسيا. وكانت تلك سابقة خطيرة. فالاستخبارات الخارجية خاضت صراعاً سافراً ضد وزارة الخارجية الروسية. ومعروف ان وزير الخارجية السابق اندريه كوزيريف لم يعترض يومها على جهود الأطلسي. وجاء في الرسالة المفتوحة: "إن تقريب قوات حلف شمال الأطلسي من حدود روسيا يتطلب أحد أمرين، فإما تقويتها عسكرياً، الأمر الذي لا يتجاوب مع مهمات التنمية الاقتصادية، وإما الموافقة على الاخلال بالتوازن الأمني، الأمر الذي يتعارض أيضاً مع مصالح روسيا". واستنتجت دائرة الاستخبارات الروسية أن البلد يواجه وضعاً جيوسياسياً جديداً غير ملائم له على الاطلاق. وقال ل "الوسط" الليفتنانت جنرال فاليري روزانوف مدير الإدارة التحليلية للاستخبارات الخارجية الروسية وأحد كاتبي الرسالة: "إن ذلك بالنسبة إلينا ليس مجرد موقف من أحد الأنظمة أو الشبكات الأمنية. إنه مسألة خيار تاريخي، فإذا شعرت روسيا، مع سائر بلدان رابطة الدول المستقلة، بأنها جزء من أوروبا فسيكون لها موقف يختلف عن موقفها فيما لو ظلت خارج إطار الأطلسي ولم يكن لها في صنع قرارات ضمان الأمن الأوروبية ذلك الصوت الذي ستتمتع به حتى أصغر بلدان أوروبا الشرقية فيما لو انضمت إلى الحلف". فهل تستعد روسيا لعمليات عسكرية ضد أوروبا الشرقية؟ وهل هي قادرة عموماً على عمل كهذا؟ ويرد روزانوف على ذلك قائلاً: تقديرات الخبراء المستقلين وخبراء الأطلسي نفسه تفيد أن القوات المسلحة الروسية بحالتها الراهنة عاجزة عن القيام بهذه المهمة في المستقبل المنظور. ثم ان مهمة كهذه كانت في الماضي مرتبطة بمصالح نابعة من الايديولوجية السائدة. أما الآن فليس لها ما تستند إليه على أرض الواقع. الفقراء يدفعون ويتساءل الجنرال روزانوف في حديثه إلى "الوسط": "ما الغرض من انفاق مبالغ طائلة بعد انتهاء الحرب الباردة وغياب نظام الحلفين على تطوير البنى العسكرية وإعادة تسليحها؟ لا شك أنها مبالغ ضخمة، مع أنها أقل مما في السابق، لكنها ليست من جيوب الأقطار الغربية وحدها. إن أموال القسم الأكثر فقراً في أوروبا الشرقية ستهدر في الميدان العسكري غير الانتاجي خلافاً لمصلحة شعوبها. وحتى إذا تم ذلك على سبيل الاقتراض والتسليف، فإن الأجيال المقبلة ستدفع الثمن. ويقول روزانوف إنه على يقين راسخ بأن الأمن في أوروبا لن يتعزز من خلال توسيع الأطلسي باتجاه الشرق. كل ما في الأمر ان التصور الفعلي عن الأمن يتعرض للتشويه طالما أن خط المواجهة يتزحزح. فلو اندلعت الحرب فرضاً فإن لهيب السلاح النووي وغيره من أصناف الأسلحة سيلتهم كل شيء، روسيا وأوروبا معاً. ويرى روزانوف أن الأهم بالنسبة إلى أوروبا، سواء الغربية أم الشرقية أم الموحدة، هو عامل العلاقات الودية مع روسيا وليس المواجهة. ولعل العمالة الاضافية المترتبة على تطوير الهياكل والبنى الحربية للحلف الأطلسي وتحديثها وإعادة تسليحها تتسم بأهمية معينة بالنسبة إلى الأوروبيين الغربيين. إلا أن الأسواق التي تفتح أبوابها محدودة جداً، حسب اعتقاد روزانوف. وحتى تلك الأسواق الهزيلة عرضة "للاختطاف" من جانب الأميركيين الذين يحاولون اغراقها بآلياتهم المتنوعة، بما فيها الأسلحة القديمة. وفي رأي خبير دائرة الاستخبارات الخارجية الروسية روزانوف ان توسيع الأطلسي انعكاس لاسقاطات قانون التكاثر البيروقراطي. فالمنظمة العسكرية للحلف تجهد لإثبات ضرورة وجودها وتبحث عن حجج ومبررات لها، وتقاوم التحول الخطير الجاري في داخلها. ومن جهة أخرى، تجد الولاياتالمتحدة مصلحة في الأطلسي، فهي تعتبره إحدى العتلات والهيكليات اللازمة لتنفيذ استراتيجية الهيمنة العالمية. ولكن ماذا تريد روسيا؟ وأي حل وسط يرضيها للمساومة مع الأطلسي؟ تصر روسيا على أن يكون لأية اتفاقية أو أي بيان مشترك مع الأطلسي فعل القانون، وهي، هنا، تعلق آمالها على باريس وبون. وكانت موسكو أعربت عن ارتياحها لدعوة الرئيس جاك شيراك إلى عقد اجتماع في نيسان ابريل المقبل تحضره الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا لدرس صياغة علاقات جديدة مع الأطلسي. إلا أن الروس، كما قال ل "الوسط" نيكولاي افاناسيفسكي نائب وزير الخارجية الروسي، لن يغيروا موقفهم السلبي من حلف الأطلسي. مع أن المسؤولين الروس يتعرضون، على حد تعبيره، لهجمات من الجناحين. "فالبعض يؤكد اننا ضعفاء ويتعين علينا ان نستسلم وإلا سنجد أنفسنا في عزلة، في حين يرى آخرون أن روسيا بدأت تسلم مواقعها، ولا بد لها ان تتدارك الأمر وتسير ضد الجميع بعكس التيار". ويرى الديبلوماسي الروسي ان "هذين الموقفين المتطرفين بعيدان عن الواقع. فقد أفلحنا في جعل الآخرين يتفهمون دواعي قلقنا ويعترفون بأحقيته". ويضيف افاناسيفسكي ان أول ما حققته موسكو هو تأكيد بلدان الأطلسي استعدادها للعمل على وضع نموذج جديد للأمن الأوروبي. فقد سجلت قمة لشبونة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي مبدأ مهماً يقول إنه "ليس لأية دولة أو منظمة أو كتلة أن تتحمل المسؤولية الأولى عن دعم السلام والاستقرار في أوروبا ولا يحق لها أن تعتبر جزءاً ما من المنطقة مجالاً لنفوذها"، ما يعني أن الأطلسي لا يمكن ان يضطلع بدور المقرر الأول في الشؤون الأوروبية. وثمة نتيجة جدية أخرى تحققت في هذا المجال وهي الاتفاق على إعادة النظر في معاهدة الحد من الأسلحة العادية في أوروبا، الأمر الذي تصر عليه روسيا. وإضافة إلى ذلك، ينتظر تجميد التناسب الحالي بين القوات المسلحة في أوروبا خلال فترة المحادثات بين روسيا والأطلسي. ويعيد افاناسيفسكي إلى الأذهان ان مجلس حلف الأطلسي أعلن في 10 كانون الأول ديسمبر الماضي أنه لا يبيت خططاً أو نوايا أو دوافع لتوزيع السلاح النووي في أماكن لا يتواجد فيها حالياً، وأنه لا يرى موجباً للقيام بذلك في المستقبل. بديهي ان ذلك لا يبدد مخاوف روسيا بالكامل، لكنه على أية حال خطوة في الاتجاه الصحيح باعتقاد نائب وزير الخارجية الروسي. مما يحث موسكو على الدخول في حوار مع الناتو دون ان تتراجع عن موقفها. ويقول أفاناسيفسكي: "نحن نرى المجال واسعاً للتعاون بين روسيا والأطلسي على شتى الأصعدة: تسوية الأزمات في أوروبا، عمليات قوات حفظ السلام، انشاء شبكات الدفاع التكتيكي المضاد للصواريخ في القارة الأوروبية، التعاون في ميدان الأسلحة والآليات". إلا أن العلاقات بين روسيا والناتو ليست سوى جزء من قضية الأمن الأوروبية. والمهم هو بنيانه وهيكله العام. فهل تفلح أوروبا في بناء نظام موحد تتمتع جميع البلدان في ظله بأمن متساو وتتطور بحرية؟