نال الكاتب المغربي اليهودي عمران المليح جائزة الاستحقاق الوطني التي تمنحها وزارة الثقافة المغربية. وهذا التقدير في محله، وان كان جاء متأخراً بعض الشيء. فالكاتب الثمانيني احد المثقفين العرب اليهود الذين رفضوا الاستجابة للدعوة الصهيونية الهادفة الى اقتلاع اليهود من أوطانهم وحملهم الى "الأرض الموعودة"! ولا بد من التوقف ملياً عند الدور الذي لعبه وما يزال، على ساحة الأدب المغربي المعاصر، من خلال الروايات الأربع التي نشرها، وكذلك مقالاته ودراساته عن الفن التشكيلي وعن كتاب جان جينيه "أسير عاشق". أتى عمران المليح الى الكتابة متأخراً في الستين بعد تجربة طويلة في الكفاح والمقاومة من اجل الاستقلال، وبعد خبرة سياسية طويلة أوصلته الى قيادة الحزب الشيوعي المغربي في الخمسينات. مع استقلال المغرب في آذار مارس 1956. اكتشف عمران ثغرات سياسة حزبه، وثقل الدوغماتية الحائل دون استيعاب خصوصية المجتمع وتحولاته المتسارعة. عندئذ بدأ يجهر بالنقد، ثم آل به الامر الى الاستقالة والتفرغ للتدريس في الدار البيضاء. بعد ذلك، هاجر الى باريس هو وزوجته، حيث اقترب من الكتابة التي ظلت مكبوتة في نفسه طوال سنوات النضال. عندما نشر إدمون عمران المليح روايته الاولى "المجرى الثابت" 1980 - ماسبيرو، اعتبرها النقد المغربي حدثاً أدبياً لافتاً، ليس فقط لأن صاحبها أول قائد سياسي يكسر شرنقة الحزبية ليتكلم لغة متحررة، منتقدة، بل ايضاً وبالأخص، لأن شكل الرواية وكتابتها يشتملان على عناصر خصبة من شأنها ان تزحزح مفهوم الأدب السائد القريب من استنساخ الواقع وانطاقه بدلالة احادية. في "المجرى الثابت" يضع عمران مسافة استاطيقية بينه وبين ما عاشه في الطفولة والشباب والكهولة. انه لا يكتب لاحياء الماضي، وانما يحول سيرته الذاتية الى تجربة مستقلة تُعطى فيها الاسبقية لجمالية الكتابة وتعدد مستويات اللغة الفرنسية المخترقة بكلمات وتعابير عربية دارجة واسبانية. كما تحتل الذاكرة، بمعناها البروستي، في الرواية، مكانة اساسية. هكذا يتشخص الانتماء الى الوطن عبر التفاصيل المسرفة في الدقة التي يصوغها عمران في شكل شذرات وفقرات متشظية، لا تكتمل إلا من خلال مساهمة القارئ في ملء الثقوب وابتكار الشخوص والفضاءات. في مقابل الخطاب السياسي، الحزبي، القاطع والممتلئ باليقين، يلملم عمران نُتف الذاكرة وأصداء الاصوات والحيوات، ليستحضر جزءاً من الوجدان الذي دثرته غلائل النسيان. وهذه الخصائص في الكتابة والتركيب والتشكيل، ستلازم رواياته الاخرى: "إيلان أو ليل الحكي"، "ألف عام في يوم واحد"، "عودة أبو الحاكي". تتنوع الفضاءات والثيمات، لكن الكتابة تظل مشدودة الى اختياراتها الجمالية واللغوية، والى علاقتها بالذاكرة واستحضارها عن طريق الشذرية، والاستطراد، وتبطين المحكيات، لتوليد الالتباس والمفارقة، وتحطيم منطقية السرد وانتظام الازمنة... ان العشيرة اليهودية المغربية حاضرة باستمرار في نصوص عمران المليح، وهو حضور لا ينفصل عن فضاء التعايش والصداقة والتفاعل مع حياة المغاربة المسلمين. وهذا ما يقدم شهادة قوية على تلك الذاكرة المتعددة لمغرب الأمس القريب. هذه الذاكرة التي تعرضت للشرخ والتشويه على يد دعاة الصهيونية. لكن عمران المليح، في استيحائه للذاكرة وابتداعه طرائق لتشخيصها، لا يُغمض العين عن مغرب اليوم وعن مشكلاته وصراعاته. هكذا نجد في روايته "أيلان او ليل الحكي" صفحات ومشاهد تلتقط التبدلات الاجتماعية واضطراب السلوكات، واهتزاز القيم. غير انه، وهو يقترب من الماضي / الحاضر، يظل مشدوداً لأسئلة الكتابة وصعوباتها، ما يجعله يشكك في قدرته على الحكي، لأن قوة خفية تجعله لعبة في يد الحكاية بينما يتوهم انه هو خالقها. وبقدر ما يتقدم السرد ويلف في حركات حلزونية، بقدر ما يأتي صوت السارد ليُفضي بتأملاته حول حدود الكتابة. الى جانب القيمة الأدبية المتميزة لروايات إدمون عمران المليح ودراساته، هناك شخصيته الموسومة بالعذوبة والدماثة وقدرته على الاستماع الى الآخرين والتحاور معهم. وأذكر انني عندما كنت مسؤولاً في "اتحاد كتّاب المغرب"، خلال نهاية السبعينات، لم يكن عمران المليح يبخل علينا بحضوره في المؤتمرات واللقاءات الأدبية والفكرية، مشاركاً في النقاش والحوار مع الكتّاب الشباب. وهذا ما أتاح للجيل الجديد التعرف عن قرب، الى هذه الذاكرة الحية المستندة الى تكوين فلسفي متماسك والى ثقافة فنية وأدبية واسعة. وكان وما يزال في لقاءاته وندواته، حريصاً على ان يتكلم بعربية دارجة يعتبرها اللغة الأم التي تشربها منذ ولادته في مدينة آسفي. إن عمران، في نصوصه وحواراته، لا يطمح الى تقديم اجوبة. فتجربته السياسية علّمته ان التغيير لا يتم فقط من خلال التنديد والفضح واقامة المؤسسات، وإنما يمر اساساً، عبر مواجهة ما يبدو مستتراً، متلبداً في الزوايا، متحفزاً لتبديل الظاهر من دون تغيير الرؤية والحلم. من ثم، فإن ما يحصر عمران المليح على الاسهام في انجازه، من خلال الكتابة والحوار، هو صوغ اسئلة "بديلة" تنبش المسكوت عنه وتحث على الارتياب في ما يبدو واضحاً. كل ما ورثناه، وكل ما نعايشه من احداث ووقائع يستدعي التحليل والتفكيك بعيداً عن شعارات الموضة وعن المفاهيم الجاهزة التي تؤبد الاستلاب تجاه الماضي وتجاه الغرب. بل ان عمران المليح لا يرتاح الى المناهج والقراءات التي تتكئ كثيراً على المصطلحات والمنظومات الفكرية. انه اقرب الى استنطاق الذاكرة والوجدان والاحتفاء بتجربة المعيوش. والقراءة المتفاعلة، عنده، هي التي تتيح للذات القارئة ان تُغامر وترتج من خلال الانفعال مع النصوص واللوحات ومقطوعات الموسيقى. وبهذا الموقف الخالي من الأوهام، المستند الى تجربة وثقافة واسعتين، يتبوأ إدمون عمران المليح مكانة مرموقة في الثقافة المغربية الحديثة. اكثر من علامة: إنه أخ أكبر يجدد ذاكرتنا ويخصبها، من خلال نصوصه الجميلة وحضوره الأجمل. * كاتب وناقد مغربي