«إيكونوميكس»: 5.5% نمو اقتصاد السعودية «غير النفطي»    ميزانية إنفاق توسعي رغم العجز    مشروع "بلدي" لأنسنة طريق الشفا الدائري بالطائف ورفع كفاءته    الأخدود لخدمة نفسه والهلال    16 ألف موظف يتأهبون لاستقبال الحجاج بمطار "المؤسس"    احتجاجات داخل الاتحاد الأوروبي ضد العدوان الإسرائيلي على غزة    لبنان: العين على «جلسة المليار اليورو»    قوات سعودية تشارك في"إيفيس 2024″ بتركيا    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس مجلس إدارة شركة العثيم    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء صربيا بتشكيل الحكومة    15 سنة سجناً لمواطن روّج وحاز «أمفيتامين» المخدر    35 موهبة سعودية تتأهب للمنافسة على "آيسف 2024"    «المؤتمر الدولي للقادة الدينيين» يستهل أعماله بوقفة تضامنية مع شهداء غزَّة    "الداخلية" تنفذ مبادرة طريق مكة ب 7 دول    وزير الشؤون الإسلامية يدشّن مشاريع ب 212 مليون ريال في جازان    أمير المدينة يرعى حفل تخريج طلاب الجامعة الإسلامية    المناهج في المملكة تأتي مواكبة للمعايير العالمية    أمير تبوك يشيد بالخدمات الصحية والمستشفيات العسكرية    «حِمى» أصداء في سماء المملكة    «إثراء» يسرد رحلة الأفلام السعودية في 16 عاماً عبر «متحف حكاية المهرجان»    وغاب البدر    طلاب «مصنع الكوميديا» يبدؤون المرحلة التعليمية    مشوار هلالي مشرف    القادسية يعود لمكانه بين الكبار بعد ثلاثة مواسم    «أسترازينيكا» تسحب لقاح كورونا لقلة الطلب    احذروا الاحتراق الوظيفي!    ولي العهد يهنئ رئيس وزراء صربيا بمناسبة تشكيل الحكومة الجديدة برئاسته    البدء في تنفيذ 12 مشروعاً مائياً وبيئياً بقيمة 1.5 مليار بالمنطقة الشرقية    المملكة تستضيف المؤتمر الدولي لمستقبل الطيران    9 مهام للهيئة السعودية للمياه    الفيضانات تغرق مدينة بالبرازيل    «سلمان للإغاثة» ينفذ 3 مشاريع طبية تطوعية في محافظة عدن    سعود بن مشعل يكرم متميزي مبادرة منافس    انطلاق المؤتمر الوطني السادس لكليات الحاسب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل    ساعة HUAWEI WATCH FIT 3 أصبحت متوفّرة الآن للطلب المسبق    القبض على شخص لترويجه مادة الحشيش المخدر بالمنطقة الشرقية    محمد بن ناصر يقلّد اللواء الحواس رتبته الجديدة    مركز التحكيم التجاري الخليجي يطلق مبادرة "الأسبوع الخليجي الدولي للتحكيم والقانون"    فيصل بن نواف يدشّن حساب جمعية "رحمة" الأسرية على منصة X    «الشورى» يسأل «الأرصاد»: هل تتحمل البنى التحتية الهاطل المطري ؟    برعاية وزير الإعلام.. تكريم الفائزين في «ميدياثون الحج والعمرة»    مهما طلّ.. مالكوم «مالو حلّ»    محمد عبده اقتربت رحلة تعافيه من السرطان    4 أمور تجبرك على تجنب البطاطا المقلية    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي يُجري جراحة تصحيحية معقدة لعمليات سمنة سابقة لإنقاذ ثلاثيني من تبعات خطيرة    اختتام دور المجموعات للدوري السعودي الممتاز لكرة قدم الصالات في "الخبر"    بدر الحروف    مؤتمر الحماية المدنية يناقش إدارة الحشود    الأمير خالد بن سلمان يرعى تخريج الدفعة «21 دفاع جوي»    المدح المذموم    البدر والأثر.. ومحبة الناس !    تغريدتك حصانك !    ولي العهد يعزي هاتفياً رئيس دولة الإمارات    انتهاك الإنسانية    وزير الخارجية ونظيره الأردني يبحثان هاتفياً التطورات الأخيرة في قطاع غزة ومدينة رفح الفلسطينية    القيادة تعزي رئيس مجلس السيادة السوداني    الأول بارك يحتضن مواجهة الأخضر أمام الأردن    وزير الدفاع يرعى تخريج طلبة الدفاع الجوي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية الاخوين رحباني على لسان منصور رحباني . طفولة غريبة على "فوار انطلياس" 1
نشر في الحياة يوم 15 - 11 - 1993

"والدي كان أمّياً ومع ذلك كان يروي قصائد عنترة كاملة لشدة اعجابه به"
"قال عاصي للمعلمة: "أطمح أن أصير صائغاً عندما أكبر"، اما انا فقلت لها: "أطمح أن أصير تمساحاً أو حرباء".
ً "عاصي كان مبدعاً منذ الصغر اما انا فلم تكن علي في طفولتي أية اشارة الى مشروع شاعر او فنان"
"حرضتنا جدتي "غيتا" على قول الزجل وحفظ الاساطير والقصص الشعبية فزاد اتجاهنا الى الفن الشعبي وأزجاله"
منذ نصف قرن، بدأ نجمان في لبنان يسطعان بنور جديد على الفن اللبناني. بدا كأنهما جاءا عكس التيار. وما لبثا ان طبعا بصماتهما على مسيرة الفن في وطن الارز. ومنذ اكثر من ثلث قرن، لم يعد ممكناً اي كلام على الفن في لبنان والعالم العربي من دون التوقف عند عاصي ومنصور الرحباني.
ثمة جيل رافق صعودهما، وجيل آخر عاش على روائعهما، وجيل جديد يسمع لهما او يسمع بهما.
من اجل هؤلاء جميعاً، اوفدت "الوسط" الزميل هنري زغيب الى لبنان حيث جلس الى منصور الرحباني في انطلياس ساعات طويلة، عاد منها بفصول رئيسية ومفصلة من حكاية الاخوين رحباني، رواها منصور بلسانه ونيابة عن عاصي الذي غاب قبل سنوات سبع ولا يزال حياً في صوت منصور.
وفي ما يأتي الحلقة الأولى :
"حكايتنا، عاصي وأنا، هي قصة شقيقين كأنهما توأمان، نشأا في ظل الاسئلة الكبيرة، وطرحا الاسئلة الكثيرة، وقالا بالكلمة والنوطة ما اعتقد انه بعض الجواب، لكنهما لم يقطفا ابداً اي جواب.
انها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال والصخور ومغاور انطلياس التاريخية القريبة من بيروت. حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المر، والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعاً حافية على اطراف مخدة ممزقة فوق فراش عتيق.
حكايتنا، عاصي وأنا، هي لوحات طفولة بريئة كانت تشتهي ما لا تطاله العين، وتحلم بما لا تطاله اليقظة، وتكبر على اخبار عنترة والقبضايات وكراسي الزبائن في مطعم الفوار تتردد بعد رحيلهم انغام بزق القبضاي "شيخ الشباب" ابو عاصي.
في ظل والدنا حنا عاصي الرحباني، الشخصية الغريبة والقريبة معاً، نشأنا وكبرنا، عاصي وأنا.
انه من حي عين السنديانة في الشوير، ينتمي في اصل جدوده الى قرية رحبة في عكار. غير ان والديه هاجرا الى مصر ابان موجة الهجرة اللبنانية اثر احداث 1860 هرباً من جور العثمانيين. ولد في طنطا ويتذكر ان ولادته كانت في العام الذي وقعت فيه ثورة عرابي باشا 1882. ثم جاء فتى الى حي الرميل في بيروت، واشتغل لدى نسيبه الصائغ ديب عاصي ما زال ابناؤه وأحفاده حتى اليوم يتعاطون المهنة، كأصحاب "محلات عاصي للمجوهرات" في بيروت. كان حنا يطمح ان يكون صائغاً محترفاً. لكنها مهنة لم تكن تدر عليه كما يرغب، فيما مهنة اخرى شائعة عهدئذ كانت تدر مالاً اوفر: مهنة القبضايات. لذا كان يقبض اجرته الاسبوعية ويذهب مع بعض قطاع الطرق الى ضهر البيدر او وادي اللبيش مع الطائحين فيعود بمغانم اكثر. وقد ترددت هذه الشخصية لاحقاً في غير واحد من اعمالنا منها مثلاً شخصية "أبو احمد" في فيلم "سفر برلك"، وشخصيات القبضايات في مسرحية "لولو". وكان دائماً يحمل مسدسات وخناجر ومدى وأسلحة مختلفة. وغير مرة كانت له في بيروت جولات اطلاق نار مع العثمانيين فحكموا عليه بالاعدام غيابياً ولم يعد له الا الفرار من ولاية بيروت. وكان القانون العثماني ايام المتصرفية لا يطال ولاية جبل لبنان التي تبدأ حدودها عند نهر بيروت، وفيها حكم ذاتي ذو حصانة وامتياز، تحميه سبع دول ويديره متصرف لا يخضع لحكم ولاية بيروت.
وصل والدي الى انطلياس واستقر فيها، متخذاً من بقعة على فوار انطلياس مقهى جعله ملتقى الفارين من حكم الاعدام العثماني وجور العثمانيين. ومن اولئك القبضايات: الياس الحلبي، غندور زريق، الحاج عبدالسلام فرغل، احمد الجاك، ابو راشد دوغان... وكان يقصد المقهى وكان اسمه "مقهى فوار انطلياس" زبائن كثيرون من بيروت وجبل لبنان، يشدهم اليه امان في الخارج وطرب في الداخل "على رنين بزق حنا عاصي".
"امبراطورية" حنا عاصي
كان والدي أمياً، يعرف اسرار الحياة اكثر مما تعلم المدارس. فهو من جيل ربي على خميرة البركة وراحة البال. كانت له في "مقهى الفوار" امبراطورية خاصة يديرها بطبعه المشاكس الذي لا يهادن في امور الاخلاق ربما بعد حياة الطيّاح التي عاشها وتاب عنها الى الاستقامة. لذلك كتب اعلانين على مدخل المقهى ضد مصلحته تماماً، الأول بالعربية يقول: "المرجو من ضيوفنا الكرام ان تكون اساليب سرورهم مقرونة بالحشمة ومكارم الاخلاق وان يحرصوا من الشراب ان يورطهم بما يخل بالآداب. ممنوع كل شيء ضد الآداب. ممنوع على الرجل ان يجلس قرب زوجته بل قبالتها. ممنوع ان يلقمها بيده. ممنوعة كل حركة غير عادية. واذا خالف احد هذه القوانين لقي ما لا يحب. الامضاء: حنا عاصي الرحباني". والاعلان الآخر بالفرنسية، نظراً لوجود جيش اجنبي في المنطقة، كان يقول: "ممنوع كل لفتة وكل نظرة مخالفة للآداب. ممنوع رقص الجنسين". بسبب هذا القانون "الرحباني" الصارم المتشدد المتصلب، كان الكثيرون من ابناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم الى مقهى الفوار صباحاً مطمئنين اليهم والى حماية حنا عاصي، ثم يلحقون بهم بعد الظهر فيجدون كل عائلة لوحدها، يفصل بينها وبين الباقيات حصير علّقه حنا عاصي بشكل حاجز يحجب بين العائلة والاخرى. وأحياناً كان يزور المقهى ضباط فرنسيون مصحوبين بسيدات او آنسات. وحين يبدو منهم ما يخل بقوانين المقهى، يشهر حنا عاصي مسدسه ويطرد الضابط مهما علا شأنه. وكان هذا الجو "العنتري" يعجب الرواد والجلاس، ومنهم: الجن علي، زكور حجال، محيي الدين بعيون هذا الاخير اهدى والدي بزقاً جميلاً احتفظ به ابي طويلاً.
وكان بلغ الاربعين حين تعرّف بفتاة من انطلياس تدعى سعدى صعب، تزوجها وسكنت معها والدتها غيتا بعقليني صعب. وكانت جدتي ذات شخصية قوية جدا وتوافق والدي على صرامته في التشدد بأمور الاخلاق. وأحياناً كانت تحمل العصا وتساعد ابي في رد الزبائن المشاغبين اخلاقياً. وقد ظهرت عندنا هذه الشخصية لاحقاً في "يعيش يعيش" ستي التي كانت تضرب زوجها جدي بو ديب. وهي كانت فعلاً امرأة قروية فولكلورية من عينطورة بقيت آثارها لاحقاً حين ذكرناها في احدى اغنيات "قصيدة حب": "هلا هلا يا تراب عينطورة/يا ملفى الغيم وسطوح العيد/ستي من فوق لو فيي زورا/راحت ع العيد والعيد بعيد". كما ظهرت في "ميس الريم" في أغنية "ستي من كحلون".
هكذا كان الجو العام في المقهى وفي البيت حين ولد عاصي عام 1923 وسمي هكذا على اسم جدي لأبي وولدت انا عام 1925 وسميت منصور على اسم جد ابي. وكانت ولادتنا في بيت عتيق ولدت فيه كذلك شقيقتي سلوى لاحقاً زوجة المحامي عبدالله الخوري ابن الاخطل الصغير، ووالدة الموسيقي العالمي اليوم بشارة الخوري. كان ذاك البيت لأمي سعدى ورثته عن ابيها وكانت تعيش فيه مع والدتها غيتا. لكننا سرعان ما انتقلنا الى بيت آخر ولد فيه شقيقي الياس وشقيقتي الصغرى الهام، وكانت شقيقتي الوسطى نادية ولدت في منزل آخر في بكفيا. وحول هذا التنقل كتبت لاحقاً قطعة جاء فيها: "تشردنا في منازل البؤس كثيراً. سكنا بيوتاً ليست ببيوت. هذه هي طفولتنا، اخوتي وأنا".
في طفولتنا الأولى كانت احوالنا مرتاحة. كان "مقهى الفوار" في عز شهرته والزبائن كثيرين والخير وفيراً. ومع ان ابي ذواقة فن، كان ينهانا عن تعلم الموسيقى ويغضب اذا قاربنا البزق وحاولنا العزف عليه. ولم يكن يهتم كثيراً لدراستنا. كان يهتم لصحتنا اكثر. لذلك، في منتصف الربيع كان يقلع عن ارسالنا الى المدرسة ويبقينا حوله في "مقهى الفوار" من اجل صحتنا، لا يتيح لنا الاختلاط بسائر الأولاد خوفاً علينا من عادات سيئة نكتسبها او افكار سيئة نلتقطها.
"كأننا توأمان"
على ان الافكار بدأت تتولد فينا باكراً جداً، عاصي وأنا. كنا شديدي الالتصاق واحدنا الى الآخر، كأننا توأمان، مع انه يكبرني بسنتين الا شهراً واحداً. لم نكن نفترق. لم نكن ننفصل. ونادراً ما نودي علينا في طفولتنا منفصلين. لذلك منذ تلك الأيام الأولى درجنا نسمع تسمية "عاصي ومنصور"، كنا معاً. دائماً معاً. ليلاً نهاراً معاً. وهكذا امضينا حياتنا في ما بعد.
في المقهى كنا نجلس في علية فوق المدخل، نتسرّق النظر على الزبائن. جاءتنا باكراً افكار غريبة بعضها جريء لتلك السن. كان عاصي يخترع اخباراً كي يسليني. وكانت اخباره دائماً غريبة. ناسها غريبو الاطباع والأطوار. لا يكبرون ولا يشيخون. يخلق لي عالماً من شعب طيب مسالم مهادن ليس فيه شر. منذ طفولته كان عاصي مبدعاً مبتكراً. يخلق ناساً تسود بينهم عدالة ومحبة. ودائماً يخلق لي عوالم جديدة وقصصاً جديدة. لم اكن اعرف من اين يأتي بمبتكراتها وأشخاصها. كنت اصغي اليه. اصدقه. وتكبر في رأسي الاسئلة وتتزايد في مخيلتي الوجوه. وهذا ما يفسر لاحقاً كثرة الشخصيات التي حفل بها مسرحنا وهي تتأرجح بين جميع انواع الناس وطبقاتهم وأطباعهم وميولهم وكاريكاتوراتهم.
في تلك الطفولة الأولى، من تلك العلية، كنا نستمع الى بوق "فونوغراف" المقهى يذيع اغنيات الشيخ سيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم وأبو العلا محمد والشيخ امين حسنين، فتتلوّون طفولتنا بأجواء موسيقية تدخل ذاكرتنا وتمسنا بشعور لذيذ لم نكن نحسن تفسيراً له في تلك الأيام الطرية.
وحين يتفرق الزبائن، يجلس ابو عاصي لوحده او مع احد اصدقائه، ويروح يعزف على البزق انغاماً شجية تطربنا. وكان يضيء المقهى قنديل كبير لوكس يتدلى من السقف له اطار كبير يفيض النور من تحته الى دائرة معينة حول المقهى، ثم يغرق كل شيء في العتمة الكبرى. كانت اسئلتنا تبدأ من حدود تلك العتمة: ما الذي هناك؟ ماذا يجري خلف حدود الضوء؟ وهذا ما ظهر لاحقاً في مغناة "جسر القمر": بدنا نعرف سر الاشيا/معنى الاشيا/شو اللي مخبا/شو اللي بهالعتمة بيرفرف؟ بدنا نعرف لما منغفى مين اللي بيوعى/وبيصير يدبّك بدعسه منّا مسموعه/بدنا نعرف/نحنا جينا تنعرف".
كنا نجلس، عاصي وأنا، صامتين، نصغي الى ابينا يغني بصوته الجهوري. ومن تلك السهرات حفظنا موالاً كان غالباً يردده لعنترة:
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم
ولا رضيت سواكم في الهوى بدلا
لكنه راغب في من يعذبه
وليس يقبل لا لوماً ولا عذلاً
وإكراماً لتلك الذكريات، ادخلنا لاحقاً هذين البيتين في لوحة موشحات. كان ابو عاصي يحب شعر عنترة. ومع انه أميّ، كان يروي قصائد كاملة من عنترة لشدة اعجابه به، حتى انه باع طنجرة من المقهى ليشتري بها ديوان عنترة بتحقيق ابراهيم اليازجي.
كان الفوار محاطاً بأحراج كثيفة وأودية مخيفة تزداد رهبة في الليالي بأشجارها العالية كلما سطع عليها ضوء القمر. من هنا ما قلناه لاحقاً في "صح النوم": عميطلع القمر/والغيم البارد يطلع/عميقطع وادي ورا وادي/وعلّى راسو السجر الراكع". وكانت تتناهى الينا في الليالي اصوات حيوانات غريبة تزيدنا عزلة وانفراداً. وكانت تلك العزلة وسط اصوات الضباع والذئاب تخلق لنا، عاصي وأنا، عوالم جديدة، بعيدة، مبهمة، فتزداد معها الاسئلة ويبتعد الجواب. كنا نلتصق واحدنا بالآخر بين الخوف والطمأنينة: الخوف من هذه الحيوانات وطمأنينة انها لن تبلغنا لأن عندنا ضوءاً وخدماً وعمالاً في المقهى. وهذه الحيوانات تخاف الضوء كما يخافه بعض الاشرار. وهذا ما ظهر لاحقاً في اوبريت "الليل والقنديل" حيث هولو يخاف الضوء ويريد ان يكسر القنديل الكبير على كتف الشير.
وولدت الاسئلة الكبيرة
كانت تحدث احياناً مشادات ومعارك بالايدي والمعاول خلافاً على توزع مياه نهر الفوار التي كانت تنزل الى السهل فتسقي القرى المجاورة: الزلقا، جل الديب، انطلياس، ضبية... وكان المزارعون يختلفون على اولوية تحويل المياه الى بساتينهم، فيبلغون المقهى بوجوههم الكالحة ذات الشوارب، بثيابهم الطويلة "وغنابيزهم" القاتمة وطرابيشهم. يظهرون حول المقهى ضمن دائرة الضوء ويتجادلون على اولوية المياه، ويحتكمون الى ابو عاصي الذي يحاول ان يصلح بينهم. وهذا ما ظهر لاحقاً في شخصية "شيخ المشايخ" الذي اصلح بين اهل القاطع في مغناة "جسر القمر" التي ولدت كلها من تلك الاحداث. ومن تلك الأيام الاولى بدأت تجيء الى تفكيرنا الافكار الماورائية، الاسئلة الكبيرة، التساؤلات التي تنهد الى فوق، الى الاعلى، الى سر الوجود، كيف؟ لماذا؟ الى اين؟ من؟ ما؟ الخ...
في تلك الاجواء، بدأ الناس يتنبهون الينا ويقولون ان عاصي "سيكون شاعراً" وعني انني سأكون "طائحاً". ذلك انه كان نحيلاً ناعماً لطيفاً ذائب التهذيب، فيما كنت اطول منه وأضخم، شديد السمنة، فاشلاً في المدرسة ناجحاً في العنتريات. وغالباً ما كنت اهرب من المدرسة فور وصولي اليها. لم تكن عليّ في طفولتي اية اشارة الى "مشروع شاعر او فنان". حتى الأولاد كانوا يتجنبون معاشرتي والاختلاط بي في اللعب لكن بعضهم كان يفعل مرغماً كرمى لعاصي الذي كان دائماً يفوقني ذكاء وحكمة.
احياناً كانت امي توصلني بنفسها الى المدرسة العائلة المقدسة - انطلياس كي تأمن بقائي لكنني كنت اجد الحيلة لأهرب. واذا بقيت كنت انتظر مرور سيارات الشحن الكبيرة "برلييه" في طرقات انطلياس محملة بأكياس الترابة الاسمنت من معمل شكا، فأبكي طالباً الخروج للتفرج عليها. وحين تمطر كانت المياه تدلف من تحت الباب، فأخاف ان يجتاحنا الطوفان وأروح ابكي لأذهب الى اخي. وحين تأخذني المعلمة الى غرفة الصف الاخرى حيث عاصي، اطمئن الى انني لن اموت لوحدي، وأعود الى قاعة الصف. ولم يكن يستهويني في الصف الا صوت رفاقي يلقون قصائد الاستظهار. لم اكن ادري لماذا كان الشعر يأخذني الى البعيد فأسيح من نافذة غرفة الصف الى بعيد مجهول لذيذ لم اكن املك له تفسيراً في ذلك الوقت.
هذا اذا بقيت. اما غالباً فكنت اهرب من المدرسة. يلحق بي الرفاق فأتسلق شجرة. وأختبئ. احياناً كنت اتظاهر بالذهاب، لكنني فور دخول الاولاد الى الصف اقفل مهرولاً الى جذع شجرة كبيرة قرب البيت اختبئ فيه من الصباح فأنام الى الظهر حتى اذا عاد الأولاد اعود الى البيت مع عاصي الذي لم يكن يشي بي لكثرة ما كان يحبني. وهو كان مجتهداً ومواظباً على انفة وكبرياء. ويوم سألته المعلمة عما يطمح ان يكون حين يكبر، كان جوابه الفوري: "سأكون صائغاً كأبي". انا فأجبت: "سأكون تمساحاً او حرباء". كنت سوريالي التفكير منذ طفولتي، وغير منطقي. كنت حالماً باستمرار ورافضاً كل واقع.
بعد مدرسة الراهبات نقلنا والدنا الى مدرسة اخرى اسسها في انطلياس فريد ابو فاضل، وهو استاذنا الفعلي الأول. وكان فيها جدار خشبي كبير يكتب عليه الشبان عواطفهم نحو من يحبون فكنت اقف عنده اقرأ وأشعر بما لم اكن عهدئذ استطيع تفسيره. كنت اهرب من الدرس الى الجدار. المهم كان الا ادرس.
في السنة الاخيرة من "مقهى الفوار" كان بعض زوار أبي، ممن يعجبهم جو المقهى الصارم، يكتبون له قصائد ويعلقونها على مدخل المقهى. من تلك، اذكر:
نبع الجنان ونزهة الابصار
إن رمت رؤيتها ففي الفوار
فاضت بساحته المياه وغردت
اطياره طرباً على الاشجار
تجري المياه على الحصى وخريرها
في الصوت يحكي نغمة القيثار
قد شابهت عاصي حماة بنبعها
ورئيسها عاصٍ على الأشرار
وهي على ما أذكر لعبدالقادر الطبجي. وكنا عاصي وأنا نحفظ تلك "المعلقات" على مدخل الفوار، فبقيت نغمتها الشعرية والموسيقية في آذاننا وأخذتنا منذ تلك الأيام الأولى صوب القصائد.
هكذا كانت سنواتنا الأولى على فوار أنطلياس: طفولة باهرة في ظل والد حنون لكنه شديد المراس. نشأنا في عزلة كم جرحتها في الليالي وجوه ناس غرباء ينبثقون من العتمة ويغيبون تاركين خلفهم عواء الذئاب يتردد في الأودية، وطفلين ينامان على خرير المياه وطفولتهما مشحونة بصور غرائبية تفجرت في ما بعد شعراً ومسرحاً وموسيقى.
في مقهى المنيبيع
ذات يوم من 1933 قرر أبو عاصي بيع المقهى والانتقال الى الجبل، فباع "فوار أنطلياس" لمن سيصبح والد زوجتي في ما بعد. وكان على أهبة أن يشتري بمال المقهى شاحنتين كبيرتين للنقل البعيد، لكنه عدل عن ذلك حين أخبره أحد أصدقائه عن مقهى صيفي ممتع قرب ضهور الشوير في منطقة الينابيع شويا - من حيث هو أصلاً فهرع الى استثماره. وسماه فوراً "مقهى المنيبيع".
كنت في نحو التاسعة وعاصي في الحادية عشرة وبتنا نفهم المظاهر أكثر. كنا نقصد ذاك المصيف منذ أوائل الربيع، ويعمد أبو عاصي الى تسقيف المقهى بشجر الوزال والخنشار. وكان قرب المقهى نبع ماء، وجدار صخري كتب عليه الرواد أسماءهم وتواريخ جلوسهم في المقهى. فكنت آنس كذلك الى قراءة ما على الجدار، فيشغلني كيف يتجمد الزمان في تلك الكتابات وما حولها من أسماء وعناوين وعواطف.
كانت أيام "المنيبيع" مرحلة عزلة تامة فكنا نجلس، عاصي وأنا، نتأمل كل ما حولنا. كأننا جئنا من التأمل. كنا نتأمل النمل ساعات طويلة. نتأمل أشعة الشمس كيف تنسحب عن الصخور عند المغيب، ونراقب تحولات النور بين الظل الرمادي واحمرار الأشعة الأخيرة. هناك كان لجيراننا مقالع حجارة، فنشاهد المكارين يأتون الى المقالع يحملون بغالهم ويصعدون بها الى ضهور الشوير. هناك قطفنا العنب من الكروم مع الناس. سحنا في كروم التين. كانت ستي غيتا تشتري عنزات لصنع الجبنة واللبنة في المقهى، فأذهب أنا وأرعى العنزات وأخالط المعازة، وأذكر منهم اثنين شريكين: ضاهر وديب ظهر هذان الاسمان لاحقاً في أعمالنا وأتعلم منهما لغة الماعز وكيف يساق القطيع، وحين لبست هذه الشخصية لاحقاً في دور "بشير المعاز" فيلم "بنت الحارس" فوجئ المعاز الذي استأجرنا منه القطيع بأنني أسوق الماعز بشكل "محترف".
في "المنيبيع" كنا كبرنا كفاية لنخدم الزبائن على الطاولات. هناك تعلمنا الصيد ورافقنا الصيادين. في ذلك الاطار المنيبيع، ضهور الشوير، بكفيا، شويا، الزغرين، المياسه، حملايا كنا نتجول مشياً على أقدامنا، عاصي وأنا، نرافق ستي غيتا. ومن ناس تلك المنطقة الذين بقيت وجوههم في بالنا، ولدت في ما بعد شخصيات سبع ومخول وبو فارس والست زمرد وسائر شخصيات اسكتشاتنا الضيعوية.
وفي تلك الفترة كنا بدأنا نقرأ الشعر القديم ونحفظ منه ما نفهمه. وقد ساعدنا ذلك لاحقاً على انتهاج أوزان خاصة بنا تتناسب وموسيقانا، ما حدا بيوسف الخال أن يطلب منا الذهاب الى "خميس شعر" كي نشرح للحاضرين كيف نؤقلم أوزاناً خاصة لأغانينا.
ربما تأثراً بتلك القصائد التي حفظناها، بدأ عاصي ينظم قصائد طويلة بإمضاء "كروبش حرشي" ويقرأها عليّ كي يسليني. كما كتب قصائد شعبية من نوع القراديات المضحكة الطريفة. منها:
قدامك فيه كرُّوسا
عليها بيتدحرج كوسى
الكوسى خي الباتنجان
وينن كل فروخ الجان
ومنذ تلك المطالع الأولى كان عاصي ينحو دوماً الى الأفكار الشعبية والفن الشعبي. وكان هذا عالمنا، تشاركنا فيه أحياناً شقيقتنا سلوى التي عانت الكثير من "شيطناتنا".
مما زاد في اتجاه عاصي يومها واتجاهي الى الفن الشعبي وأزجاله، أن ستي غيتا بدأت تحرضنا على قول الزجل وحفظه. عند المساء في ليالي "المنيبيع" المقمرة، كان يجلس أبي وحوله أمي سعدى وجدتي غيتا ونحن حولهم، ويغني ونردد بعده: "لما بدا يتثنى"، "يا من يحن اليك فؤادي"، "يا لور حبك"، "زوروني كل سنة مرة" وأغنيات قديمة كثيرة عدنا في ما بعد، عاصي وأنا، وأعدنا توزيعها من جديد وشاعت. وأذكر أننا حين أطلقنا "زوروني كل سنة مرة" للشيخ سيد درويش، فوجئ أولاده وخاصة ابنه محمد البحر ان هذه الأغنية هي له، ولم يعرفوا ذلك إلا منا. فهي وأخوات لها لسيد درويش "طلعت يا محلى نورها"... كانت رائجة في منطقتنا أكثر مما كانت رائجة في مصر، ونحن ربينا عليها في طفولتنا وكانت تقال ببطء تطريبي، عكس ما عدنا، عاصي وأنا، فوزعناها لاحقاً في إيقاع أسرع.
في تلك العزلة المنفردة اغتنينا بقراءة كتب الطبيعة واغتنينا بمشاعر الناس لكثرة ما اختلطنا بالقرويين ولوفرة ما أخبرتنا ستي غيتا حكايات في تلك الليالي القمرية الهنيئة وشددت علينا بحفظ الاشعار والأزجال والقراديات والأساطير والقصص الشعبية. وستي من عينطورة احدى أعلى قرى المتن ونشأت في سهل البقاع وتعرف فولكلور المتن وفولكلور البقاع ولها فكرة عن سائر الفولكلورات وتحفظ الكثير من الأزجال. ومع أنها أمية كانت ترتجل وتحرضنا على الارتجال. وكانت تخبرنا حكايات عن الجن والرصد وتلون مخيلتنا بأطياف كثيرة من تلك الطفولة من هنا مشهد "المندل" في "جسر القمر". وكانت أخبارها دوماً تتمحور حول الوعر والمقالع وأجواء طبعت مناخات أعمالنا في ما بعد.
وفي "المنيبيع"، صيف 1938، جرت حادثة الكمان مع عاصي. فقد وجد ذات يوم ورقة عشر ليرات على أرض المقهى. أخذها لوالدي فزجره وقال: "هذه لها أصحاب. نعلقها هنا على الحبل حتى يعود صاحبها فيستردها". وبقيت الورقة ترتعش في الهواء أياماً ولم يأت أحد ليأخذها. عندها أخذها عاصي، قلدها على ورقة كيس فعلق النسخة على الحبل من جديد وأخذ الأصلية ونزل الى بيروت واشترى كماناً عتيقاً بسبع ليرات ونصف كي يتعلم العزف عليه. وبالبقية شاهد فيلماً سينمائياً مع صديقه.
كانت تلك المرحلة منعطفاً مهماً في حياة عاصي التأليفية والموسيقية، لما شهدت من بدايات كتاباته عندما نزلنا آخر ذاك الصيف الى أنطلياس من جديد، وكان أبي اشترى دكاناً فيها لعمله الشتوي.
في ذلك التشرين، تفتحت مواهب عاصي "الصحافية" واستفزني فنافسته بمواهب "صحافية" مقابلة.
عن الأخوين رحباني
1 جوزف ابي ضاهر: "الاخوان رحباني - هوامش من سيرة ذاتية".
2 جوزف عبيد: "الصلاة في أغاني فيروز".
3 نبيل أبو مراد: "مسرح الأخوين رحباني".
4 نبيل كرم: "اطروحة جامعية".
5 غسان سلامة: "المسرح السياسي لدى الأخوين رحباني".
6 مروان وغدي رحباني: "لحظات هاربة" حلقة تلفزيونية.
7 هنري زغيب: "وردة بيضاء على قبر عاصي" حلقة تلفزيوية.
8 هنري زغيب: "نقطة على الحرف" حلقة تلفزيونية.
... وعشرات الاطروحات الجامعية والدراسات في لبنان وسورية ومصر وبعض الدول العربية، اضافة الى مئات المقالات النقدية والتحليلية والمتابعات في الصحافة اللبنانية خاصة والعربية عامة.
رحبانوغرافيا
1957: "ايام الحصاد" بعلبك.
1959: "عرس في القرية" بعلبك.
1960: "موسم العز" بعلبك.
1961: "البعلبكية" بعلبك.
1962: "جسر القمر" بعلبك - دمشق.
1962: "عودة العسكر" مسرح سينما كابيتول.
1963: "الليل والقنديل" كازينو لبنان - ودمشق.
1964: "بياع الخواتم" الأرز - دمشق.
1965: "دواليب الهوا" بعلبك.
1966: "ايام فخر الدين" بعلبك.
1967: "هالة والملك" البيكاديللي - الأرز - دمشق.
1968: "الشخص" البيكاديللي - دمشق.
1969: "جبال الصوان" بعلبك.
1970: "يعيش يعيش" البيكاديللي.
1971: "صح النوم" البيكاديللي - دمشق.
1972: "ناطورة المفاتيح" بعلبك - دمشق.
1972: "ناس من ورق" البيكاديللي - جولة في الولايات المتحدة.
1973: "المحطة" البيكاديللي.
1973: "قصيدة حب" بعلبك.
1974: "لولو" البيكاديللي - دمشق.
1975: "ميس الريم" البيكاديللي - دمشق.
1976: "منوعات" دمشق - عمان - بغداد - القاهرة.
1977: "بترا" عمان - دمشق.
1978: "بترا" البيكاديللي - كازينو لبنان.
1980: "المؤامرة مستمرة" كازينو لبنان.
1984: "الربيع السابع" مسرح جورج الخامس.
***: لوحات مسرحية ومنوعات كثيرة خلال رحلات عديدة خارج لبنان على مسارح العالم.
سينما:
1965: "بياع الخواتم".
1966: "سفر برلك".
1967: "بنت الحارس".
ومئات الحلقات التلفزيونية والاذاعية من برامج ومسلسلات ومنوعات وتمثيليات واسكتشات موزعة في لبنان والدول العربية بأصوات عشرات المطربين والمطربات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.