مصر: الفنانة السورية نسرين طافش تستأنف على الحكم بحبسها 3 سنوات.. الأربعاء    إغلاق مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية مرتفعة    انخفاض أسعار النفط في أكبر خسارة أسبوعية في ثلاثة أشهر    الجنيه الإسترليني يرتفع مقابل الدولار الأمريكي وينخفض مقابل اليورو الأوروبي    بيان «الصحة» عكس الشفافية الكبيرة التي تتمتع بها الأجهزة الحكومية في المملكة    "الترفيه" تنظم عروض "سماكداون" و "ملك وملكة الحلبة" في جدة الشهر الجاري    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    اليوم المُنتظر    «النصر والهلال» النهائي الفاخر..    بأمر الملك.. إلغاء لقب «معالي» عن «الخونة» و«الفاسدين»    «الأونروا»: الصراع في غزة مستمر ك"حرب على النساء"    عقد المؤتمر الصحفي لبطولة "سماش السعودية 2024" في جدة    جريمة مروّعة بصعيد مصر.. والسبب «الشبو»    أمانة الطائف تنفذ 136 مبادرة اجتماعية بمشاركة 4951 متطوعًا ومتطوعة    أبها يتغلب على الاتحاد بثلاثية في دوري روشن وينعش آماله في البقاء    المملكة وأذربيجان.. تعاون مشترك لاستدامة أسواق البترول ومعالجة التغير المناخي    رئيس مجلس القيادة الرئاسي يوجه بسرعة العمل على فتح الطرقات وتقديم المساعدة    موعد مباراة الاتحاد القادمة بعد الخسارة أمام أبها    إدانة المنشأة الغذائية عن حادثة التسمم الغذائي وإغلاق فروعها بالرياض والخرج    ميتروفيتش: لم نحسم لقب الدوري حتى الآن    نمو الغطاء النباتي 8.5% بمحمية "الإمام تركي"    توسيع نطاق الاستثناء الخاص بالتصرف العقاري    مدير «الصحة العالمية»: الهجوم الإسرائيلي على رفح قد يؤدي إلى «حمام دم»    "درع الوقاية 4".. مناورات سعودية – أمريكية بالظهران    غداً.. منع دخول المقيمين لمكة دون تصريح    تركي الفيصل يرعى حفل جائزة عبد الله بن إدريس الثقافية    31 مايو نهاية المهلة المجانية لترقيم الإبل    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على التعاون    «الدفاع المدني» محذراً: التزموا البقاء في أماكن آمنة وابتعدوا عن تجمُّعات السيول    الشرطة تفرق اعتصاما مؤيدا للفلسطينيين في معهد الدراسات السياسية بباريس    الفوزان: : الحوار الزوجي يعزز التواصل الإيجابي والتقارب الأسري    جامعة الإمام عبدالرحمن تستضيف المؤتمر الوطني لكليات الحاسب بالجامعات السعودية.. الأربعاء    رئاسة وزراء ماليزيا ورابطة العالم الإسلامي تنظِّمان مؤتمرًا دوليًّا للقادة الدينيين.. الثلاثاء    الجمعية السعودية للإعاقة السمعية تنظم "أسبوع الأصم العربي"    الصحة العالمية: الربو يتسبب في وفاة 455 ألف إنسان    سحب لقب "معالي" من "الخونة" و"الفاسدين"    إشعار المراسم الملكية بحالات سحب الأوسمة    تحويل حليب الإبل إلى لبن وإنتاج زبد يستوقف زوار مهرجان الألبان والأغذية بالخرج    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    وزير الطاقة: 14 مليار دولار حجم الاستثمارات بين السعودية وأوزبكستان    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    قصة القضاء والقدر    كيفية «حلب» الحبيب !    من المريض إلى المراجع    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    ما أصبر هؤلاء    هكذا تكون التربية    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطريق الى حرب اكتوبر من عملية القوقاز الى مفاجأة السادات . انهار الدفاع الجوي المصري فطار عبدالناصر الى موسكو . الطيارون السوفيات عبروا البوسفور سياحاً وواجهوا الاسرائيليين ... غرب السويس
نشر في الحياة يوم 04 - 10 - 1993

لمناسبة الذكرى العشرين لحرب اكتوبر، أعد مندوب "الوسط" تحقيقاً من موسكو ضمنه بعض الذكريات التي نقلها مباشرة عن بعض كبار القادة "السوفيات" الذين مهدوا لساعة الصفر، عندما طار الرئيس عبدالناصر الى موسكو طالباً دعما عسكريا مباشرا بعدما انهار الدفاع الجوي المصري في العام 1969... لكن الرئيس السادات طردهم عشية الحرب.
في أواخر الثمانينات قدموني في ندوة دولية عقدت في فندق "بريزيدنت" في موسكو الى محمد حسنين هيكل، وقلت له انني اهتم بتأليف كتاب عن التعاون العسكري السوفياتي - المصري بعنوان "الطريق الى رمضان". وسألني السيد هيكل محاولاً ان يبدو جديّاً: اظن انك فكرت طويلاً قبل ان تختار هذا العنوان الطريف؟ فأجبته: كلا، بل اقتبسته من احد كتّاب مصر السياسيين وآمل بأن يغفر لي ذلك. فقال هيكل مبتسماً بدهاء: واذا لم يغفر؟ ماذا لو أقام عليك دعوى قضائية بتهمة السرقة الادبية؟
لكن لموسكو تاريخها في الطريق الى رمضان وهو في الوقت نفسه جزء من التاريخ العربي المعاصر. فاليوم يعرف كل تلميذ في العالم العربي ان الجيش المصري الذي هجم في 6 تشرين الاول اكتوبر على خط برليف كان مسلحاً بأسلحة سوفياتية. ولكن قل من عرف تاريخ الضباط والجنود الروس الذين جاؤوا الى مصر ضمن قطعات الجيش السوفياتي النظامية مطلع العام 1970، وقطعوا في معارك قاسية مع الطيران الاسرائيلي شوطهم من طريق النار الذي امتد من نكسة حزيران يونيو 1967 الى انتصار تشرين الاول 1973.
الاستعداد لعملية "القوقاز"
في اول ايلول سبتمبر 1969 اجتزت للمرة الاولى عتبة المعهد العسكري للغات الاجنبية في موسكو كمدرس للغة العربية. واصطف اثنا عشر شاباً في ملابس طلاب الجيش السوفياتي في وقفة استعداد، وخرج رقيب لم يكد يبلغ العشرين من عمره وسار بخطوة عسكرية الى وسط قاعة الدرس وقال: "ايها الرفيق الملازم، المجموعة العربية العاشرة جاهزة للدرس".
في ذلك اليوم بدأ اكثر من مئة طالب نجحوا في امتحانات القبول دروسهم في احدى أهم مدارس الاتحاد السوفياتي الحربية لتلقي برنامج مكثف لتأهيل المترجمين باللغة العربية. وكانت العربية تدرس في الجيش السوفياتي، لكن الدروس موزعة على سنين عدة ولا يتجاوز عدد افراد كل دفعة تخرج كل سنة 8 - 10 افراد. وبسبب الزيادة الكبيرة المخططة لحجم المساعدة العسكرية السوفياتية لمصر وسورية عام 1969 رفع عدد المقبولين للقسم العربي الى عشرة اضعاف وطلبت وزارة الدفاع من مسؤولي المعهد تقليص مدة تأهيل المترجمين لأحدى اصعب لغات العالم الى سنة ونصف سنة او سنتين.
واخذ عشرة مدرسين من الذين لهم خبرة العمل كمترجمين في جيوش البلدان العربية طباشير وكتبوا حرف الدال ثم الباء فالألف... وكتب الطلاب الذين سيصبحون مترجمين عسكريين في دفاترهم، اول كلمة عربية لهم. ولم تكن هذه كلمة "دب" التي جرت العادة على البدء بها في معهد اللغات الشرقية، بل كلمة "دبابة".
كانت دروس اللغة العربية تبدأ في الثامنة والنصف صباحاً وتستمر ثماني ساعات تتخللها فترات استراحة قصيرة، وبعد الغداء والاستراحة يعود الطلاب الى قاعدة الدرس كي يكتبوا واجباتهم التي لا نهاية لها لليوم التالي. ولم نكن نعرف في ذلك الحين ان طلابنا وكثيرين منا سيشتركون بعد قليل في عملية إسمها الرمزي "القوقاز" اجرتها القيادة السوفياتية العليا استجابة لطلب الرئيس جمال عبدالناصر مساعدة مصر في رد غارات الطيران الاسرائيلي.
في صيف 1969 بدأ الاسرائيليون، مستفيدين من تفوقهم في الجو، عملية تدمير منظومة السلاح المضاد للطائرات التي كانت تغطي التجمع الرئيسي لقوات الجيشين الميدانيين الثاني والثالث المتمركزة غرب قناة السويس. ونزلت الضربة الرئيسية الجوية بقطاع يمتد من بور سعيد الى الاسماعيلية، وشملت مواقع صواريخ الفرقة العاشرة للمدفعية المضادة للطائرات والتي كان مركز قيادتها في قاعدة ابو صوير.
واستطاع الطيران الاسرائيلي نتيجة القصف الجوي المكثف احداث ثغرة واسعة في شبكة المضادات الجوية المصرية، فتحت طريقاً خالياً من العوائق الى منطقة الدلتا المكتظة بالسكان. وبدأ ميزان القوى في ما يسمى حرب الاستنزاف التي استأنفها المصريون في آذار مارس 1969 يتغير بشدة لمصلحة الاسرائيليين، وتجلى هذا بوضوح في 20 تموز يوليو 1969 عندما ألحق الطيران الاسرائيلي بلا مواجهة تقريباً ضربة قوية بوحدات الخط الاول المصرية في منطقة القناة.
واصبح واضحاً في النصف الثاني من عام 1969 ان الاسرائيليين راحوا يعملون لتدمير منظومة المضادات الجوية المصرية بانتظام ما يتيح الغاء كل جهود الرئيس جمال عبدالناصر لاستعادة قدرة الجيش المصري القتالية وافراغ قوله "ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" من كل معنى.
انهيار الدفاع الجوي المصري
وتوجت جهود القيادة الاسرائيلية لتعطيل نظام الانذار الراداري المصري بالعملية التي نفذت نهاية 1969 عندما انزل الاسرائيليون قوة قرب رادار مصري في قطاع البحر الاحمر من الجبهة، فككته وحملته قطعاً في طائرات هليكوبتر الى اسرائيل من دون مقاومة. وعلى رغم ان الرادار المسروق كان نموذجاً عتيقاً ليست له قيمة حربية، فان العملية نفسها تركت لدى الجيش المصري انطباعاً سيئاً. وكتب الفريق سعد الدين الشاذلي في مذكراته "حرب اكتوبر" ان "دفاعنا الجوي انهار بكامله نهاية عام 1969 واصبحت سماء مصر مفتوحة امام الطيران الاسرائيلي".
وادرك عبدالناصر ان تطور الاحداث على هذا المنوال يهدد مصر بكارثة قد تكون اكبر من تلك التي اصابتها في حزيران 1967، فتوجه الى القيادة السوفياتية راجياً ان تضع خطة شاملة لانشاء دفاع جوي ذي فاعلية. وفي الايام الاولى من كانون الثاني يناير 1970، عندما شن الطيران الاسرائيلي الذي اسكره تفوقه الكامل، غارات في عمق مصر وانزل ضربات مدمرة ليس فقط بأهداف عسكرية بل بأهداف مدنية ايضاً، جاءت الى مصر مجموعة من الخبراء العسكريين السوفيات على رأسها قائد سلاح المضادات الجوية المارشال بافيل باتيتسكي، واجرت مسحاً دقيقاً للاراضي وقدمت الى عبدالناصر اقتراحات لإنشاء شبكة من المضادات الجوية في غضون بضعة اشهر.
لكن غارات الطيران الاسرائيلي اواسط كانون الثاني من العام نفسه على المناطق المكتظة ومن بينها ضواحي القاهرة، كانت مكثفة الى درجة قرر معها عبدالناصر السفر الى موسكو فوراً واقناع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف بضرورة ارسال وحدات سوفياتية من المضادات الجوية الى مصر بسرعة.
لم يكن اقتراح عبدالناصر استخدام جنود من وحدات الصواريخ وطيارين سوفيات لتغطية العمق المصري مفاجئاً للقيادة السوفياتية، لأن هذه الفكرة درست في اثناء زيارة وفد مصري برئاسة انور السادات لموسكو اواخر 1969، لكن النقطة الشائكة فيها هي ان اشتراك قوات الاتحاد السوفياتي مباشرة للمرة الاولى بعد الحرب العالمية الثانية في عمليات قتالية خارج البلاد ينطوي على تعقيدات دولية واسعة، لذلك يجب اتخاذ القرار بموافقة جميع اعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي.
وبعدما طلب بريجنيف من عبدالناصر التريث في القرار النهائي حتى يوم الاحد المصادف 25 كانون الثاني يناير، امر بدعوة اعضاء المكتب السياسي الى اجتماع طارئ. وقال ل "الوسط" اللواء المتقاعد ايفان كاتيشكين الذي حضر اجتماع القمة السري في موسكو مع الرئيس عبدالناصر، بصفته كبير الخبراء العسكريين السوفيات في مصر: "تبين بسرعة ان تحقيق ذلك ليس امراً سهلاً. اذ لا يمكن أحداً، استناداً الى قواعد السلوك المتبعة في القيادة السوفياتية العليا، ان يدعو عضواً في المكتب السياسي الى اجتماع طارئ، باتصال هاتفي مباشر الا اذا كان عضواً في المكتب مساوياً له من حيث المركز. وبما ان 24 كانون الثاني صادف يوم سبت وقد تفرق اعضاء القيادة العليا كل في منزله الريفي، فان الاعضاء لم يجتمعوا ذلك اليوم بل صباح اليوم التالي لكن بعضهم غاب".
نقاش حاد
بين كوسيغين وغريتشكو
وعرض بريجنيف على الحاضرين فحوى طلب عبدالناصر ورجا وزير الدفاع المارشال اندريه غريتشكو توضيح الجوانب الفنية العسكرية للمشكلة. ومال جميع اعضاء المكتب السياسي الى تلبية طلب الرئيس المصري وبدا ان اتخاذ هذا القرار المهم لن يستغرق الا دقائق. لكن جميع الحاضرين فوجئ بنقاش حاد بدأه رئيس الوزراء آنذاك الكسي كوسيغين الذي سأل غريتشكو: "هل يمكنك ان تضمن تماماً ان تستطيع القوات التي سنرسلها تأمين تغطية فاعلة للقاهرة وانهاء غارات الطيران الاسرائيلي على العمق"؟
فرد غريتشكو بتحدّ واضح: "لا استطيع ان اضمن ذلك، كما لا يوجد ضمان لتأمين حماية سماء موسكو مئة في المئة".
وتبادل اعضاء المكتب السياسي النظرات مندهشين، وتساءل كوسيغين محاولاً ضبط اعصابه: "ألن يحدث أن نجلب الى انفسنا العار امام العالم كله"؟ فاجاب غريتشكو بنزق اكبر: "كل شيء محتمل في الحرب، وبحكم مهنتي لا اعطي ضمانات".
قال كوسيغين: "هذا الجواب لا يرضيني. اظنك ايها الرفيق المارشال، نسيت انك تكلم رئيس حكومة وليس واحداً من مرؤوسيك".
وخفف بريجنيف حدة التوتر فجأة بقوله: "كفى مشاحنة يا اخوان، ان صديقنا عبدالناصر ينتظر قرارنا. فلنصوت".
سمع عبدالناصر قرار القيادة السوفياتية بعد حوالي ساعتين فتنفس الصعداء، ولم يبق الا بت بعض المسائل الفنية.
سأل غريتشكو وزير الحربية المصري محمد فوزي: "الى كم تحتاجون من الوقت لبناء مواقع نيران لكتائب الصواريخ السوفياتية"؟ فاجابه: "الى اربعين يوماً"، ونظر الى عبدالناصر فابتسم واحنى رأسه علامة الموافقة.
سري جداً
كانت طائرة عبدالناصر لا تزال في الجو في طريقها الى القاهرة عندما تحركت عجلات ماكينة الحرب السوفياتية الهائلة. فالبيروقراطية السوفياتية البطيئة في الظروف العادية، كانت تحسن العمل بسرعة الصاعقة عندما يتعلق الامر بقرارات بالغة الاهمية من اعلى درجات السلطة.
وصباح الاثنين 26 كانون الثاني رن جرس هاتف الاتصال المباشر مع مقر قيادة سلاح الجو في مكتب الجنرال غريغوري دولنيكوف نائب قائد الجيش الجوي الخامس المرابط في منطقة اوديسا. وقال له صوت من الطرف الآخر: "عليك ان تكون في موسكو بعد ثلاث ساعات، ولا يجوز لأحد ان يعرف".
وفي الطريق الى موسكو راح دولنيكوف، احد امهر طياري الجيش السوفياتي، والذي قاتل في الحرب العالمية الثانية ثم ضد الاميركيين في كوريا، يضرب اخماساً بأسداس متكهناً بسبب استدعائه المفاجئ. ونبهه الجنرال الكسندر يفيموف النائب الاول لقائد سلاح الجو قائلاً: "كل ما ستسمعه سري الى أقصى درجة. المطلوب منك ان تختار من جيشك الجوي خيرة الطيارين للاشتراك في عمليات قتالية في احد البلدان الافريقية. والمقصود تشكيل لواءين جويين في اقصر وقت وضمهما في مجموعة قتالية واحدة".
وقال الجنرال المتقاعد دولنيكوف ل "الوسط": "كان مبدأ اختيار الطيارين قائماً على التطوع، ولم يرفض الا واحد فقط من عشرات الطيارين الذين سئلوا. وبعد اسبوع قدمت الى مقر قيادة سلاح الجو قائمة باسماء مجموعة الطيارين التي وافق عليها المجلس الحربي لسلاح الجو".
وعرض دولنيكوف ان يتولى قيادة المجموعة وفي اليوم التالي استدعي لمقابلة وزير الدفاع المارشال غريتشكو الذي قال له: "ستذهبون الى مصر للقتال، ومهمتكم الحيلولة دون شن الطيران الاسرائيلي غارات على مدينتي القاهرة والاسكندرية. ولستم ملزمين العمل الا في حدود المجال الجوي لمصر، واياكم ثم اياكم ان تسقط ولو طائرة واحدة من طائراتكم في الطرف الآخر من قناة السويس".
فجر 2 آذار 1970 اقلعت طائرة من طراز "آن - 12" وعلى متنها دولنيكوف من قاعدة تشكالوفسك الجوية القريبة من موسكو، واتجهت الى بودابست ومن هناك اقلعت في اليوم التالي وحطت بعد الظهر في مطار غرب القاهرة. وفي 5 آذار التقى قائد المجموعة الجوية السوفياتية في مصر قائد سلاح الجو المصري اللواء علي بغدادي، ثم رئيس اركان سلاح الجو اللواء حسني مبارك الذي كان عين في هذا المنصب قبل بضعة أيام.
ومع تشكيل المجموعة الجوية بدأ الاستعداد سراً في الاتحاد السوفياتي لارسال كتائب صواريخ الى مصر كان عليها ان تشكل فرقة الدفاع الجوي. وعين لرئاسة الفرقة الجنرال الكسي سميرنوف الذي كان قبل ذلك قائداً لفرقة الدفاع الجوي الحادية عشرة في دنيبروبتروفسك موطن بريجنيف، وكان مطلع كانون الثاني ضمن مجموعة المارشال باتيتسكي للاستطلاع في مصر.
وقال الجنرال المتقاعد سميرنوف ل "الوسط": "المارشال غريتشكو وقّع أمر تعييني منتصف كانون الثاني. ثم طرت الى القاهرة حيث كانت مهمتي مساعدة المهندسين الحربيين المصريين في بناء مواقع فرقتي وتجهيزها. واعجبت ببطولة الألوف من ابناء الشعب المصري العاديين الذين بنوا هذه المواقع تحت نار الطائرات الاسرائيلية".
كان ستار السرية الشديدة يحيط بكل ما له صلة بعملية "القوقاز" خصوصاً الطيران ووسائل الدفاع الجوي، وضباط مركز الاشارة لدى الاركان العامة المطلوب منه تأمين الاتصال السريع على مدار الساعة بين الكرملين ومقر قيادة كبير المستشارين الحربيين في القاهرة، والمترجمين العسكريين من العربية واليها، وحتى عناصر المستشفى العسكري الذي اقيم في وقت لاحق في منشية البكري قرب مقر الرئيس عبدالناصر.
شحن آلة الحرب
في شباط فبراير 1970 كان ميناء مدينة نيقولايف على ساحل البحر الاسود يشبه معسكراً حربياً ضخماً تصل اليه من كل مناطق الاتحاد السوفياتي قطارات تقل قطعات عسكرية معدة للارسال الى مصر، تنتقل فوراً الى سفن مدنية.
وقبل ركوب الباخرة كان الضباط والجنود يرتدون الملابس المدنية، اما الملابس العسكرية فتوضع في كيس وترسل بالبريد الى القطعة التي جاؤوا منها. وعند سلم الباخرة كان العسكريون يسلمون الضابط المناوب بطاقات هويتهم ويأخذون بدلاً منها وثيقة غريبة تبين فقط ان حاملها مواطن سوفياتي.
في شباط وآذار 1970 كانت بواخر تجارية تعبر مضيق البوسفور كل يوم تقريباً، وعلى ظهرها سيارات وباصات وعلى طول حوافيها يتنزه "سياح" يرتدون قبعات ومعاطف سوداً. وكان الفريق الاكبر من "الركاب"، وعددهم في كل باخرة يناهز خمسمئة ينام في العنابر التي وضعت فيها ايضاً معدات حربية.
الروس في سماء مصر
وصلت أولى طائرات "ميغ - 21" السوفياتية المعدلة الى مطار غرب القاهرة في 6 آذار. وأرسلت داخل طائرات "آنتي" الحربية الضخمة طائرات فككت اجنحتها واذنابها. وكان مطار غرب القاهرة يتعرض باستمرار لغارات الطائرات الاسرائيلية، فكان على الفنيين السوفيات المشتغلين في تجميع الطائرات ان يفعلوا ذلك بسرعة. وكان طيارون سوفيات يصلون الى المطار كل يوم تقريباً وينزلون في البداية في خيم نصبت على ارض المطار، ولم تكن لهم مساكن دائمة لأن الاسراب السوفياتية اريد لها ان تتمركز في مطارات بني سويف وجناكليس وكوم اوشيم الحربية.
وعند الوصول الى مصر كان الطيارون السوفيات يباشرون فوراً تدريبات مكثفة. وقال الجنرال دولنيكوف ل "الوسط": "واجهنا في البداية صعوبتين: الاولى ان الاسرائيليين كانوا يروننا على شاشات راداراتهم منذ الاقلاع حتى الهبوط، لذلك كنا نطير على ارتفاعات محدودة وبسبب استواء الارض الصحراوية نطير على ارتفاعات اقل بكثير من تلك التي اعتدناها في اراضي روسيا. والصعوبة الثانية هي وجوب تعلم معرفة الاتجاه في الصحراء التي لا توجد فيها، باستثناء شريط نهر النيل، تلك الاهداف المألوفة لطيارينا".
ومعروف ان الطيارين في مصر، كما في كل البلدان العربية، يعتبرون من النخبة العسكرية لذلك نظر بعضهم الى الروس بشيء من الغيرة في بادئ الامر. ولكن سرعان ما كسب الطيارون السوفيات احترام زملائهم المصريين بانعدام اي تباه او غطرسة لديهم، وبجاهزيتهم للعمل بتفان.
باشر الطيارون السوفيات مناوبتهم القتالية في السادسة صباح 18 نيسان ابريل 1970، ومنذ ذلك اليوم توقف الطيران الاسرائيلي تماماً عن شن غارات على عمق الارض المصرية.
القط والفأر
قال دولنيكوف ل "الوسط" مستعيداً ذكرياته: "في ذلك اليوم اخترقت مجموعة من طائرات الخصم المجال الجوي المصري فوق قناة السويس في منطقة جبل عتاقة، فوجهت فوراً سرب اعتراض من مطار بني سويف، لكن الخصم فاجأنا بالاحجام عن الاشتباك فاستدار وعاد الى الجانب الآخر من القناة".
وتبين في وقت لاحق ان الطيارين الاسرائيليين التقطوا للمرة الاولى في 18 نيسان كلاماً بالروسية وبلغوا قاعدتهم فتلقوا امراً بالعودة فوراً وعدم الاشتباك.
وتابع دولنيكوف: "بدأ الاسرائيليون يلعبون معنا لعبة القط والفأر. فالغارات على العمق توقفت، لكن اقتحام المجال الجوي المصري استمر وكان علينا ان ننفذ كل يوم 3 - 4 طلعات قتالية. ومن عادة الاسرائيليين ان يأتوا من جهة خليج السويس ويتغلغلوا في مجال مصر مسافة تصل الى 30 كم، على اقل ارتفاع ممكن في واديي الشخنة والزعفرانة، ونرد بارسال مقاتلات، لكن الاسرائيليين كانوا يستديرون فجأة ويعودون ولا نستطيع متابعتهم لأننا مضطرون الى الاستدارة قبل القناة ب 15 كم والعودة الى قواعدنا".
استمرت هذه اللعبة طوال نيسان وايار مايو واياماً من حزيران الى ان قرر الطيارون الروس تغيير التكتيك ونصب مكمن في مدرج طيران في القطامية لا يتطلب الوصول منه الى قناة السويس اكثر من دقيقتين و10 ثوان. وظهرت الطائرات الاسرائيلية في هذا القطاع مرات لكن الروس تأخروا في الاعتراض واتاحوا لها الهرب الى ما وراء القناة.
وتحقق النجاح الاول في 22 حزيران عندما تربصت مقاتلة اعتراضية في القطامية بطائرة "سكاي هوك" دخلت المجال الجوي المصري، وصعدت في الجو بحركة سريعة ودمرتها بصاروخ. وأثار هذا الانتصار حماسة المصريين الذين اصبح في امكانهم العمل على استعادة منظومة الدفاع الجوي في منطقة قناة السويس.
درس دام للسوفيات
لكن هذا لم يكن يعني ان الاسرائيليين كانوا مستعدين لترك السيطرة للروس في سماء مصر. فدرسوا تكتيك الطيارين السوفيات جيداً ولم يغفلوا اية هفوة ارتكبوها، واستعدوا للانتقام لطائرة "سكاي هوك" التي اسقطت واستطاعوا في تموز 1970 تلقين الروس درساً دموياً.
هذه الواقعة رواها ل "الوسط" العقيد الطيار يوري ناستينكو قال: "ظهر في القطاع الجنوبي من قناة السويس في 30 تموز سرب من طائرات "سكاي هوك" الاسرائيلية وهاجم بطارية مدفعية مصرية، فأقلع فوراً من مطار بني سويف سرب اعتراضي سوفياتي. وبعد خمس دقائق اقلعت اربع مقاتلات اخرى من مطار كوم اوشيم. وعندما وصلت اول مجموعة من طائراتنا الى منطقة بطارية المدفعية عادت طائرات "سكاي هوك" فوراً الى ما وراء القناة وظهرت في الجو مجموعة اخرى من الطائرات على ارتفاع 6 - 7 كم في عمق الاراضي المصرية. وعندما لاحقها السرب السوفياتي عائداً من القناة، ظهرت على أدنى ارتفاع ممكن في المنطقة 12 طائرة "ميراج" وهاجمت طائراتنا من تحت. فقدنا في ذلك اليوم 4 طائرات وقتل ثلاثة طيارين واصيب رابع بجروح بالغة لكنه استطاع الهبوط بالمظلة".
استاء الرئيس عبدالناصر كثيراً من هذه الحادثة وابلغ تعازيه الى الجنرال دولنيكوف. وكان واضحاً ان مهارة الطيارين السوفيات وبسالتهم لم تعوضا التفوق الفني للطيران الاسرائيلي. فطائرات "ميغ - 21" السوفياتية من الطراز المعدل كانت من حيث مواصفاتها التكتيكية تعادل طائرات "ميراج" الفرنسية التي شكلت العمود الفقري لسلاح الجو الاسرائيلي. ولكن كانت لدى الاسرائيليين عام 1970 طائرات "فانتوم" الاميركية المتفوقة على الپ"ميغ - 21".
كان صيف 1970 "ساخناً" للطيارين السوفيات والمصريين. وكان من نتائج تعاونهم ان الطائرات الاسرائيلية لم تعد تستطيع، كما في السابق، ان تتحكم باجواء مصر من دون عقاب. وزال الخطر عن القاهرة فعادت اليها الحياة العادية التي وصفها نجيب محفوظ في روايته "حب تحت المطر"، وبدأ العمل في مبنى هيئة العمليات لوضع العملية الاستراتيجية لتحرير الارض المحتلة.
موسم الطائرات المتساقطة
مساء الحادي عشر من آذار 1970 رست سفينة الشحن "غيورغي تشيتشيرين" في ميناء الاسكندرية، ونزلت منها أول كتيبتين للصواريخ معدتين لفرقة الدفاع الجوي السوفياتية المشكلة في مصر. وفي تلك الليلة طليت المعدات بلون الرمال وارسلت الى المواقع.
وعلى رغم ان تقلبات الطقس كانت بالغة التعقيد والطيران الاسرائيلي يضرب في شكل منتظم تقريباً في تلك الايام اهدافاً في العمق المصري، نشرت بسرعة البرق فرقة سوفياتية تضم نحو 6 آلاف عنصر، وارسل قائدها الجنرال الكسي سميرنوف الى موسكو ليل 14 - 15 آذار برقية بالشيفرة عن بدء المناوبة القتالية.
نار الاصدقاء
وقعت في بداية عمل رجال الصواريخ السوفيات في مصر حوادث مؤسفة ضربت في احداها الصواريخ السوفياتية طائرات مصرية! ففي 15 آذار ظهر على شاشات رادارات كتيبة الصواريخ التي يقودها الضابط المحنك نيقولاي كوتينتسيف هدف جوي يتحرك على ارتفاع 120 - 150 متراً. واكد الضباط المصريون الذين كانوا في مركز القيادة ان ليست في الجو طائرات صديقة، فأصدر كوتينتسيف بالتنسيق مع تعليمات القيادة المصرية امراً باطلاق النار، ودمر الهدف بأول صاروخ اطلق، وتبادل الضباط الروس والمصريون التهاني وهم يجهلون أن ما اسقط هو طائرة "ايل - 28" حربية مصرية.
وحين عرف وزير الدفاع السوفياتي المارشال غريتشكو بهذا الخطأ الكبير ثارت ثائرته، لكن رد فعل المصريين لم يكن متوقعاً. اذ قال محمد البسيوني قائد فرقة الدفاع الجوي للجنرال سميرنوف الذي جاء للاعتذار: "ان قائد الكتيبة تصرف حسب التعليمات ولا يمكنكم ان تتصوروا اي انطباع حماسي اثاره في ضباطنا كون الهدف اصيب بأول طلقة". وأيقن الجميع أن صواريخ "سام - 3" لا تقل عن صواريخ "هوك" الاميركية بشيء اذا احسن استعمالها.
وبعد ايام ظهر في الصحف المصرية نبأ قصير عن هبوط اضطراري لطائرة مدنية، تقل ركاباً، في مطار القاهرة. وقالت الرواية الرسمية إن احد محركاتها تعطل، لكن الاوساط العسكرية كانت تعرف ان الطائرة المدنية التي لم ترد على سؤال عن هويتها اصيبت بصاروخ سوفياتي.
اسقاط أول فانتوم
واوقف الطيران الاسرائيلي غاراته على العمق المصري بعد 18 نيسان، ونقل مركز ثقل عملياته الى التجمع الرئيسي للقوات في منطقة قناة السويس، واصبحت مواقع المضادات الجوية ومحطات الرادار المصرية هدفاً اساسياً لضرباته.
وقال الجنرال الكسي سميرنوف ل "الوسط" ان "التكتيك الجديد للاسرائيليين جعلنا في وضع صعب. اذ عجزنا عن تأمين التغطية الجوية للقوات المصرية في منطقة القناة، لأن الصواريخ التي نطلقها من مواقع في العمق لا تصل الى طائرات الفانتوم الاسرائيلية التي يتسع لها الوقت للخروج من مرمى الصاروخ، وفهمنا ان علينا البحث عن حلول اخرى بسرعة".
عُثر على الحل في حزيران 1970. فقبل بضعة أيام من وقف النار قامت ثلاث كتائب صاروخية سوفياتية وست كتائب مصرية ب "وثبة" في اتجاه القناة واحتلت مواقع في منطقة الجبهة. وفي 30 حزيران اطلقت كتيبة سوفياتية صاروخاً واسقطت اول "فانتوم" حاولت مهاجمة المواقع المصرية.
وقال العقيد قسطنطين بوبوف قائد احدى الكتائب السوفياتية آنذاك ل "الوسط": "لم يكن في هذا من الناحية العسكرية اي شيء متميز، لكن الاهم هو تبديد اسطورة عدم امكان اصابة الفانتوم، ما ساعد في رفع معنويات اصدقائنا المصريين الى درجة كبيرة". واكد الامر ذاته الفريق سعد الدين الشاذلي الذي كتب في مذكراته ان 30 حزيران "كان يوماً مشهوداً لنا جميعاً".
وشهد تموز والايام الاولى من آب معارك حامية. وفي 5 تموز سقطت "فانتوم" ثانية اثر اصابتها بصاروخ، واصيبت ثالثة بصاروخ سوفياتي ايضاً لكنها استطاعت اجتياز القناة وسقطت في سيناء التي كانت محتلة. وفي 18 تموز اسقطت الصواريخ السوفياتية 4 طائرات من الطراز ذاته، وفي 3 آب دمرت ثلاثاً واصابت رابعة سقطت على الجانب الآخر من القناة.
واكد الجنرال سميرنوف ان فرقة الصواريخ السوفياتية اسقطت في الفترة من 30 حزيران الى 30 آب تسع طائرات مقاتلة اسرائيلية واصابت ثلاثاً. ولم يسبق للاسرائيليين ان تكبدوا مثل هذه الخسائر، لذلك سمى الجيش المصري شهر تموز "موسم الطائرات المتساقطة".
لكن رجال الصواريخ السوفيات لم ينجوا من الخسائر. وخلال الغارة المكثفة على مواقع الفرقة السوفياتية في منطقة القناة في 18 تموز يوليو 1970 قتل ثمانية من الجنود والضباط الروس وتعطلت احدى الكتائب في شكل شبه كامل.
السوفيات سياح
اليوم، وقد اكتملت عشرون سنة على حرب تشرين، يذكر الجنرالات والعقداء الروس المتقاعدون الذين شابت رؤوسهم أدق تفاصيل ما عاشوه بين عامي 1970 و1973. وقال السفير السوفياتي لدى مصر آنذاك فلاديمير فينوغرادوف ل "الوسط" ان قرار الرئيس انور السادات بانهاء مهمتهم كان مفاجئاً ليس للعسكريين السوفيات فحسب بل ايضاً للقيادة العليا للجيش المصري.
وروى فينوغرادوف: "استدعاني السادات في تموز 1972 واخبرني ان على عسكريينا ان يغادروا البلاد. ولما رأى الدهشة على وجهي صمت طويلاً ثم اضاف بشيء من الاستهزاء: ليس دفعة واحدة... دعوهم يتجولون في المتاجر اسبوعاً او اثنين".
وفي النصف الثاني من تموز 1972 غصت متاجر مصر الجديدة بالروس الذين سارعوا الى التخلص من الاموال التي جمعوها في تلك الاشهر التي امضوها كلها تقريباً بين كثبان الرمال. كانوا عسكريين لم يتعودوا الاستياء من الاوامر، ولا يبدو ان البائعين المصريين المتوددين الذين ساعدوهم في اختيار الهدايا لزوجاتهم واولادهم، كانوا يعرفون ان زبائنهم الذين تضايقهم الملابس المدنية، تركوا في مصر شيئاً لا يقاس بالقليل الذي نالوه في المقابل.
ما تركوه في مصر هو منظومة الدفاع الجوي المتكاملة والمنسقة بدقة، والتي لم تكن في ذلك الحين موجودة حتى عند كثير من الدول الاوروبية. وكان هناك ايضاً الشيء الكثير مما لا يزال ينتظر ان يتحدث عنه مؤرخو الاحداث ومعاصروها.
في حفلة العشاء الوداعية التي اقيمت على شرف الجنرال فاسيلي اوكونيف كبير الخبراء العسكريين في نادي الضباط في القاهرة، قال الفريق محمد احمد صادق وزير الحربية المصري آنذاك كلمة اطراء في العسكريين الروس وشكر لهم مساعدتهم. اما الشاذلي الذي كان جالساً قربه فلم يبتسم، اذ كان يعارض قرار السادات طرد الروس، وهو ما كتب عنه في مذكراته الشهيرة.
وقال مترجم المستشار العسكري الرائد الكسندر اودام لپ"الوسط" ان كثيرين من القادة العسكريين المصريين ممن حضروا الحفلة كانوا، حسب انطباعه، يشعرون بالحرج والضيق وينظرون بين حين وآخر الى ساعاتهم بفارغ الصبر.
واستمرت عقارب ساعاتهم في مسيرتها، ولم يبق الا اكثر من سنة بقليل قبل اللحظة التي ستدفن فيها مذلة حزيران ومرارته، في هدير المدافع التي عكرت الصمت في 6 تشرين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.