الأمير محمد بن ناصر يرعى حفل تخريج الدفعة 19 من طلبة جامعة جازان    مواقع التواصل تحتفي بمغادرة خادم الحرمين الشريفين المستشفى    ⁠87% من مبادرات رؤية المملكة 2030 مكتملة    نائب وزير الخارجية يجتمع بالوزير المستشار لرئيس نيكاراغوا للسياسات والعلاقات الدولية ويوقعان مذكرة تفاهم    نائب وزير الخارجية يلتقي رئيس البنك المركزي في نيكاراغوا    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس مجلس أمناء جمعية قبس للقرآن والسنة    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 47 لمساعدة أهالي غزة    كاوست ونيوم تكشفان عن أكبر مشروع لإحياء الشعاب المرجانية في العالم    "أدوبي" ترقي الفيديو بالذكاء الاصطناعي    استقرار أسعار النفط    "الجمعة".. ذروة استخدام الإنترنت بالمملكة    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    هل تشتعل جبهة جنوب لبنان ؟    روسيا: زيارة بلينكن للصين تهدف لتمزيق العلاقات بين موسكو وبكين    الأخضر السعودي 18 عاماً يخسر من مالي    الإبراهيم: تشجيع الابتكار وتطوير رأس المال البشري يسرعان النمو الاقتصادي    الإبراهيم: إستراتيجياتنا تحدث نقلة اقتصادية هيكلية    الراقي في اختبار مدرسة الوسطى.. الوحدة والفيحاء يواجهان الحزم والطائي    ميندي وهندي والنابت مهددون بالغياب عن الأهلي    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    «الرابطة» تُدين استمرار الاحتلال ارتكاب جرائم الحرب في غزة    فهد بن سلطان يتسلّم شهادة اعتماد تبوك مدينة صحيّة    أدوات الفكر في القرآن    4 نصائح طبية عند استعمال كريم الوقاية من الشمس    بيع "لوحة الآنسة ليسر" للرسام كليمت بمبلغ 32 مليون يورو    الأوبرا قنطرة إبداع    مركز وقاء بمنطقة الرياض يبدأ المرحلة الأولى لتحصين المواشي    الملك يغادر المستشفى بعد استكمال فحوصات روتينية    حجار التعصب تفرح بسقوط الهلال    مساعد رئيس مجلس الشورى تلتقي بوفد من كبار مساعدي ومستشاري أعضاء الكونغرس الأمريكي    سوناك وشولتس يتعهّدان دعم أوكرانيا "طالما استغرق الأمر" (تحديث)    اللهيبي تُطلق ملتقى «نافس وشركاء النجاح»    مين السبب في الحب ؟!    مشاهدات مليارية !    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    النفع الصوري    حياكة الذهب    لا تستعجلوا على الأول الابتدائي    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    أمير الشرقية: القيادة تولي العلم والتنمية البشرية رعاية خاصة    تحت رعاية وزير الداخلية.. "أمن المنشآت" تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    مقصد للرحالة والمؤرخين على مرِّ العصور.. سدوس.. علامة تاريخية في جزيرة العرب    رسالة فنية    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    الإسباني "خوسيلو" على رادار أندية الدوري السعودي    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    قطاع القحمة الصحي يُنظّم فعالية "الأسبوع العالمي للتحصينات"    أمير عسير يواسي أسرة آل جفشر    أمير حائل يرفع الشكر والامتنان للقيادة على منح متضرري «طابة» تعويضات السكن    المجمع الفقهي الإسلامي يصدر قرارات وبيانات في عددٍ من القضايا والمستجدات في ختام دورته ال 23 clock-icon الثلاثاء 1445/10/14    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب باتريك سيل عن ابو نضال قصة ابو نضال مع القذافي نفذ ابو نضال هجومين بالقنابل في الخرطوم وأقنع ليبيا بأن الهدف اسقاط حكومة المهدي 7
نشر في الحياة يوم 16 - 03 - 1992

هذه الحلقة الجديدة من كتاب باتريك سيل "ابو نضال: بندقية للايجار" تكشف معلومات جديدة ومهمة عن خفايا علاقة ابونضال بليبيا والعقيد معمر القذافي، وعن مجموعة عمليات كبيرة نفذتها منظمته، سواء ضد اهداف في السودان او في اماكن اخرى. وتتطرق هذه الحلقة ايضاً الى تفاصيل "الصفقة السرية" بين ابو نضال وفرنسا، كما تروي حقيقة الهجوم على سفينة الركاب اليونانية "سيتي اوف بوروس". وقد حصلت "الوسط" من المؤلف نفسه على حقوق النشر المسلسل لهذا الكتاب باللغة العربية في العالم اجمع ولا يحق لأية جهة نشر اجزاء منه الا باذن خاص من "الوسط". وفي ما يأتي الحلقة السابعة من كتاب ابو نضال.
ذات يوم بارد ومشرق معاً في شباط فبراير 1984، كان عربيان يتجاذبان حديثاً سرياً طويلاً على الغداء في العاصمة البلغارية صوفيا. كان احدهما فلسطينياً، مدوّراً صغير الجسم داكن البشرة، وفي مشيته عرَجَ خفيف من اثر الضرب الذي تعرض له في سجون الاردن عام 1970. كان ذلك رئيس مخابرات ابو نضال العتيق، عبدالرحمن عيسى. اما الآخر فكان ليبياً طويل القامة، انيقاً، حاد الذكاء، هو ابراهيم البشاري، رئيس المخابرات الخارجية عند القذافي. وقد جاء الاثنان لتمهيد الطريق للجمع بين زعيميهما.
لم يكن ابو نضال والقذافي تعارفا جيداً بعد، غير ان كلاً منهما تتبع الحياة العملية للآخر باهتمام كبير. فقد كان كل منهما يعيش حسب قوانينه الخاصة، ولذلك فان انجذاب الواحد الى الآخر كان مسألة وقت ليس الا. وكانت تجمع بينهما اشياء كثيرة مشتركة، منها ارتياب بالعالم الخارجي.
المصير العظيم
وفي ايار مايو 1984، سافر ابو نضال الى العاصمة الليبية طرابلس، بصحبة عبدالرحمن عيسى، للقاء القذافي للمرة الاولى. وقد حدث ذلك اللقاء في خيمة عربية متعددة الالوان، مغروسة بشكل غريب وسط مهاجع الجنود وغرف الحراسة في ثكنة باب العزيزية، يستخدمها الزعيم الليبي كمكتب وغرفة استقبال. وحسب جميع الروايات، فان الرجلين انسجما معاً بصورة ممتازة واستمر الحديث بينهما ساعات طويلة.
كان ارتياب القذافي بالآخرين وشعوره بانه محاصر، حادين اكثر من المعتاد في ذلك الوقت. فقبل بضعة اسابيع، كان احد رجال الامن داخل المكتب الشعبي الليبي السفارة في ساحة السان جيمس بلندن، فتح النار بشكل جنوني من الطابق الاول على حشد من المتظاهرين ضد القذافي، فقتل الشرطية البريطانية ايفون فلتشر، فقطعت بريطانيا العلاقات الديبلوماسية، وبعد حصار لمكتب الشعب دام تسعة ايام، طردت موظفيه جميعاً. ودعا عدة زعماء غربيين الى وضع استراتيجية مشتركة لمكافحة الارهاب الذي ترعاه ليبيا، الامر الذي استفز القذافي ودفعه للرد بأنه "سيؤذي" البلدان المتآمرة ضده، اذ قال محذراً: "لكل بلد مناطقه الحساسة التي نستطيع ان نضغط عليها".
وحدث ان الضجة الدولية التي اثارها مقتل ايفون فلتشر شجعت واحدة من هذه المجموعات المعارضة، وهي الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا، على محاولة الاطاحة بالقذافي، وهي محاولة وصلت الى ذروتها، بمحض الصدفة، بينما كان ابو نضال في طرابلس مجتمعاً مع القذافي. كان رئيس الجناح العسكري للجبهة الوطنية المذكورة، وهو ضابط ليبي سابق يدعى احمد الحواز استطاع ان يُسرّب مجموعة من المسلحين الى داخل ليبيا، وان يجعلهم يتمترسون في المبنى المواجه تماماً لمدخل ثكنة باب العزيزية. لكن الحوار نفسه لم يكن حسن الحظ مثلهم. فقد دخل تونس بجواز سفر سوداني استعداداً للانضمام الى رجاله في طرابلس. غير ان المخابرات الليبية تلقت تحذيراً فقطعت طريق الحواز وقتلته على الحدود واكتشفت خليته المسلحة في طرابلس فهاجمها الجيش الليبي وتغلب عليها.
وعلى رغم فشل هجوم الجبهة الوطنية فانه ساعد على اقناع القذافي بانه بحاجة الى شخص ما ليقف بوجه أعداء ثورته في الخارج وكذلك بوجه "المستعمرين" الذين كانوا يقدمون لهم الدعم والمساندة. وكان واضحاً ان ابو نضال هو رجله المطلوب لهذه المهمة.
ولقد حاولت دول عربية كثيرة ان تجند فلسطينيين في مخابراتها، اذ انهم كانوا مشتتين في انحاء الدنيا وبارعين ومثقفين، غير انهم لم يجدوا تدبير امور معيشتهم شيئاً سهلاً، ولذا فانهم غالباً ما كانوا عرضة لمثل هذا التجنيد. ومن وجهة نظر القذافي، فان فلسطينياً يتعقب ليبيا منشقاً في اوروبا والولايات المتحدة ربما يكون اقل اثارة للشبهة من ليبي آخر. ذلك ان عملاءه الليبيين غالباً ما كانوا يثبتون عدم كفاءتهم، ويسودون سمعة القذافي في العواصم الاجنبية. ولذا فانه كان في ذلك الوقت بحاجة الى محترف.
واثناء سنوات حكمه الاولى، عندما كان على علاقة جيدة بعرفات، حاول ان يجعل حركة فتح تقوم بأعمال لحسابه فرفضت فتح. كان آخر شيء يحتاج اليه قادة منظمة التحرير الفلسطينية هو زيادة تشويه سمعتهم بتقديم "فرق اغتيال" للقذافي. وحاول القذافي مع جبهة جورج حبش الشعبية، وجبهة احمد جبريل - القيادة العامة، غير انهما كان لديهما من التعقل ما جعلهما يرفضان التعاقد مع القذافي. أما ابو نضال فلم يكن لديه مثل هذه المعيقات. ففي مقابل الحماية والتسهيلات، كان مستعداً لتقديم اية خدمات تطلب منه. فقد عمل للحكومة العراقية ضد الشيوعيين، وضد المعتدلين الفلسطينيين ضد سورية، كما عمل لسورية ضد الملك حسين. ثم اصبح جاهزاً ليعمل للقذافي ضد المعارضة الليبية، وان يشن لحسابه عمليات استعراضية لافتة للانظار ضد اهداف اميركية وبريطانية ومصرية.
وشعر القذافي بانه يحتاج ابو نضال، وانتابته رعشة سرور لتوقع احتمال عمله في خدمته. وكان ابو نضال بدوره محتاجاً الى القذافي لسبيين: فعلاقته مع سورية لم تحقق توقعاته. كما ان توسعه في لبنان كان يكلفه اموالاً طائلة اذ ان "جيش الشعب" الذي قوامه 1500 رجل كان يجب دفع رواتبه، وكان يهدد بأن يُفقد منظمته توازنها، لذلك ظن ان الانتقال الى ليبيا قد يحل له المشكلتين معاً بحركة واحدة. وهكذا اتفق ابو نضال مع القذافي.
لقد انطلقت علاقة ابو نضال بالقذافي فعلاً عام 1985، الا انها لم تكن صافية دائماً من دون غيوم. والحق انها، كعلاقاته بانظمة عربية اخرى، كانت تعتمد على حالة العلاقات بين ليبيا وفتح. فعندما كان القذافي ينسجم وياسر عرفات، كان أبو نضال يفقد حظوته. اما عندما يتشاجر القذافي وعرفات فإن ابو نضال يصبح ضيفاً مكرماً في بلاط الزعيم الليبي. وقبل ذلك بعقد من الزمن، في عام 1975، كان ابو نضال ارسل بعض صغار كوادره، وجلهم من الطلبة والمعلمين، ليعيشوا بشكل سري مكتوم في طرابلس وبنغازي، حيث كلفوا بنشر الدعاية له وتوزيع ادبيات منظمته. وفي عام 1977، عندما وصلت ليبيا ومصر الى حافة الحرب، ايد هؤلاء الناس ليبيا، بل لقد ذهب بعضهم الى حد التطوع بالذهاب الى الجبهة. فكان ذلك عرضاً للولاء اغرى الليبيين بالسماح للمنظمة بفتح مكتب في شارع عمر المختار بطرابلس.
ولعل الاهم من ذلك ان القذافي كان وقتها على علاقة سيئة بفتح، ولا سيما مع ابو اياد، في اعقاب المشاجرة بينهما عندما كانا ضيفين على الرئيس الجزائري هواري بومدين، فقد حث القذافي حركة فتح على تبني كتابه الاخضر باعتباره انجيلاً عقائدياً لها. ولكن ابو اياد - كما روى لي فيما بعد - لم يستطع ان يمنع نفسه من الضحك على هذا الاقتراح قائلاً للقذافي "انه ليس كتاباً على الاطلاق. واياً كان الذي كتبه لك، فقد اصابك بضرر جسيم!". وقد بلغ الغضب بالقذافي مبلغاً جعله يقطع المساعدة عن منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1977 - 1978، وكانت تصل الى 12 مليون دولار في العام نقداً و50 مليوناً اخرى على شكل مخازن وتجهيزات وعتاد. وكان هناك مصدر آخر لبرود العلاقات - ولعله اهم - : رفض فتح ان توافق على طلب القذافي بخطف او قتل شخصية بارزة من المعارضة الليبية، هي عبدالمنعم الهوني، احد المؤسسين الاصليين لحركة الضباط الاحرار والرئيس السابق للمخابرات الليبية. وكان اختلف مع القذافي ولجأ الى مصر. فكان العقيد يريد رأسه.
وهكذا كانت لجماعة ابو نضال الحظوة في طرابلس فترة في عامي 1977 و1978، الا ان ذلك لم يدم طويلاً. فعندما بدأ ابو نضال يقتل المعتدلين الفلسطينيين من اعضاء منظمة التحرير - قتل سعيد حمامي في لندن في كانون الثاني يناير 1978، وقتل علي ياسين في الكويت في حزيران يونيو - ردت فتح بمهاجمة مكتب منظمة ابو نضال في طرابلس وقتلت اثنين من رجاله وقيل بأن ذلك تم بتواطؤ من وزير الداخلية الليبي، العقيد الخويلدي الحميدي الذي كان يتعاطف مع فتح. فقرر الليبيون اغلاق المكتب وترحيل اعضائه. وتم تفكيك الخلايا التي اقاموها. وفي محاولة لترقيع العلاقات قام ابو نضال بزيارة خاطفة الى طرابلس في 30 كانون الاول ديسمبر 1979 لمقابلة الرجل الثاني عبدالسلام جلود، ولكنه لم يدع لمقابلة القذافي. فعلى رغم المشاحنة مع ابو اياد، لم تكن للقذافي مصلحة في تنفير عرفات بصورة جدية او وضع ثقله الى جانب منظمة العراق. فلقد كان ابو نضال، على رغم كل شيء يعتبر صنيعة العراق.
وهكذا كان على ابو نضال الانتظار حتى عام 1982 للحصول على فرصة اخرى لترك بصمته في ليبيا، ومرة اخرى كانت تلك الفرصة نتيجة انهيار علاقات فتح - ليبيا، فاثناء حصار اسرائيل لبيروت، عندما كان الفلسطينيون صامدين تحت القصف الاسرائيلي الشديد، بعث القذافي الى عرفات ببرقيته التي اصبحت مشهورة، والتي حثه فيها على الانتحار بدلاً من السماح لاسرائيل بطرده. فرد عرفات بأن مقاتليه مستعدون للتضحية العظمى شريطة ان ينضم القذافي اليهم، واضاف بمرارة لاذعة ان وضعه ما كان ليصبح يائساً لو ان القذافي سلّمه الاسلحة التي وعد بها. وشعر القذافي بالاهانة، فبردت مشاعره تجاه عرفات. وعندما وقع تمرد الانتفاضة في فتح وبرزت "جبهة الانقاذ الوطني" ومقرها في سورية، لتجمع معظم معارضي عرفات من الفلسطينيين، كان القذافي سريعاً في تقديم الدعم لها. وبذلك اصبحت الظروف مواتية لعودة ابو نضال الى دخول ليبيا.
كانت تلك خلفية وصوله الى هناك في عام 1985. وكان استقراره في ليبيا ايذاناً بان ابو نضال نفسه جعل من ليبيا قاعدته الاساسية. وسرعان ما حلت كوادر من مديريات اخرى في ليبيا. ووضعت الطائرات والسفارات، وجوازات السفر والحقائب الديبلوماسية والاتصالات الليبية تحت تصرف ابونضال. وحالما بدأت العلاقة تتسع وتزداد حرارة، راح القذافي يعطي ابو نضال دارات فيللات وشققاً في طرابلس، ودوراً للسكن خارج العاصمة ومزرعتين... وكل ذلك مجاناً. وكانت معظم هذه الاملاك صودرت من المعارضة الليبية التي فرت الى الخارج.
وكان الليبيون كرماء في بطاقات السفر الجوية، ونفقات الاسفار، والضيافة بكل انواعها، يفتحون للاعضاء العابرين الفنادق والدارات الخاصة. وبعد ذلك بعام، في 1986 قدمت المخابرات الليبية للمنظمة خطوط هاتف دولية، وكانت عندئذ سلعة نفيسة لأن الهاتف المباشر تم قطعه بعد الهجوم الاميركي على ليبيا في نيسان ابريل 1986، واصبح لزاماً على كل المكالمات الدولية ان تخرج عن طريق عامل مقسم الهاتف. ولم يكتف الليبيون بتقديم الخطوط، بل اخذوا يدفعون فواتيرها.
والاهم من ذلك ان الليبيين ساعدوا المنظمة، اعتباراً من عام 1985، فصاعداً، على نقل الاسلحة الى داخل ليبيا وتخزينها هناك، وكذلك نقلها الى خارج ليبيا واخفائها في مستودعات في اوروبا وافريقيا وآسيا. وفي بعض الحالات كانت الاسلحة تعطى بأيدي الليبيين الى اعضاء المنظمة وهم على متن الطائرات في مطار طرابلس، وفي حالات اخرى كانت الاسلحة ترسل الى الخارج في الحقائب الديبلوماسية وتعطى باليد لاعضاء المنظمة في السفارات الليبية. ومن النواحي العملية جميعاً، لم يعد ابو نضال مستقلاً في عمله. فقد كانت اماكن عمله وسكنه الاساسية هو ومنظمته، وكذلك التسهيلات التي تجعل نوع عمله ممكناً... كلها هدايا من المخابرات الليبية. واصبح ارتباطه بالمخابرات الليبية لصيقاً ووثيقاً الى درجة جعلت التمييز بينه وبينها مستحيلاً.
"احتفظوا بكبريائكم لأنفسكم"
وكان ابو نضال سريعاً في ادراكه لفقر ليبيا في مصادر جمع المعلومات السرية. فشبكاتها كان موظفوها سيئي التدريب، وكان ضباطها يعتمدون بسهولة على غيرهم ليقوم عنهم بالعمل. وكما وصف احد المصادر هذا الوضع: "اذا قلت لليبيين سوف احصل لكم على معلومات تشاد، فإنهم سيوقفون كل وسائل استعلاماتهم وينتظرون منك ان تقدم لهم ملفاً على طبق". وهكذا، فبالاضافة الى الاستطلاع والمضايقات واغتيال المعارضة الليبية في الخارج، راح ابو نضال يشغّل منظمته بجمع المعلومات لحساب ليبيا. واغرق ابو نضال نفسه في هذه المهمة، وسرعان ما صارت له السيطرة الفعلية على جهاز المخابرات الليبية.
وبالنسبة لابو نضال، كانت سنوات 1985 - 1987 فترة غموض مثمر، وجد نفسه فيها محشوراً بين سورية وليبيا. ولكن لم يكن هناك اي شك في اي منهما يفضل. فلقد دعاه القذافي الى صميم النظام الليبي، حيث كان يحب ان يستقر. وسمح له الليبيون بالتنظيم والدعوة في صفوف المجتمع الفلسطيني المقيم بين ظهرانيهم، وشن حملة دعاية نشيطة لمنظمته، وباختصار… ان يكون فعالاً بنشاط في الحقل السياسي.
لقد اصبح القذافي وابو نضال شريكين. وقال المقربون المطلعون على بواطن الامور الذين حضروا اجتماعاتهما الكثيرة بأن كلاً منهما راح يستمتع بمحبة الاخر بشكل هائل، ويمضيان وقتهما بسعادة معاً وهما يهاجمان اعداءهما قبل الشروع بالتخطيط لتدميرهم.
شهدت سنوات 1987 - 1990 تركيزاً لقوات ابو نضال في ليبيا على صعيد المعسكرات، والمزارع والمكاتب والمنازل الكثيرة التي وضعها القذافي تحت تصرفه. كانت المنظمة تقوم بتشغيل محطتين للاذاعة، واحدة تصل ما بين امانة السر والمعسكر الصحراوي، والاخرى تصل امانة السر مع كل من لبنان والجزائر.
وفي ليبيا تقابل افراد جماعة ابو نضال مع ممثلي الجيش الاحمر الياباني، ومع جيش الشعب الجديد الفلبيني. كما جرى تشجيعهم ليدعوا الى ليبيا من يريدون من الجماعات المسلحة الاجنبية او من الاحزاب السياسية التي يتوخون اقامة علاقات عمل معها.
كانت علاقات ابو نضال تتم عن طريقين: المخابرات الليبية والقذافي نفسه. ولم تكن له علاقة ما مع اي من الهيئات الحكومية الليبية الاخرى التي لم تقع انظارها عليه ابداً. ولم يكن مسموحاً لأحد في المنظمة ان يعلم عن طبيعة علاقة ابو نضال الحقيقية مع ليبيا: فكل الاتصالات مع الليبيين كانت تمر عبره.
وكان الزعيم الليبي يعامله بكرم يفوق ما عامل به الفلسطينيين الآخرين، وكان يدفع له مرتباً شهرياً لتغطية نفقاته في ليبيا، ويسمح له بأن يدخل اليها دولارات وبأن يصرفها في السوق السوداء. كما كان القذافي يمنحه مبالغ من المال لاستثمارها في اوروبا وفي غيرها وذلك في سبيل ان يتوفر له دخل يغطي نفقاته في لبنان، وهي طريقة كان ابو نضال يفضلها لأنها كانت تمنحه الاستقلالية والحماية من اي توقف مالي مفاجئ.
ولما كان ابو نضال مسكوناً بهاجس امنه الشخصي. فقد نزع الى الالتصاق بدوائر المخابرات والامن في البلد المضيف. وعمل كل ما بوسعه لينال حظوة عبدالله السنوسي، اهم رجال امن القذافي، وكان يناديه بكلمة "سيدي" تماماً مثلما يخاطب الجندي رئيسه الضابط. وكان ينادي القذافي بپ"القائد" وكان على الصعيد الخاص يوبخ اعضاء منظمته اذا تجرأوا واشاروا الى الرئيس الليبي بلقب "الاخ معمر" وكان يصفه بمبالغة زائدة بأنه "صلاح الدين الجديد". ولم يكن مسموحاً بأن تظهر اي اشارة انتقاد لليبيا في اي تقرير داخلي للمنظمة، خشية ان يقع ذلك في ايدي الليبيين.
واذا ما تجرأ احد في المكتب السياسي واحتج على فقدان المنظمة لاستقلالها وتحولها الى صنيعة السياسة الليبية، فإن ابو نضال يستشيط غضباً ويدعي بأن مثل هذا الكلام السائب قد يودي بهم جميعاً، ويقول لهم: "احتفظوا بكبريائكم لأنفسكم. ان علي ان احميكم انتم والمنظمة!". لكنه في بعض الاحيان ولكي يدفع عن نفسه تلك الاتهامات، كان يتباهى بالادعاء بأن يدىه تمسكان بخناق الليبيين، وبأنه يعرف عنهم الكثير، ولذلك لا يقدرون ابداً على الخلاص منه.
وكان اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية يذهبون من آن لآخر الى الجزائر ويعيشون فيها لفترة ما، باعتبار ان ابو نضال كان يرى في الجزائر ملجأ بديلاً اذا ما ناصبه القذافي العداء. بل انه فكر في احد الاوقات ان ينقل اليها زوجته واولاده. وكان حريصاً على توسيع علاقاته مع المخابرات الجزائرية التي بدأها عام 1986. وكان الجزائريون بدورهم يرغبون في البقاء على اتصال مع جميع الفئات الفلسطينية، وفي المساعدة على تسوية مشاجراتهم كلما امكن ذلك.
قنابل ابو نضال في الخرطوم
بعد مضي اشهر على بداية الانتفاضة في كانون الاول ديسمبر 1987، قام ابو نضال بثلاث عمليات اساءت الى القضية الفلسطينية. كانت قبرص، دائمة التعاطف مع الفلسطينيين، وقد دعمتهم دعماً قوياً خلال الحصار الاسرائيلي لبيروت عام 1982، وكانت ملاذهم حين اغلقت دول عربية عدة ابوابها في وجوههم.
في 11 ايار مايو 1988 فجرت منظمة ابو نضال سيارة مفخخة في نيقوسيا فقتلت وجرحت خمسة عشر شخصاً، بينهم امرأة قبرصية كانت تقود سيارتها خلف تلك السيارة المفخخة، كما قتلت ايضاً ديبلوماسياً قبرصياً هو آندرياس فرانكوس الذي كان يسير بالقرب من مكان الحادث. وقد ادعى ابو نضال داخل منظمته ان هدف العملية هو تفجير السفارة الاسرائيلية، غير ان السيارة انفجرت على بعد مائتي ياردة من مبنى السفارة التي لم تصب بأية اضرار. وعلى اثر الحادث انقلب الرأي العام القبرصي ضد الفلسطينيين، وشددت السلطات القبرصية مراقبتها على الفلسطينيين القادمين والذاهبين، وتم طرد عدد من الفلسطينيين المقيمين في الجزيرة.
وبعد اربعة ايام من حادثة قنبلة نيقوسيا، شن رجال ابو نضال هجومين في السودان، وهو بلد اكثر تأييداً للفلسطينيين من قبرص. ففي هجومين موقتين في الساعة الثامنة من مساء 15 ايار مايو 1988 قامت مجموعة ضاربة بالاعتداء على هدفين سهلي المنال في الخرطوم، هما: نادي السودان المخصص للبريطانيين ولمواطني الكومونولث الذين فتحت عليهم نار الرشاشات، وفندق اكروبول، وهو مؤسسة يونانية قديمة، حيث القى المهاجمون على مطعم الفندق حقيبة ملأى بالقنابل فقتلوا نادلاً وجنرالاً سودانيين، وخمسة بريطانيين، واصابوا 17 آخر بجروح.
وحاول ابو نضال تبرير الهجومين امام رفاقه حين ادعى بأنهما موجهان ضد الاماكن التي يتواجد فيها يهود الفلاشا الهاربون الى اسرائيل من اثيوبيا. غير انه لم يكن لا في نادي السودان ولا في فندق أكروبول ما يدعم ذلك الادعاء.
وقد ادت تلك العملية، التي استنكرتها بشدة الحكومة السودانية والمعارضة، الى تشويه الصورة الفلسطينية تشويهاً بالغاً، وخلقت للمقاتلين الفلسطينيين، الذين لجأوا الى السودان بعد ان طردوا من لبنان مشاكل كبيرة لدى السلطات السودانية. وبعد اسابيع من الهجومين اصدر ابو نضال بياناً باسم منظمة موهومة هي "خلايا الفدائيين العرب" ادعى فيه ان الاهداف كانت "اعشاشاً للجواسيس الاجانب". غير ان البيان الطويل المؤلف من عدة صفحات انتقل الى مناقشة الاحوال السياسية والاقتصادية في السودان كي يظهر ان المعارضة السودانية كانت متورطة في الهجومين، بينما لم يكن لدى هذه المعارضة اي مصلحة في ان ترى فئة اجنبية ذات اساليب ارهابية خسيسة، تتستر بغطاء الوطنية السودانية وتنتحل اسمها، ولذلك اغضبتها محاولة ابو نضال في ان يتدخل بأمرها ويستغل كفاحها. وقد القي القبض على خمسة من شبان ابو نضال تتراوح اعمارهم بين 22 و30 عاماً وحكم عليهم بالاعدام. غير ان الاحكام لم تنفذ لأن الرأي العام السوداني على رغم اشمئزازه من تلك الاعتداءات كان لا يرضى بأن يعدم اشخاص يطلقون على انفسهم اسم "المقاومين الفلسطينيين". وقد نددت جمعية المحامين السودانيين بهؤلاء الا انها، بسبب تعاطفها مع القضية الفلسطينية، توكلت بالدفاع عنهم. وفي 7 كانون الثاني يناير 1991 تم الافراج عن هؤلاء الخمسة، ما سبب امتعاضاً لدى السودانيين.
وذكر لي بعض رفاقه السابقين ان ابو نضال، "باع" العملية الى القذافي على اساس انها وسيلة لإحراج وإسقاط الحكومة الجديدة التي كان شكلها رئيس الوزراء الصادق المهدي قبل ايام أي في 11 ايار مايو 1988، فلقد جمعت حكومة "الوحدة الوطنية" تلك ما بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد وهي: حزب الامة الذي يرأسه المهدي، والحزب الديموقراطي الوحدوي الصديق لمصر، والجبهة القومية الاسلامية وهي الفرع المحلي للاخوان المسلمين التي كانت تعمل على تطبيق الشريعة الاسلامية. اما متمردو جون قرنق الجنوبيون، الذين كانوا لسنوات يشنون حرباً ضد حكومة الخرطوم وضد تطبيق الشريعة الاسلامية، فلم يجر ادخالهم في الحكومة الجديدة. ولم تعجب هذه التطورات القذافي لانه كان يرغب في زيادة نفوذه في السودان كي يقلل من النفوذ المصري وليضغط على التشاد. ومن هنا رحب بما قام به ابو نضال لزعزعة الخرطوم.
وكان لابو نضال ثاراته الشخصية ليسدد حسابه مع السودان. فقبل سنتين، في عام 1986، كان ارسل مبعوثاً سرياً الى الخرطوم يحمل جواز سفر ليبياً تحت اسم ابراهيم حسين المغربي وينتحل صفة رجل الاعمال. اما اسمه الحقيقي فكان عبدالكريم محمد وكان عضواً في ادارة ابو نضال السياسية. غير ان اتصالاته في الخرطوم ادت الى شكاو من مصر، ومن منظمة التحرير، ومن الولايات المتحدة، فقامت السودان في نهاية الامر بطرده ولكنه قبل ان يغادر تسلم اسلحة ارسلها له ابو نضال وخبأها، ويُرجح ان الاسلحة وصلته ضمن الحقيبة الديبلوماسية الليبية واستعملت فيما بعد في الهجومين. وقد حاول ابو نضال، من خلال سلسلة من المذكرات الى رئيس الوزراء الصادق المهدي إعادة رجله الى السودان ولكن من دون جدوى، ما خلق لديه شعوراً بالامتعاض. فأبو نضال بدأ في السودان ممثلاً لفتح، وكان حساساً جداً ازاء اي اهمال او ازدراء يأتيانه من جانب الاقطار التي عاش فيها والتي كان يدّعي ان له فيها قدراً كبيراً من النفوذ. ولا شك ان شعور الانتقام ساهم في املاء اختيار الخرطوم هدفاً لقنابله.
وكان للقصة منعطف آخر. فعندما كان رجاله الخمسة رهن الاعتقال، حاول ابو نضال رشو الحكومة السودانية للافراج عنهم. واتصل بالسفارة السودانية في الجزائر، وعرض عليها تقديم 250 الف دولار لضحايا الفيضان في السودان، وأوفد اثنين من اعضائه الى الخرطوم يحملان المال الذي قبله احد الوزراء، وأشير الى هذه المنحة في وسائل الاعلام السودانية. غير انه عندما اثار الموفدان بطريقة فجّة مسألة السجناء الخمسة، ادركت الحكومة السودانية ان هبة ابو نضال مربوطة بطلبات، فعمدت الى طرد الموفدين، وبذلك زاد ابو نضال من تأزم موقف كان سيئاً اصلاً.
الهجوم على السفينة اليونانية
ضربة خطيرة اخرى آذت الفلسطينيين هي الهجوم بالقنابل والرشاشات في 11 تموز يوليو 1988 على سفينة الرحلات البحرية اليونانية "سيتي اوف بوروس" بينما كانت تمخر مبتعدة عن اثينا، وكان على متنها مئات من السياح. فقد قام خمسة من رجال ابو نضال بقتل تسعة من ركابها وجرح ثمانين آخرين، ولم يكن هناك اية مصلحة فلسطينية او عربية يمكن تصورها للقيام بتلك الوحشية العشوائية. فاليونان كانت اكثر الدول الاوروبية تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، وكان رئيس وزرائها آندرياس باباندريو اقوى مدافع اوروبي عن العرب ضد اتهامات الارهاب التي تلصقها اسرائيل بهم. وعلى سبيل المثال، وفي ذروة قضية نزار هنداوي عام 1986 عندما اعتقدت سورية انها كانت ضحية حملة "أحابيل اسرائيلية قذرة"، استقبل باباندريو الرئيس حافظ الاسد في اثينا ووفر له منبراً ليدافع عن نفسه. ومن هنا غدت اليونان هدفاً اختاره ابو نضال لهجومه ليثير غضب اليونانيين ضد الفلسطينيين، ويخرّب صناعة السياحة اليونانية المهمة، ويسرّع في سقوط حكومة باباندريو.
وقد عتم الهجوم على السفينة "سيتي اوف بوروس" على حادث آخر وقع في اليوم ذاته في اثينا، حين انفجرت سيارة كانت متجهة نحو عبّارة بحرية وادت الى مقتل سائقها، وتبين ان بصماته تطابق بصمات ارهابي عند ابو نضال كان قاد قبل عشر سنوات في قبرص في 18 شباط فبراير 1978 الفريق الذي اغتال صديق انور السادات الكاتب المصري يوسف السباعي، وحاول حينذاك الهروب بطائرة بعد ان حجز رهائن، ولكن الطائرة اضطرت الى العودة به الى قبرص بعد ان حيل بينها وبين الهبوط في اي مكان آخر. وقد ادى الحادث يومها، كما سبق واشرنا الى نشوب معركة بالبنادق بين المغاوير المصريين والحرس الوطني القبرصي.
اما "نجم" تلك العملية فهو سميح محمد خضر الذي كان اصبح على مدى سنوات الشخص الفعال في ادارة مخابرات ابو نضال. كان خبير متفجرات، وبارعاً في استعمال الاسلحة، وعارفاً بتفاصيل امكنة مخابئ اسلحة ابو نضال في الخارج. وعندما قُتل في انفجار سيارته بأثينا كان يشغل منصب رئيس ادارة المخابرات الخارجية وسبق له وقام بعدد من العلميات، كان من بينها القاء القنابل على مقاهٍ في الكويت. وكان حتى وقت مصرعه على رصيف الميناء هو العقل المدبر لعملية سفينة "سيتي اوف بوروس". وتبين ان المفاتيح التي عثر عليها في سيارته هي مفاتيح شقته في السويد حيث كانت تعيش احدى زوجاته الاجنبيات الثلاث وحيث كان من المفترض، حسبما ذكرت مصادر المنظمة، ان يذهب ليستخفي فيها بعد العملية.
ولكن هل كان موته مجرد مصادفة؟ ان كثيرين من رفاقه السابقين لا يعتقدون ذلك. فبعد ان انشق عبدالرحمن عيسى عن المنظمة أعلم ابو اياد استناداً الى روايته التي سمعتها من شريط تسجيلها ان موت سميح محمد خضر رتّبه ابو نضال بنفسه. واوضح عيسى ان الهجوم على سفينة "سيتي اوف بوروس" كان مخططاً له ليكون مهمة انتحارية، على اساس ان تلحق بالفريق الضارب الى السفينة سيارة محملة بالديناميت بعد ان وقّت انفجارها بعد 60 دقيقة. وكانت الخطة تقضي بأن يقود سميح السيارة بنفسه نحو العبّارة وهي معدة للشحن، وان يسلمها الى احد افراد الفريق الضارب. غير ان سميح لم يكن يدري ان ابو نضال كان اعطى الاوامر الى احد رجاله، هو هشام حرب، بأن يوقّت انفجار السيارة خلال 15 دقيقة فيقتل سميح وهو وراء مقودها متجهاً بها نحو الرصيف البحري لا ان تنفجر على متن السفينة كما كان مخططاً.
وتقول بعض المصادر داخل المنظمة ان ابو نضال تخلص من خضر لأنه اصبح قوياً اكثر من اللازم، بينما يقول آخرون ان موته كان بمثابة ايماءة لارضاء الحكومات الغربية التي كانت تضغط على ليبيا كي تتوقف عن ايواء الارهابيين، وهناك اخرون مثل عبدالرحمن عيسى نفسه، يقولون ان خضر كان قد تجادل مع ابو نضال بشأن عملية سفينة "سيتي اوف بوروس"، لأنه لم ير لها مبرراً، وظل يتساءل: "ما هي الفائدة منها؟" والواقع ان العملية لم يكن لها اي معنى ابداً باستثناء انها كانت مكيدة لزعزعة العلاقات بين اليونان والفلسطينيين. ويبدو ان خضر الذي لم يكن يعرف عن ارتباط ابو نضال المحتمل مع الموساد راح يطرح اسئلة محرجة شكلت على ما يظهر الدافع الرئيسي لقتله.
صفقة سرية مع فرنسا
في اواخر صيف 1986، بينما كان احد مراكب خفر السواحل الليبية مبحراً بين الشاطئ الليبي ومالطا اوقف وفتش مركباً صغيراً اسمه "سيلكو" كان يستعمل سابقاً لصيد السردين، وكان على متنه رجلان مع زوجتيهما وأربعة اطفال. وكان بعضهم يتحدث بلغة فلمانكية ظن الليبيون انها عبرية، كما كان احد الرجلين يحمل جواز سفر ممهوراً بختم اسرائيلي. وتم سحب المركب الى طرابلس واعتقل ركابه. ولما كان الليبيون سبق وتعرضوا قبل بضعة اشهر لهجوم اميركي وظل يراودهم الخوف من اختراق معادٍ لشاطئهم الممتد مسافة ألفي كيلومتر على البحر الابيض المتوسط فانهم كانوا سريعي التهيج. ولكن الاستيلاء على "سيلكو" كان غلطة فادحة.
وهكذا بدأت واحدة من اغرب قصص احتجاز الرهائن في الشرق الاوسط، فالقذافي لم يجرؤ على الاعلان عن الاستيلاء على المركب "سيلكو" الذي سبب له حرجاً تجاه الرأي العام الفرنسي. ولذلك طلب من ابو نضال ان يدبر قصة يغطي بها العملية، فكان هذا الاخير سعيداً بتلبية الطلب. وفي 8 تشرين الثاني نوفمبر 1987 اعلنت منظمة ابو نضال من بيروت ان مركباً فلسطينيا مسلحاً اسر "سيلكو" قرب شاطئ غزة وان ملاحيه المشتبه بانهم جواسيس اسرائيليون قد اودعوا السجن في جنوب لبنان. وفي هذه الاثناء استقر المحجوزون مع اطفالهم في معتقل مريح نسبياً داخل فيلا ليبية على شاطئ البحر وضعها القذافي تحت تصرفهم. كانوا ايمانويل هوتكنز وزوجته غودليف وابنتيهما لوران وفاليري، وشقيقه فرناند، وهم جميعاً من الجنسية البلجيكية، وصديقة هذا الاخير الفرنسية جاكلين فالانت مع ابنتيها الصغيرتين ماري لور وفيرجيني اللتين، كما تبين فيما بعد، هربت بهما من زوجها الاول باسكال بيتيل قبيل ذهابها في تلك الرحلة البحرية. وخلال فترة الاحتجاز انجبت جاكلين فالانت طفلة ثالثة هي صوفي - ليبيريّه.
وقد تم في نهاية الامر الافراج عن هذه المجموعة المختلطة من الرهائن ولكن على دفعات. وفي نطاق مبادلة واضحة وخلافاً لقرار الاسرة الاوروبية، اعادت فرنسا الى ليبيا ثلاث طائرات حربية من نوع ميراج كانت تحتجزها منذ 1986. وقد بعث الرئيس ميتران برسالة شكر شخصية الى القذافي. بل ان وزير خارجيته رولان دوما تجاوز تلك الخطوة واشاد "ببادرة العقيد النبيلة والانسانية"، ما خلق ضيقاً في لندن وواشنطن اللتين كانتا تعلمان يومها بأن القذافي نفسه كان هو الخاطف لأولئك الرهائن. وكان طمس حقيقة ما جرى للمركب "سيلكو" جزءاً من الثمن الذي انتزعه ابو نضال من الفرنسيين لقاء تعاونه.
ولم يفرج عن الرهائن الاربعة الباقين ايمانويل هوتكينز وزوجته وابنتيه الا في 8 كانون الثاني يناير 1991، فأخذوا من ليبيا جواً الى سورية ومن ثم براً الى جنوب لبنان بهدف الاستمرار في اظهار ان الذي احتجزهم هو ابو نضال وليس القذافي. وهنا ايضاً تم دفع ثمن اطلاق سراحهم، فالرئيس ميتران تحدث من جديد عن "الدور الكبير" الذي قام به القذافي لتأمين الافراج عنهم، كما ان الحكومة البلجيكية وافقت على اطلاق سراح احد رجال ابو نضال، واسمه ناصر السعيد، الذي كان امضى عشرة اعوام من اصل حكم بالسجن المؤبد، بسبب القائه القنابل على باص يقل يهوداً من مدرسة "آغودات اسرائيل" بمدينة آنتويرب عام 1980. حيث قتل في الهجوم فتى عمره 15 سنة وجرح ستة عشر آخرون.
ولعل فرنسا هي اكثر الدول الاوروبية التي اجرى معها ابو نضال صفقات سرية. فبعد اغتيال عزالدين قلق ممثل منظمة التحرير في باريس عام 1978 واكتشاف عدد من مخابئ السلاح، قررت ادارة الامن الداخلي الفرنسية ان افضل وسيلة لتحييد مثل تلك المنظمة هي عقد صفقة معها. وبالفعل جرت عدة لقاءات بين اعضاء من منظمة ابو نضال وضباط الادارة الفرنسية المذكورة في اوائل 1980، وتمت تلك اللقاءات اولاً في بلدان مجاورة لفرنسا ومن ثم في فرنسا نفسها.
وفي عام 1984 وبعض المصادر تقول في عام 1985 عقد اتفاق يسمح بموجبه لممثل سري لأبو نضال بالاقامة في فرنسا ليبقي قناة اتصال مفتوحة مع ادارة الامن الداخلي الفرنسية. وقد تبدل هذا الممثل باستمرار وعرف ان آخر هؤلاء الممثلين الذي كان مقيماً في فرنسا عام 1990 هو اميل صعب، ذو الاصل اللبناني، وكان يقدم تقاريره الى "الدكتور كمال" رئيس ادارة مخابرات ابو نضال في ليبيا. وكان "الدكتور كمال" نفسهه يقوم بزيارات متكررة الى فرنسا. يضاف الى ذلك ان السلطات الفرنسية كانت تمنح من وقت لآخر سمات دخول الى عناصر منظمة ابو نضال، كما سمحت له باقامة مشاريع تجارية، وبمعالجة بعض مرضاه في المستشفيات الفرنسية، واهدته سيارات اسعاف وسيارات "بيجو" في لبنان، وزودته بثلاث او اربع منح دراسية لأفراد من منظمته ليدرسوا في فرنسا.
ومقابل ذلك كله، تعهد ابو نضال بألا يجلب اسلحة الى فرنسا، وألا يشن هجمات على اهداف في اراضيها، وألا يستخدم الاراضي الفرنسية منطلقاً لعمليات في مناطق اخرى. ولا داعي للقول بأن اياً من الضباط الفرنسيين رغب في ان يؤكد حدوث ذلك الاتفاق، على رغم ان تفاصيله نقلها الي افراد سابقون في منظمة ابو نضال كانوا هم انفسهم ممن فاوضوا الفرنسيين.
اما سويسرا فكانت حالة خاصة في مخططات ابو نضال لأن معظم امواله كانت مودعة فيها وكان حريصاً على حمايتها. كان بحاجة الى ميزات في سويسرا مثل اذون الاقامة، وسمات الدخول، وحرية التحرك دخولاً وخروجا له ولأفراد منظمته الرئيسيين. وقد بذل جهده كي يكون على علاقة طيبة مع السلطات السويسرية وكان يوفد باستمرار ممثليه عاطف حمودة من ادارته المالية و"الدكتور كمال" من ادارة مخابراته ليتفاوضا مع السويسريين. غير انه عندما كان يحس بأن الحوار قد فتر معهم فانه لا يتردد في استخدام التدابير العنيفة. ففي عامي 1988 - 1989، عندما تم اكتشاف صفقاته المالية الدولية على اثر انشقاق ضرار عبدالفتاح السلواني مدير مؤسسته التجارية في برلين الشرقية وهروبه الى الغرب خشي ان تذعن سويسرا للضغط وتجمد امواله المودعة لديها، وقام على الفور بتوجيه رسالة الى المخابرات السويسرية يهددها فيها بانه سينزل دماراً في مطار زيوريخ، كما عمد حسب عادته، الى توجيه ضربة وقائية عندما اختطف في تشرين الاول اكتوبر 1989 مواطنين سويسريين يمثلان الصليب الاحمر الدولي في صيدا. وعندما مرت الازمة، افرج عن الرهينتين.
الاسبوع المقبل:
الحلقة الثامنة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.