قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -"حسن الفهم، وصحة المقصد هما ساقا الإسلام"، وفي مداخلة للدكتور أحمد محمد هليل قاضي القضاة في الأردن في المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار، والذي انعقد في رحاب مكةالمكرمة في بداية الشهر الحالي، والتي انتهى فيها بحثه في قضية آليات الحوار بما تحتويه من ضوابط تقوم على أصول رسخت عبر كتب السلف من الفقهاء، وحدد فيها الدكتور أحمد هليل خلال بحثه ضوابط الحوار في أحد عشر ضابطاً، وهي كما أوردها:"الإنصات، والاستماع، وتجريد الأفكار، وترك المراء، وتفاخر لا تنافر، والصدق والوضوح، والعلم والعدل، والتحاور العلمي، والحجة الرأسية، ونبل وغايات الحوار، وخلاف بلا اختلاف، إضافة إلى وجوب توافر المناخ الصحيح للحوار". لو رسمت - عزيزي القارئ - جدولاً وعَنْونتَ جزأه الأول بحسن الفهم، وجزأه الثاني بصحة المقصد، وبدأت تُوزع الضوابط الأحد عشر التي توصل إليها الدكتور هليل لوجدتها تندرج ضمن الساق الأولى، أو الساق الثانية التي تحدث عنها الشيخ ابن تيمية. أزمة عصرنا هذا، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي هي سوء الفهم، وعلة المقصد، وسوء الفهم وصلنا إليه نتيجة لعدم التزامنا بحسن الإنصات، والتركيز، والانتباه للمتحدث، وإعطائه الفرصة حتى يُكمل شرح إجابته أو فكرته أو موضوعه، والأزمة الكبرى عندما يكون المتحدث يقصد شيئاً، والمحاور الآخر بسوء فهم... يفهم شيئاً آخر، وعندما يبدأ المتحدث بتصحيح مراده، يأخذ المتلقي ذلك على أنه هزيمة، أو انتقاص من قدراته، فتكون القشة التي تقصم ظهر الحوار، ويتحول الحوار إلى حرب كلامية تخرج عن أبسط قواعد آلياته وضوابطه، خصوصاً إذا كان هذا الحوار عاماً، أو متلفزاً، وهذا الأخير قضية أو مصيبة حلت بنا، لأنها بدأت تزرع آليات، وقواعد حوارية جديدة، ستؤثر - شئنا أم أبينا - على مستقبلنا الحواري، إنها أشبه ما تكون بالفلتان الأمني، يغذيها مذيع، أو محاور يدفع بأسئلةٍ تهيئ المناخ المسموم للحوار ما يوصل إلى الاختلاف بدل الخلاف، ويدخل هذا الحوار الجدلي إلى علة المقصد، وسوء الفهم. ليس المطلوب حواراً مُدجّناً يُبعد الوصول إلى الحقيقة، ويقرب من الجهل بها، بل الالتزام بساقي الإسلام، كما ذكر ابن تيمية رحمه الله، أو كما حدد ضوابطها الأحد عشر الدكتور أحمد هليل، ليس في تأسيس الحوار مع الآخر فقط، بل في الحوار في ما بيننا مهما كانت أوجه الخلاف. استمع لمن يشارك في برنامج حواري، ترى كيف يدفعه محاوره إلى الاختلاف مع من يشاركه ذلك الحوار، وتجده أطلق للسانه العنان من دون مشاركة العقل، وإذا كنت سبق وأن قرأت له مقالاً، أو كتاباً ستجده غالباً مختلفاً في الطرح، والرؤية، وما دفعه إلى هذه الصورة هو عدم توافر المناخ الصحيح للحوار، أو المناقشة، تراه في كتاباته يعيش مع عقله وأوراقه وقلمه، أما حديثه التلفزيوني مثلاً فإنه يُدفع دفعاً للاختلاف مع محاوره الآخر بحجة تطبيق مفهوم الاتجاه المخالف. شاهدت برنامجاً أسبوعياً ذاع صيته، وكان أحد ضيفي الحلقة متناغماً بشكل تام مع متطلبات وأسلوب ومنهجية البرنامج والتي تتطلب رفع الصوت بالتشكيك والسباب وتخوين الآخرين، ونرفزة ورفع ضغط المحاور الآخر، أما الضيف الآخر فكان هادئاً ترك محاوره يقول ما يشاء من دون مقاطعة، وظل يستمع ويسجل الملاحظات، وعندما طلب منه مقدم البرنامج التعليق بدأ حديثه وكان عن القضية الفلسطينية بحقائق وشواهد تاريخية أثرت على هذه القضية وأوصلتها إلى ما وصلت إليه من ضعف وتمزق حتى بين أصحاب القضية أنفسهم، وأن الله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وبدأ يتحدث عن أسس ومعايير المقاومة الميدانية أو السياسية، وضرب أمثلة بزعماء مقاومة، وذكر منهم المهاتما غاندي، عندها قاطعه مقدم البرنامج بطريقة تشعر من خلالها بعدم الرضا عن الأسلوب، وانتقل إلى الضيف الآخر موجهاً الحديث إليه بتعليق بلوره وفق منهجيته التحريضية. ومن منطلق الاستهزاء بدأ الضيف الموالى لمنهجية البرنامج بتعليق ساخر"يعني بدك أبو عمار ? وكان البرنامج قبل وفاته ? يمسك عََنْزَة بيده ويعلن تحرير فلسطين"، وبدأ يشكك في كل شيء قاله الرجل ويكيل الشتائم لكل من مر بذاكرته وظل الآخر متماسكاً يتمتع برباطة الجأش وعقله يسبق لسانه في حديثه، وعندما لم يتبق على انتهاء البرنامج سوى خمسة عشر دقيقة نفد صبر مقدم البرنامج وانفجر قائلاً له: يا أخي البرنامج قرب ينتهي وأنت لم تقل شيئاً، يا أخي عم بيقول لك العمالة والخيانة هي اللي ضيعت فلسطين وأنت قاعد تحدثنا عن غاندي وفيتنام وما أدري شو، شو ها الحلقة هاي بدأ يشعر الضيف العاقل أنه أسيئ فهمه وخوفاً من اتهامه بالعمالة والخيانة فقد توازنه وانتفض انتفاضة تجاوزت ما يتمناه ويسعى إليه مقدم البرنامج الذي انفرجت أساريره وهو يسمع هذا الكلام وختم البرنامج بزفرة وتنهيدة أشعر المشاهد خلالها بالمشقة التي واجهته حتى وصل إلى هذه النتيجة مع المحاور الهادئ العاقل المتزن الذي بدأ بالحقائق والأرقام وانتهى بالمزايدة على إلقاء التهم والسباب. نعم إن الاتجاه المخالف في الحوار الذي نشاهده هذه الأيام أصبح يؤطر للاختلاف لا الخلاف، وأصبح أشبه ما يكون بمحاكمة أو استجواب استفزازي، أوصلنا إلى درجة من الشك في مواقف بعضنا الوطنية، وفي بعض الأحيان العقدية، وللأسف هنالك تسابق على تبني هذا التوجه، اعتقاداً أن ذلك يزيد مكاسب عدد المتابعين والمعلنين، وعندما تستعرض أيضاً بعض المواقع على"الإنترنت"وما يطرح بها من تأجيج للاختلاف، وهي بعيدة عن أبسط قواعد وضوابط الحوار وآلياته... تعرف مدى تأثير المد الحواري الفوضوي الذي كرسته بعض وسائل الإعلام خصوصاً المشاهدة منها. يقول اليفرويندل هولمز... التحدث ثمرة المعرفة، أما الاستماع فهو ثمرة الحكمة، والحوار الإعلامي الذي أعنيه هنا تجده في معظمه بعيداً للأسفِ عن المعرفة، والحكمة، حتى الوثائق، والحقائق أُهينت بسبب قلبها، وتزييفها، والسبب إما سوء فهم، أو علة في المقصد، أو التزمت في تبني مواقف معينة مهما كان تأثيرها وأبعادها. أعتقد أننا في حاجة ماسة إلى تبني حوار يشارك فيه الأدباء، ورجال الإعلام باختلاف مشاربهم، للخروج برؤية تُؤَسّسُ من خلالها آليات وضوابط للحوار الأدبي والإعلامي، لأن هذا بمثابة البنية التحتية التي ستسهم في دعم الأهداف والكليات العليا للحوار، سواءً في الحوار بين المسلمين أنفسهم، أو مع الآخر. [email protected]