تتكون الخارطة الديموغرافية السعودية من قبائل كثيرة، ومن عائلات وأُسَر لا حصر لها، سواءً من الحاضرة أو من البادية، ويتمتع المجتمع السعودي بتنوع عاداته وتقاليده الاجتماعية في طول البلاد وعرضها. وبعد توحيد البلاد عام 1932 تشكلت هذه العادات والتقاليد في إطار كبير يتسم بالتعايش والتآخي تحت مفهوم وطني يتفق الجميع على أهميته كعامل استقرار أساسي ومهم لكل السعوديين على اختلاف أماكنهم ومستوياتهم الفكرية والاقتصادية. لكن مع ظهور الساتلايت بتنا نلاحظ على القنوات الفضائية، خصوصاً القنوات التي تفضل مخاطبة المشاهد المحلي من منبر التراث والأدب الشعبي، نشوء خطاب جماهيري جديد يتشكل من منطلقات قبلية تحمل شعارات ومفاخرات تعتبر من أدبيات التشظي والتشرذم التي كانت موجودة في الجزيرة قبل عام 1932. هذه الظاهرة امتدت في ما بعد إلى مستوى أخطر، ألا وهو إحداث احتفالات قبلية تستعرض فيها كل قبيلة أجود ما لديها من إبل، وهذا على صعيد العناية بالثروة الحيوانية والحفاظ على سلالاتها الرفيعة، شيء طيب، ولكن المشكلة تكمن في وقوف هذه الاحتفالات أمام المتابعين كما لو أنها مجرد مسابقة عادية، بينما المتواري الذي لا يلاحظه كثيرون يقبع في الوعي القبلي الذي لم تمر على محاولات تشكيله مدنياً ووطنياً إلا مدة زمنية قصيرة قياساً بما يحمل في داخله من ثقافة ومفاهيم كانت إلى وقت قريب تمثل عمق الفكرة القبلية. لا أشكك في وطنية أحد، وأزعم أن عقلاء ووجهاء وشيوخ القبائل السعودية لهم دور كبير في ربط هذه المسابقات بالتعبير عن الحب للوطن ونبذ ما يهدد الوحدة الوطنية، ولكن رقعة تلك الاحتفالات اتسعت لتشمل كل القبائل تقريباً، إذ تستعين بالشعراء الشعبيين والرواة، وحفاظ القصص والوقائع القديمة، وحشد الجماهير، واستخدام وسائل البث المرئية في نقل المناسبة، كل ذلك ربما أدى إلى نكوص اجتماعي وثقافي مقيت. يحكي لي صديق أن الأمر وصل عند بعض القبائل إلى مستوى الطلب من كل فرد موظف أو متزوج، بأن يسهم مادياً في تغطية كلفة احتفال ما يسمى مزايين الإبل الخاص بقبيلته، وهذا يشكل عبئاً اقتصادياً إضافياً على المواطن السعودي، وقد يكون هذا المواطن ممن لا يهتمون أصلاً بالإبل ولا يقتنونها. وعادة ما يقع هذا المواطن بين خيارين ليسا في كل الأحوال مما يساعد في اتخاذ قراره بنفس مطمئنة. الأول أن يدفع الإسهام امتثالاً لمناخ عام يصعب رفضه والتملص منه، والثاني أن يتسلح ببعض الشجاعة الأدبية ويحاول طرح وجهة نظره حول عدم اقتناعه بالفكرة، وفي هذه الحالة سيتعرض لمقولات مضادة قد تذهب بعيداً في تفسير موقفه، وحتماً سيسمع نصائح بالعودة عن قراره لأن مثل هذا القرار سيحسب تخلفاً عن موقف القبيلة من وجهة نظر الداعين إلى تبني الفكرة. من هنا يتبين لنا الدور الخطر الذي يمكن أن تلعبه وسائل الإعلام في تشكيل الوعي، وفي توجيه الجماهير إما إلى الأفضل أو إلى الأسوأ. ففي الشريط المتحرك أسفل كل شاشة فضائية من تلك الفضائيات المقصودة بكلامي، دبت الأحرف والكلمات في البدء كتعبير عن مشاعر المتابعين الطيبة حيال مواضيع وأسماء ورموز تحتضنها الشاشات أو تحتفي بها، وبدا الأمر كما لو أنه مباركة جماهيرية للطرح الإعلامي الذي تتبناه تلك الفضائيات. غير أن شراهة الشريط المتحرك انفتحت بعد ذلك على أبعاد أخرى تقترب شيئاً فشيئاً من الفتنة النائمة إذ رصت العبارات مدحاً وقدحاً في أشخاص وقبائل وعائلات إلى درجة الابتذال والسفه. إننا أمام ظاهرة مخيفة إذا ما نظرنا إليها كدليل على علو صوت قيم التشظي، ومفاهيم التشرذم عند البعض. وأحسب أن التنبه لأخطارها إنما هو لمصلحة ترسيخ القيم الوطنية، وتأكيد أهمية الانتماء لكيان واحد يتمتع فيه الجميع بروح التطلع إلى مستقبل أفضل، لا يمكن الوصول إليه إلا بشروط وطنية وحضارية تطمح إلى تحقيقها كل الشعوب، وليس شعب المملكة العربية السعودية فحسب. ** إضاءة: الذي ينام على السطر تدهسه الكلمات!