طبيعيّ أن تتأثر مناطق الكرة بالمناخات الإقليمية، وتمتاز عن بعضها بما خصّتها به تلك المناخات، من طبائع وثروات بيئية وتنوع إحيائي، وتالياً تأقلم ناسها مع المحيط المتميّز، واختصاصهم بأساليب عيش وأنماط زراعية وغيرها. وعلى رغم توسع بساط العولمة، تحتفظ الأقاليم المتمايزة مناخياً بخاصياتٍ اقتصادية تترجم في أنواع الغذاء وتنوّع الحرف اليدوية والصناعية تبعاً للاحتياجات. ففي حيّزٍ واسع من الحياة اليومية تحتاج المجتماعت إلى غذاء وسلع لا تتلاءم واختلافات المناخات، بخاصةٍ بين المناطق الحارّة والمناطق الباردة. لكن التغيّرات في المناخ العالمي، وتلك المحتملة، وما ينتجُ عنها من اختلالات طبيعية، تؤثر في أنماط الحياة وتُبدِّل طبيعتها، أقلّه في الفترات الطارئة المقلقة. وهذا ما يترجمه التبدّل المناخي في صفحة السنة الحالية، التي تنوّعت بين كوارث جفاف نتيجة ارتفاع في الحرارة روسيا، وكوارث طوفانات الصين، الهند وباكستان، وما نتج عنها من خسائر مادية كبرى ببلايين الدولارات إضافة الى خسائر في الأرواح والممتلكات لا تعوّض، بل يمتد تأثيرها إلى سنوات وقد تتضاعف كنتيجةٍ لتبدلات مناخية متلاحقة. في هذه الحلقة من مسلسل التغيّر المناخي، شهدت المنطقة العربية بدءاً من دول الخليج وانتهاءً بمصر والأردنولبنان وسورية وحالياً المغرب العربي، ارتفاعات استثنائية في الحرارة يعزوها علماء المناخ إلى اتجاه سيطرة المناخ الصحراوي لا سيّما في لبنان وسورية، وإلى مفاعيل التغيّر المناخي العالمي. وتعاني بلدان المنطقة، نتيجة الارتفاع الحراري، من اشتداد الطلب على الطاقة الكهربائية، كنتيجة لتكثيف تشغيل أجهزة التكييف والتبريد سواء في المنازل أو المحال او دور العبادة أو المكاتب والفنادق أو في الصناعات، وغيرها.إذ ازدهرت - كنتيجة للحر الشديد الاستثنائي - تجارة أجهزة التبريد بأنواعها واستهلك المخزون منها في كل من لبنانوالأردن وسورية ومصر وغيرها، مع تحقيق التجار أرباحاً استثنائية، استغلالاً للظروف. لكن اشتداد الحر الاستثنائي، يكشفُ"عوراتٍ"في الإنتاج الكهربائي، قد يسترها الطلب العادي على الكهرباء. ففي مصر كادت الشبكة أن تنهار كلياً لو سُمح بنقل كامل الطلب عليها، ما يعني أن المشكلة ليست في عدم توفر معامل للإنتاج بل أيضاً في الشبكة ومحطات التحويل. يضاف إليها نقصٌ في الإنتاج قياساً إلى الفترة الشديدة الحر. واضطرت سورية إلى استجرار الكهرباء من تركيا، وعانى الأردن نقصاً في الطاقة، واشتد الطلب كثيراً في ساعات الذروة في الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية ومصر، لكن المسألة الأكثر دراماتيكية كانت في لبنان. ففي"الوطن الصغير"تتجمّع فصول المأساة منذ"حروبه الداخلية"، التي قطّعت أوصال الشبكة والمعامل والتوزيع والجباية وما يتعلق بالكهرباء على مدى عقدين، ولم تستطع مؤسسة كهرباء لبنان ولا الدولة وضع برنامجٍ طموح لتطوير الكهرباء، يلحظ نمواً سنوياً في الإنتاج يوازي النمو في الطلب المقدّر بين 7 و8 في المئة. وفي ظل المعاناة في نقل المحروقات النفطية، استطاعت المؤسسة إضافة وحدات إنتاج إلى معملي الذوق والزهراني وصيانة مجموعات معمل الجية، لكن الشبكات كانت تتعرّض للقذائف والقنابل فتبقى مقطّعة في الجزء الأكبر من السنة، ومثلها محطات تحويل رئيسة. ومع انتهاء الحرب الداخلية لم تستطع المؤسسة مجاراة التطور والنمو مع بدء مرحلة"إعادة التأهيل والإعمار"التي أطلقتها الحكومة في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. لأنها كانت مضطرة إلى استبدال شبكة النقل وتجهيزاتها كاملةً، وزيادة محطات التحويل وتنظيم علاقاتها مع الزبائن وصيانة مجموعات التمويل التي أنتجت الطاقة فترات تجاوزت كثيراً تلك المحددة لها بين عمليات الصيانة الدورية. وعلى رغم ذلك بنيت محطات إنتاج في الشمال والجنوب والبقاع لتعمل بالغاز وب"الدارة المختلطة"، لكنها انتظرت في الشمال حتى هذه السنة لتستورد الغاز من مصر، بعدما تعذّر تأمينه من سورية لأسبابٍ اهمها أنه لم يعد متوفراً لدى إنجاز معمل الشمال دير عمّار. وأدى استخدام"الغاز اويل"في تشغيل هذه المعامل إلى خفض إنتاجيتها، وإلى انتقاص هذه الإنتاجية عبر الشبكة التي تستهلك 12 في المئة من الطاقة العابرة. ولا يخفى أن هذه المعامل واجهت مشكلات فنيّة لدى تسلمها، نظراً إلى أنها لم تكن مطابقة لدفاتر الشروط. ولم تكفِ الحروب الداخلية والتأخيرُ في تجهيز معامل الإنتاج واستنفاد الأموال المتوفرة في تجديد شبكات النقل، بل كانت معامل إنتاج الطاقة والمحطات الأساسية للتوزيع أهدافاً استراتيجية في الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، فتعرّضت معامل الشمال والجية وبعبلك لأضرار أهمها في معمل الجية عام 2006، ومحطة بصاليم لأكثر من اعتداء، ما أثّر على تغذية العاصمة وجبل لبنان والقطاعات الإنتاجية المهمة، وفي حالات قطعت الاعتداءات الإسرائلية الكهرباء عن كل الأراضي اللبنانية. في مثل هذه الأوضاع، ونظراً إلى أنّ ثمن مبيع الطاقة لدى مؤسسة كهرباء لبنان لا يوازي ثلث تكلفة الإنتاج - من دون احتساب نفقات إصلاح الأضرار الناتجة عن حروب- لم تستطع المؤسسة أن تستغل إمكانات تنوع مصادر الطاقة لا سيّما الإنتاج بالطاقة النووية واستغلال مصادر الحرارة الشمسية وطاقة الرياح ... وعلى رغم أن السياسة الاقتصادية للحكومة أرست مبدأ تخصيص مؤسسات القطاع العام، اعتُمِد برنامجٌ مستقبلي للكهرباء تمويلُه من الخزينة. علماً أن خمسي الإنارة تؤمنهما الموّلدات الخاصة وتتقاضى خمسة أضعاف ما تجبيه"كهرباء لبنان"عن"وحدة التغذية المتوازية". وكان يمكن أن تلجأ الحكومة إلى طرح مشاريع الكهرباء والمياه بطريقة"التمويل والتشغيل والاسترداد"بي أو تي كما فعلت سورية أخيراً. لا شك في أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد الطلب على الكهرباء، ما يعني ان على دول المنطقة أن تلحظ زيادة في المشاريع لتلبي، ليس فقط ساعات الذروة اليومية، بل"ذروة الذروات الموسمية"لدى اشتداد الحر.