انتهت الجولة السادسة للمبعوث الأميركي الى المنطقة جورج ميتشل من دون تحقيق أي اختراق جوهري لجهة وقف العمليات الاستيطانية واجراءات التهويد التي تقوم بها سلطات الاحتلال في مناطق الضفة الغربية وفي مدينة القدس ومحيطها. كما انتهت الجولة والأمور تراوح مكانها لجهة الجمود المطبق على العملية السياسية في الشرق الأوسط على رغم ضجيج المواقف الاعلامية الأميركية التي دأبت على نشر"التفاؤل المصطنع"وعلى ترديد الشعارات التي كان قد أطلقها الرئيس باراك أوباما في خطابه للعالمين العربي والاسلامي في القاهرة في حزيران يونيو الماضي، بخصوص الدور الأميركي الجدي لتحقيق فرص السلام في الشرق الأوسط انطلاقاً من قرارات الشرعية الدولية. ومن حينه اعتقد البعض أن مسار الأحداث في المنطقة بات يحمل معه انقداحات واشتعالات جديدة لأفكار أتت من كل حدب وصوب، في سياقات بدا فيها واضحاً أن إدارة الرئيس باراك أوباما بحاجة لتحقيق انجازات نوعية تدفعها لتجاوز الورثة الثقيلة التي ناءت بأعبائها من الإدارة السابقة. فيما اندفع بنيامين نتنياهو لإعادة إنتاج رؤيته السياسية السابقة للحل مع الفلسطينيين والعرب بشكل عام بثوب جديد يحمل معه خطوط وزخارف المواقف المتطرفة لأحزاب الائتلاف الحكومي. لكن الطامة الكبرى كانت وما زالت في فقدان التوازن في السياسة الأميركية التي ما زالت تراوح عند تخومها المعروفة. وعليه، فقد عاد جورج ميتشل الى واشنطن خالي الوفاض بعدما فشل في اقناع حكومة نتنياهو بوقف عمليات الاستيطان والتهويد الجارية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتي زادت من شروطها مطلباً جديداً عنوانه ضرورة اهمال العرب لتقرير غولدستون الدولي الصادر بشأن ما جرى في قطاع غزة خلال العدوان الاسرائيلي الأخير، وعدم القيام بتفعيله واستثماره على المستوى الدولي. وبالتأكيد فان مرد فشل ميتشل لا يعود الى استحالة قيام الادارة الأميركية بالضغط على اسرائيل لاجبارها على وقف عمليات الاستيطان والتهويد، بل يعود الى عدم توافر النية الجدية لدى الولاياتالمتحدة للضغط على اسرائيل لدفعها الى وقف عمليات الاستيطان فوراً، وتفضيلها خيارات الحديث السياسي معها مصحوباً بضغوط اعلامية ناعمة لا تجدي نفعاً مع حكومة ائتلافية تتشكل من عتاة المتطرفين داخل الدولة العبرية. اضافة الى ذلك، فان تكتيك الادارة الأميركية في معالجة موضوع الاستيطان بات مفضوحاً وواضحاً، في مسعى تريد من خلاله الولاياتالمتحدة مقايضة مسائل وقف الاستيطان بتحقيق انجازات صافية للدولة العبرية، ليس أقلها تحقيق انفتاح عربي معها بدرجة ما، يشكل اختراقاً مهماً لجهة كسر المقاطعة العربية، وانجاز حملة علاقات عامة في العالم الاسلامي لتجميل وجه إسرائيل، وتسويق عمليات التطبيع معها. وتشير معلومات متداولة الى أن الرئيس أوباما بعث أخيراً برسائل الى بعض القادة العرب، طالبهم فيها باتخاذ خطوات ملموسة تجاه إسرائيل بهدف بناء الثقة، وذلك كي تتمكن الإدارة الأميركية من الضغط عليها لتجميد البناء في المستوطنات في الضفة الغربيةوالقدسالشرقية. والخطوات المقصودة تحديداً تحمل طابعاً ذا مغزى، وتدعو لما يسمى"خطوات ملموسة تطبيعية"من العرب في الإطار الرسمي ل"اغراء إسرائيل"ودفعها الى وقف عمليات التهويد الجارية، في عملية حاول فيها ميتشل مبادلة وقف الاستيطان التهويدي بالتطبيع العربي، فبدت زيارته الأخيرة وكأنها عامل تعزيز للطرف الإسرائيلي في ظل استعجال اسرائيل لكسب الوقت بهدف استكمال تنفيذ المشاريع والخطط الاستيطانية في عموم الأرض المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية وفي القدسالشرقية ومحيطها على وجه الخصوص. ان مبعث النقد الصارخ لمضمون رسائل أوباما الى بعض الأطراف العربية وما تضمنته بالنسبة الى عمليات الاستيطان، ودعوات هيلاري كلينتون وجورج ميتشل، تنطلق من أن الاستيطان عملية مرفوضة حسب القانون الدولي، وبالتالي فان المقايضة التي دعا إليها الرئيس أوباما ومبعوثه دعوة غير متوازنة وتضع العربة أمام الحصان. والأكثر من ذلك فان المعلومات شبه المؤكدة أشارت أيضاً إلى حديث يتعدى مقايضة وقف الاستيطان بالتطبيع العربي، كفتح المجال الجوي أمام الطيران المدني الإسرائيلي، وفتح قناة السويس للبوارج الاسرائيلية، وتخفيض المقاطعة العربية التجارية مع إسرائيل، كل ذلك باتجاه السعي الى تطبيع إسلامي بين الدول الإسلامية ال 57 والدولة العبرية. وفي هذا السياق، تشير المعلومات المستقاة من مراكز البحث الأميركية المتابعة لقضايا الشرق الأوسط الى أن شعوراً عارماً فرض نفسه على صانعي القرار في الإدارة الأميركية الجديدة، ومفاده أن قضايا الشرق الأوسط والصراع العربي - الإسرائيلي متداخلة تداخلاً هائلاً يجعل من الصعب تفكيك كل مشكلة أو قضية لوحدها من دون باقي العناصر المتبقية. وهو ما دفع الإدارة الأميركية الى التفكير في حلول متداخلة، اختارت لها تسمية"الرزمة". ومن الوجهة الأميركية، إذا أثمرت جهود إدارة الرئيس أوباما في"إقناع"الدول العربية، أو بعضها، باتِخاذ خطوات معيَنة لتطبيع العلاقة مع إسرائيل فإن الثمار، أو بعضها، تصبح ممكنة النضوج بعد أن تصبح حكومة نتنياهو قادرة على إعلان القبول بالوقف التام للنشاط الاستيطاني أي بعد أن تكون قد استكملت تنفيذ مشاريع البناء الاستيطاني التي تزعم أنها بدأت بها منذ بعض الوقت، ولا تستطيع إيقافها، وهذا يعني من وجهة نظر المتفائلين بإمكان نجاح التحرك الأميركي تهيئة الأجواء لانطلاق المبادرة المرتقبة للرئيس باراك أوباما، وعودة العملية التفاوضية بين سورية وإسرائيل إضافة الى المسار الفلسطيني من أوسع أبوابها، في سياق"رزمة من الحلول". وعليه، فان جورج ميتشل في زيارته الأخيرة عاد وكرر الحديث عن ضرورة إدخال تعديلات على مبادرة السلام العربية. ولكن، وفي مطلق الأحوال، فإن بروز تغيير حقيقي في الموقف الأميركي، وإحداث تحول نوعي في موقف إدارة أوباما من قضايا الصراع في المنطقة، غير ممكنين في ظل غياب إستراتيجية المواجهة السياسية والدبلوماسية العربية، ومراوحة الموقف العربي مكانه، مستنداً إلى لغة الرجاء والاستجداء، والتعويل على الموقف الأميركي، والارتهان إليه. فتطوير المواقف الدولية الجدية والضاغطة على إسرائيل يتطلب من العرب رسميين وغير رسميين مغادرة منطق الاستجداء لصالح اشتقاق سياسات جديدة لا تسمح بالعبث بأسس المواقف التي أجمع عليها العرب والهبوط بمضمونها تحت شعار تقديم الإغراءات لحكومة نتنياهو. * كاتب فلسطيني. نشر في العدد: 16972 ت.م: 22-09-2009 ص: 11 ط: الرياض