مع وضد يمزج آموس عوز الواقعي والمتخيل في روايته الحداثية القصيرة"تسجيع الحياة والموت"الصادرة في بريطانيا عن دار شاتو أند وندوس. يتناول كاتباً شاباً يعمل محاسباً ويعاني من خوف الاتصال الجسدي بالآخرين، ويعوّض بمراقبة الناس والكتابة عنهم من دون أن يعرفهم. على أنه ليس مجرد متفرج، فهو يخترع حياة لمن يشاهدهم أثناء جلوسه في المقهى قبل توجهه الى أمسية عن أدبه كأنه يعوض عن الانفصال الفيزيقي بالاتصال الذهني. لا اسم للمؤلف الذي تجذبه النادلة و"يراها"في لقاء حميم مع حارس مرمى في فريق كرة قدم. يتخيل أحد رواد المقهى ملحداً عنيداً يتساءل مع رفيقه المؤمن عن القاتل لدى مشاهدة فيلم بوليسي يستدرجهما الى النقاش في الإيمان والعدالة والطريق الى اليقين. يتمسك المؤمن بوجود علة لكل حدث، لكنه يفتقر الى الصلابة ويعترف بأن فهمه العالم يقل باطراد. يتابع من يسميه عوز"المؤلف"تمرين ابتكار حياة لمن يلفته في الأمسية الأدبية، وفي ربطه حياة الشخصيات"الحقيقية"يخترع شخصيات أخرى بينها شاعر كتب ديواناً بعنوان"تسجيع الحياة والموت"وفائز باليانصيب سكب ماله على الملذات قبل أن يرقد في ظل الموت الحائم حوله. شارك عوز في تأسيس حركة"السلام الآن"في 1987، وهو اليوم عضو في حزب ميريتس اليساري الذي فاز بثلاثة مقاعد فقط في الانتخابات الأخيرة. يجد في قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربيةوغزة الحل الوحيد للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، لكنه ضد عودة اللاجئين لأنها ستؤدي الى دولتين فلسطينية وفلسطينية وتحرم اليهود دولتهم. قاتل في حرب 1967 السريعة ثم في حرب الغفران في 1973، ولئن كره الحرب لم يخجل من اشتراكه فيها. ليست هذه الشر المطلق بل العدوان الذي لا يصد الا بالقوة، وكان الدفاع عن النفس ذريعته في تأييد العدوان الصيفي على لبنان في 2006، ثم ذلك الشتائي على غزة أخيراً. عندما توسع قصف لبنان عقد مؤتمراً صحافياً مع زميليه أ. ب. يهوشع وديفيد غروسمان للمطالبة بوقف النار، وعندما تعدى قصف غزة حدود الدرس الذي وافق على تلقينها اياه غضب بالتساوي من حماس وإسرائيل. وفي حين يعترف غروسمان بحصار غزة وازدياد المستوطنات سببين لإطلاق حماس الصواريخ على اسرائيل، يتجاهلهما عوز ويبرر"رد"حكومته أولاً ثم يعترف بأنه لا تمكن المقارنة بين الدمار والقتلى والعذاب الذي تسببت فيه غزة طوال ثماني سنوات وذلك الذي أحدثته اسرائيل في عشرين يوماً. وإذا كانت حكومته استخدمت حقاً قنابل دايم والفوسفور الأبيض فإن هذه جريمة ولا مبرر لها. كان في التاسعة عندما صادقت الأممالمتحدة على قيام دولة اسرائيل في 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947، وتذكر في"حكاية حب وظلام"كيف رقص اليهود في شوارع القدس. يعتبر ديفيد غروسمان هذه المذكرات تحفة عوز الذي يقول انه اختلف فيها عن الابن الذي نشأ على أيدي والدين خائبين رميا على وحيدهما كل آمالهما. تكلما معاً ست عشرة لغة لكنهما علماه العبرية وحدها، وبعد انتحار والدته وهو في الثانية عشرة تمرد وقصد كيبوتز هولدا، وغير اسم أسرته من كلوسر الى عوز التي تعني"القوة". أخفى بلاغته لكنه فشل في العمل اليدوي ووجد نفسه ذات ليلة يكتب وهو يجلس على كرسي الحمام. بعد"حيث تعوي بنات آوى"في 1965 نشر نحو خمسة وعشرين كتاباً في الرواية وغيرها التقط فيها البناء الداخلي المعقد للفرد وهشاشة قوته العقلية وسهولة ارتكابه العنف ضد الآخر. الصوت ليلاً كان في باريس، مدينته المفضلة، عندما علم بربيع شاربفيل في 1960. قتلت الشرطة في بلاده تسعة وستين مواطناً أسود فكره منذ تلك اللحظة"مجرد فكرة جنوب أفريقيا". في الثالثة والسبعين يستعيد أندره برينك انقلابه الشجاع على ماض راسخ في"شوكة في الطريق: مذكرات"الصادرة في بريطانيا عن دار هارفل سيكير. حددت الكنيسة الهولندية البروتستانتية حياته ورغب في الكهنوت طفلاً. ورث الإيمان بتفوق البيض في جنوب أفريقيا، لكنه بقي يسمع صوت اللطم ليلاً بعدما رأى أصدقاء للأسرة يضربون بعنف رجلاً أسود، وأحس أن الصوت سيبقى في أذنيه طوال حياته. تذرع الحكم البريطاني ثم الهولندي في جنوب أفريقيا بمحاولة تحضير السود تبريراً لقتلهم، وبرهن الفتى انه تلميذ نجيب لثقافته حتى منتصف عشريناته. انضم برينك الى جماعة"سستيغرز"أي الستينيين التي ضمت بعض الوقت كتّاباً شباناً من أصل هولندي دانوا نظام التمييز العنصري. اعتمدوا في الكتابة لغة الأفريكانز الهولندية التي كانت أصلاً لغة المقاومين السود وتبناها النظام الأبيض المؤمن بتفوق جنسه. راقب الكم كتاب"سستيغرز"ومنعهم من النشر، وعندما أصدر برينك"التفرج على الظلمة"في 1974 عن ممثل أسود يتعرض للتعذيب لعلاقته بامرأة بيضاء، كانت أولى الروايات بالأفريكانز التي تمنع، وتبعها عشرون ألف عمل معاد للنظام. خرجت الرواية عن التصوير الشاعري التقليدي لأفريقيا الجميلة الحبيبة التي يظهر السود فيها خدماً وبلهاء وبدائيين، ونفر حتى أصدقاؤه كتاب الأفريكانز الذين منعوا الكتابة بالإنكليزية ونشرها بلغتهم. فتحت الشرطة بريده وراقبت هاتفه وخلعت بابي سيارته وبيته وسط عداء طاول أسرته وأصدقاءه. بدأ ينشر أعماله بالإنكليزية في الخارج، فاتهم بالخيانة لارتباط الإنكليز في الوعي الجمعي الجنوب أفريقي بالاستعمار وحرب البوير في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. يلفت برينك الى أن الكتابة السياسية لا تلائم مزاجه لكن التمييز العنصري فرضها. تناول الأحداث المعاصرة في"موسم أبيض جاف"و"فعل ارهاب"و"حالات طوارئ"، وكان عليه أن يتحمس لحزب"الكونغرس الوطني الأفريقي"لكنه ما لبث أن انتقده عندما استلم الحكم. رفض الفساد، ارتفاع نسبة العنف، علاج الإيدز بالأغذية والصلاة بدلاً من الأدوية، وتأييد الأنظمة الدكتاتورية في أفريقيا وخارجها. يرى النظام الحالي عاراً على تاريخ الحزب، وعدواً للشعب. ويؤيد الفسطينيين الذين يواجهون أحد أقسى أنظمة القمع في العالم. يذكر زيارته نصب آلاف المفقودين في التشيلي في عهد الجنرال بينوشيه، ورسالة كتبت بخط أخرق وتركت أمام النصب مع باقة ورد:"أحاول منذ اثنتين وعشرين سنة أن أعثر على مكان أضع فيه زهرة لك". لقاءه كارينا البولندية الأصغر من أصغر أولاده سنا وزواجه بها. وقوفه أمام والده المحتضر ورغبته فجأة في خنقه بالوسادة لكي ينهي عذابه ويحصل على رابط ما :"بحثت طوال حياتي عن اشارة حب واضحة منه".انتحار عشيقته انغريد يونكر في 1965 ومحاولة عشيق آخر لها القفز على قبرها ليدفن معها. وزير الدعاية بدأ معرض"فان دايك وبريطانيا"قبل يومين في غاليري تيت بريتن ويستور حتى السادس عشر من أيار مايو. غير الفنان البلجيكي الذي تزوج امرأة انكليزية البورتريه في الجزيرة الغائمة، وأخلص جوشوا رينولدز وتوماس غينزبره للأسلوب الذي أغنى فن بلادهما. زاوج العفوية المدروسة والمهارة التقنية، وأظهر البعد النفسي لا المظهر البهي وحده لأبناء وبنات الطبقة العليا بملابسهم البهيجة وأناملهم الرفيعة. أحضر الملك تشارلز الأول الفنان الشاب الى بريطانيا عندما كان يحكمها وحده من دون برلمان فلعب دور وزير الدعاية، وأظهر الملك المغرور القصير القامة رجلاً مهيباً ذا شجن نبيل وكرامة هادئة. رسمه ببزة القتال على حصان أبيض أمام سماء يختلط بياضها بزرقتها فأكد الحق الإلهي للملوك الذي آمن تشارلز الأول به بعناد أدى الى قطع رأسه في 1649. منح السير أنطوني فان دايك الملك الذي كرمه سلطة لطيفة في فترة قاتمة أدت الى الحرب الأهلية. جمله و"أصلح"أسنانه السيئة، وحوله في الهيئة الثلاثية مسيحاً أنيقاً قبل سنوات من موته بالفأس. شاهدت الأميرة صوفي الملكة هنرييتا في لوحات فان دايك، وعندما التقتها لم تعرف المرأة التي" خرجت أسنانها من فمها مثل بنادق من قلعة". كان ابن تاجر حرير ثري، وفتن بالقماش الفاخر الذي برع في التقاط سقوط الضوء عليه بثنياته وتغضنه. مجّد سلطة المال والجمال الذي يستطيع شراءه، على أن القتام يأتي من المعرفة أن الملك الذي يشرق وجهه بضوء من عل سيفقد رأسه بعد حين، وأن اللوردين المراهقين الأنيقين جون وبرنارد ستيوارت سيقتلان في المعركة دفاعاً عنه ضد جيش أوليفر كرومويل. لا يأتي التعبير من التاريخ وحده بل أيضاً من فان دايك الذي حوّل السير توماس هامنر من شاب باهت ممل بريشة الإنكليزي كورنليوس جونسن الى آخر متوهج الوجه مثير للاهتمام بيد النان البلجيكي. عندما مرض وهو في الثانية والأربعين أغرى الملك طبيبه الخاص بثلاثمئة جنيه اذا شفاه. لم يفعل. انتظر فان دايك ولادة طفلته ورحل بعد خمسة أيام. تبعه الملك بعد ثماني سنوات. نشر في العدد: 16758 ت.م: 20-02-2009 ص: 24 ط: الرياض