من الصعب الوصول إلى تقويم موضوعي كامل لفعاليات الدورة الأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، من 23 كانون الثاني/ يناير الماضي الى 4 شباط/ فبراير الجاري، ففي الوقت الذي طرأت تحسينات كبيرة على مستوى الخدمات المقدمة لرواد المعرض، حال طقس شتوي بارد دون توافد الأعداد الكبيرة من الجمهور، ومن ثم تأثر حجم المبيعات سلباً. وأكد عدد من الناشرين لپ"الحياة" تقلص البيع للأفراد في مقابل زيادة واضحة في مبيعات الجملة، وهي زيادة كانت متوقعة بفضل افتتاح مكتبات جديدة تقدم خدماتها للجمهور بنظام"book shop coffe"في أرقى أحياء العاصمة المصرية. ووفقا للارقام الرسمية شارك في هذه الدورة نحو 742 ناشراً يمثلون 28 دولة عربية وأجنبية. وسيطرت ثلاث احتفاليات على أجندة النشاط الثقافي للمعرض التي جاءت تقليدية وباهتة، كان في مقدمها الاحتفالية بمئوية جامعة القاهرة التي أنشئت عام 1908، وتضمنت ندوات ولقاءات فكرية وعلمية حول دور الجامعة الأم عبر مئة عام. كما تم الاحتفال بمرور مئة عام على تأسيس كلية الفنون الجميلة ومئة عام على ظهور السينما المصرية. واختير اسم سهير القلماوي لتكون شخصية العام في المعرض، إذ خصص محور من الندوات حول دورها الثقافي بصفتها رئيسة أول معرض للكتاب أقيم في القاهرة عام 1969. وأجمع المشاركون على ضرورة الاهتمام بالتراث العلمي الذي تركته القلماوي، إذ تقرر إصدار طبعات شعبية من أعمالها من خلال هيئة الكتاب المنظمة للمعرض، كما دعا جابر عصفور وحسين نصار إلى نشر مراسلات الراحلة مع أستاذها طه حسين. وشارك في الندوات التي خصصت للاحتفال بمئوية الجامعة المصرية، كتاب ومفكرون، أبرزهم حسن حنفي، لتمثل مناسبة مهمة للإعلان عن تراجع مستوى التعليم الجامعي في مصر والدعوة إلى وقف التدخلات الأمنية في الجامعات، فضلاً عن الإشارة إلى العجز عن تخريج أساتذة بحجم الجيل الأول من مؤسسي الجامعة أمثال أحمد لطفي السيد وطه حسين ومصطفى عبد الرازق، كما تناولت ندوات أخرى دور الجامعة المصرية عربياً وتأثيرها في دوائر النخب الحاكمة. وعلى مستوى المشاركات العربية جاء قرار اختيار دولة الامارات العربية كأول ضيف شرف عربي في المعرض بعد ألمانيا وفرنسا ليثير الجدل في أوساط المثقفين المصريين، وأكدت الجهة المنظمة أن قرار المشاركة الاماراتية جاء بمبادرة من دولة الامارات بعد الاعتذار المفاجئ للهند عن عدم المشاركة. وقام وزير الثقافة المصري فاروق حسني بافتتاح الفعاليات الإماراتية وقدم فاصلاً من"الرقص"التقليدي الخليجي أمام جناح الدولة ضيفة الشرف في حضور وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع الإماراتي عبدالرحمن محمد العويس. وزار الوزيران جناح مؤسسة محمد بن راشد للثقافة، وتم الالتفات الى الجوائز الثقافية التي تقدم وتنظم في الإمارات كجائزة العويس وجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم وجائزة زايد للكتاب وغيرها. ندوات باردة وأخرى كاملة العدد: أعداد قليلة من الجمهور تابعت ندوات المقهى الثقافي التي ركزت على مجموعة من القضايا المهمة، إذ سلطت الضوء على تجارب المؤسسات الثقافية المستقلة في مصر، وعرض المعنيون أمام الجمهور تجاربهم الناجحة وشكل العلاقة مع مؤسسات الدولة البيروقراطية، وشاركت في هذه الندوات بسمة الحسيني من مؤسسة"المورد"، وياسر جراب من منتدى"التاون هاوس"، ومحمد الصاوي مدير منتدى"ساقية الصاوي"، وأحمد مغربي من مؤسسة"مكان". كما عرضت تجارب الجماعات الأدبية الجديدة مثل"إطلالة"وپ"ورقة وقلم"، وتجارب دور"شرقيات"وپ"ميريت"ومجلة"أمكنة"في النشر المستقل. وكانت هذه الندوات مناسبة لنقاش مطول حول التمويل الأجنبي الذي تتلقاه بعض هذه المؤسسات، وفرص حصولها على تمويل محلي، وانتهت غالبية المشاركين إلى صعوبة تحقيق هذا الأمل في الوقت الراهن. وتوقف بعض ندوات"المقهى"أمام أسباب فشل مشروعات التحديث العربية، ومن أبرزها الندوة التي أقيمت في عنوان"أزمة التحديث الثقافي والاجتماعي: صراع التحديث والتقليد هل حسم لمصلحة القديم"والتي شهدت مشادات كلامية بين الشاعر حسن طلب مدير الندوة وأحد المشاركين بالتعليق من الجمهور الذي كان في معظمه من المتعاطفين مع التيار الديني. وخلال الندوة نفسها آثر الدكتور مجدي عبدالحافظ أستاذ الفلسفة في جامعة حلوان أن يفرق في بداية حديثه بين مفهومي التحديث والحداثة، مشيرا إلى أن معظم الدول العربية والإسلامية يعيش حال ازدواج بين المفهومين. أما الدكتور أنور مغيث - أستاذ الفلسفة في آداب حلوان - فانتهى إلى الانتصار للرأي الذي يؤكد وجود حداثة في المجتمع المصري، لكن الموقف الفكري من هذه الحداثة هو الذي يؤخرها". عايض القرني نجم المعرض وخلاف كل ندوات المعرض التي افتقرت الى الحضور الجماهيري شهدت المحاضرة التي ألقاها الداعية السعودي الدكتور عائض القرني عن كتابه الشهير"لا تحزن"حضوراً جماهيرياً حاشداً، كان صدى للأرقام التي تؤكد أن هذا الكتاب هو الأكثر مبيعاً على الإطلاق في الدول العربية، فقد بيع منه حتى الآن أكثر من مليوني نسخة، وبيع منه في مصر وحدها أكثر من نصف مليون وفقاً للحملة الترويجية التي صاحبت الإعلان عن المحاضرة التي أثارت الجدل في أوساط المثقفين المصريين، واعتبرها البعض عودة إلى تقليد كرسه المعرض في دوراته السابقة بتقديم"الدعاة ورجال الدين المحافظين"على رغم الطابع المدني للمناسبة. ودافعت الهيئة المنظمة للمعرض عبر تصريحات وحيد عبدالمجيد نائب رئيس الهيئة بالقول إن"مشاركة القرني جاءت ضمن فعاليات البرنامج الثقافي الذي تنظمه الملحقية الثقافية السعودية في المعرض، وبالتالي فهي مشاركة خارج البرنامج الرسمي الذي أعدته الهيئة المنظمة". وقدم المستشار الثقافي لسفارة السعودية في القاهرة محمد بن عبدالعزيز العقيل، المحاضرة بكلمة أكد فيها دور الفكر السعودي الوسطي والمعتدل في تناول قضايا الأمة الإسلامية ودعمها عملية السلام ومواجهة تيارات العنف والتطرف. الشكوى مستمرة وقبل إغلاق ملف ندوات المعرض تنبغي الإشارة إلى ان الظاهرة اللافتة هذا العام هي تراجع الأسماء الكبيرة من العالم العربي عن المشاركة في برنامج الأمسيات الشعرية واللقاءات الفكرية، إذ عجزت إدارة المعرض عن دعوة محمود درويش وأدونيس، أما سعدي يوسف فزار القاهرة لحضور احتفالية أقامتها إحدى دور النشر الخاصة للتوقيع على ديوانه الجديد"أغنية صياد السمك وقصائد نيويورك"، وعلى رغم ذلك لم تفكر إدارة المعرض في دعوته لأحياء أي من الأمسيات الشعرية التي غاب عنها الجمهور، باستثناء أمسية الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي. وفي المقابل حرص بعض الكتاب العرب من أجيال مختلفة على الحضور في شكل شخصي او للمشاركة في بعض الأمسيات واللقاءات في ملتقى المبدعين العرب، ومن بينهم محمد حلمي الريشة فلسطين، منعم الفقير الدنمارك ومنى وفيق المغرب، ومحمود الريماوي فلسطين، والليبي صالح قادريوه، كما حضر الكاتب الفلسطيني الشاب علاء حليلحل للتوقيع على كتابه الجديد الصادر عن دار"العين". وفي ما يتعلق بأجنحة عرض الكتب انتقد الناشرون العرب ارتفاع أسعار إيجار ساعات العرض وتقليصها، فضلاً عن تشتيتهم بين صالات العرض التي تحمل الأرقام"3 و7 وألمانيا ب"الأمر الذي حال دون تمكن متابعي منشوراتهم من الوصول إليها. تقاليد حفلات التوقيع وعلى رغم تحسن طرق العرض إلا أن عدداً من صالات العرض لا يزال قيد الإنشاء، وتعرض الناشرون لخسارات كبيرة في الصالة الرقم 3 بعد ان غمرتها مياه الصرف الصحي ما أدى إلى تلف معروضاتهم. وحمّل أحمد صلاح مدير المعرض"هيئة المعارض"مسؤولية ما حدث، كما حمل الناشرون الهيئة ذاتها مسؤولية الخسائر التي طاولت معروضاتهم جراء عدم تجهيز بعض الصالات لمواجهة سقوط الأمطار التي انهمرت بغزارة خلال بعض أيام المعرض. ومما لفت نظر المتابعين توسع دور النشر في إقامة حفلات توقيع لضمان الجذب الجماهيري، فضلاً عن إقامة حوار حي بين الكاتب وجمهوره. وكانت دار"الشروق"المصرية في مقدم الدور التي قادت هذا التقليد من خلال حفلات أقيمت لكل من بهاء طاهر وخالد الخميسي وعبدالوهاب المسيري وعلاء الاسواني، فيما راهنت"الدار المصرية اللبنانية"على فاروق شوشة وزاهي حواس، ووقفت دار"ميريت"كعادتها مع الشباب الذين قدمت عدداً كبيراً منهم هذا العام مثل طارق إمام وباسم شرف ومنى برنس الذين وقعوا أعمالهم الجديدة، ودعت الدار نفسها صنع الله ابراهيم لتوقيع روايته الجديدة"العمامة والقبعة"الصادرة عن دار المستقبل العربي. وتشير المراجعة السريعة لمجموعة العناوين الجديدة الى أنها تحمل إشارات دالة حول اتجاهات النشر والقراءة في العالم العربي. أولى هذه الإشارات أن ثمة تقدماً ملحوظاً لحضور الكتاب المصري مقارنة بالسنوات الماضية مع عودة على استحياء إلى نشر الشعر والاعتماد على أسماء جديدة إلى جانب الأسماء المكرسة أو ذات الحضور الجماهيري. وإذا كان لافتاً رهان جميع دور النشر على فن الرواية استجابة لنزعة نقدية، إلا أن داراً واحدة هي دار"ملامح"قاومت هذه النزعة في إطلالتها الأولى على المعرض عبر مؤلفات لكتاب جدد يكتبون القصة القصيرة وبإخلاص لافت للنظر. وفي المقابل بدا واضحاً أن مصر تشهد غياباً للكتابات التي تعالج موضوعات فكرية شائكة تصطدم مع المعتقد الديني، وهي الظاهرة التي ميزت النشر بين الثمانينات وحتى نهاية التسعينات مع دور نشر مثل"سينا"التي اختفت تماماً عن الساحة، ويبدو واضحاً الرهان على رفع"السقف"في تناول المحرمات الاجتماعية بما يجعل الإبداع الروائي الملعب المثالي لاختبار حدود هذا السقف. لذا طغت على موضوعات الرواية الجديدة قضايا كانت تعد سابقاً من"المحرمات"، بينما تكفلت دور النشر العربية التي تعمل"خارج الحدود"بمهمة الدخول في ساحة"المسكوت عنه"بفضل عملها خارج سطوة الرقابات المركزية للحكومات العربية التي يتغاضى بعضها عن التصدي لهذه المؤلفات ما لم يتلق بلاغات أو تحريضاً. ومن علامات التحسن الواضح في مسار معرض القاهرة للكتاب أن سطوة الرقابة عليه أخذت في التراجع، إذ علمت"الحياة"أن دور النشر التي تعرض بعض منشوراتها للرقابة الجمل والآداب والساقي والفارابي والمدى تمكنت من استعادة العناوين التي سحبت منها خلال عمليات الشحن والتخليص الجمركي، بناء لتدخل موظف كبير في مكتب وزير الإعلام المصري أنس الفقي، بعد أن تمكن بعض الناشرين من ترتيب لقاء خاص معه انتهى بتأكيد هذا الموظف أن وزارته التي تملك الحق القانوني في الرقابة على الكتب الواردة من الخارج لم تصدر عنها قرارات في هذا الشأن، وبعد اتصالات وضغوط أجراها الموظف نفسه تمكن الناشرون من استعادة عناوينهم لتعرض قبل نهاية المعرض بأربعة أيام.