بول أوستر روائي كبير، لكنه في الثانية والستين من عمره، أدرك شيخوخة مبكرة، لعلّ من أسبابها سرعة الاحتراق الإبداعي تلبية لشهية الناشر والقارئ على السواء، بعدما أصبح عالم النشر آلة تجارية طاحنة، بدل ان تخدم الكاتب حولته خادماً لها. مواهب كثيرة تحطمت في هذا السباق. ولكن، عملياً، نفد بول اوستير بجلده على رغم تعبه الواضح في روايته الأخيرة"رجل في الظلام". أوغوست بريل ناقد ادبي ارمل في السبعينات من عمره، يكسر ساقه في حادث سيارة ويلجأ الى منزل ابنته في فيرمونت للنقاهة. وفي البيت معهما تسكن حفيدته كاتيا التي فقدت حبيبها في العراق، ولم يبق لها منه سوى شريط فيديو رهيب يصوّر قطع رأسه. أوغوست يتأرق. يتقلب في سريره ليلةً بعد ليلة. أحياناً تعود أفكاره الى زواجه الفاشل لكنه يفضل التفكير في قصة قرر كتابتها عن رجل يدعى بريك الذي يستيقظ ذات يوم ليرى اميركا غارقة في حرب اهلية جديدة. يعيش بريك تحت تهديد عملاء سريين قالوا له إن لم تقتل اوغوست بريل سنقتلك انت وزوجتك. لا يستطيع القارئ ان يفهم معنى هذه التركيبة ولا ان يكتشف المنطق وراءها، فاذا كان العملاء السريون يملكون الأسلحة والسلطة والإرادة والمعرفة بشؤون القتل بدم بارد، لماذا لا يغتالون هم اوغوست بريل؟ لماذا يكلفون هاوياً متردداً مثل بريك؟ وهل يأتي هذا الخلل في الحبكة من طبيعة المخيلة المشوشة التي تتقاذف الكاتب وبديله بريل؟ لا يبدو الأمر مهماً بالنسبة الى أوغوست بريل فهو مستعد لتغيير الحبكة والتلاعب بنهاية الراوية الى حد الجلوس مع حفيدته ذات ليلة والبحث في المخارج الممكنة بناءً على أعمال أخرى لكتاب أوروبيين مثل ايتالو كالفينو وبيتر هاندكه. في هذا السياق يفاجئنا أوستر بحوار غريب بين كاتيا وأغوست حول أمور جنسية دقيقة من غير المنطقي ان تدور بين جد وحفيدته. والأغرب من ذلك انهما يختتمان الجلسة بمشاهدة الفيديو الرهيب:"لئلا نتركه وحده في الظلام الظالم الذي يبتلعه". الى هنا والقارئ أيضاً لا يزال في الظلام، فلعل بول أوستر يتأمل بهذه الراوية وجه الموت آملاً بتغيير ملامحه بالفن والحب. غير ان اللعبة تنقلب على اللاعب ويصبح الضياع أساس الراوية لا موضوعها. واكب ظهور بول أوستر الزمن الذهبي للرواية الاميركية الجديدة، رواية اللغة السهلة والحكاية المقطوفة من شجرة الحياة حيث البطل عادةً مواطنٌ عادي لا يلحظه احد بل يكاد هو ان لا يرى نفسه. هو صاحب"في بلد الأشياء الأخيرة"و"قصر القمر"و"موسيقى الحظ"و"كتاب الأوهام"ابرز روايات نصف القرن الماضي، جمعت بين الاهتمامات التجريدية والقص المثير، وزاوجت الفلسفة التأملية والنثر المختصر، مما أدى الى ولادة نوع نادر من رواية الافكار القادرة على اجتذاب مستويات مختلفة من القراء، ليس في الانكليزية وحدها بل في ثلاثين لغة اخرى حول العالم. والواقع ان انحسار بول اوستير بدأت ملامحه في"حماقات بروكلين"التي وإن كانت ممتعة وجذابة فهي تبدو مع تقدم الزمن مفتعلة بعض الشيء. أما روايته التالية"رحلات في المكتبة"فلم تكن سوى اجترار لكتب سالفة، بل اعتراها الشلل حين تقصد أوستر ان ينقع بطله في مكانٍ واحدٍ من دون حراك علماً انه مارس هذه اللعبة في"ثلاثية نيويورك"منذ عشرين سنة في اسلوبٍ وطرافةٍ كبيرين. Paul Auster/ Man in the Dark/ Faber من الرواية وحدي في الظلام، أقلّب العالم المحيط بي في رأسي متخبطاً في وصلة أرق أخرى، ليلة بيضاء وسط برّية اميركا العظمى. في الطابق العلوي ابنتي وابنتها نائمتان في غرفتيهما، كل واحدة وحدها. وحيدتي ميريام في السابعة والأربعين، نامت وحدها طوال السنوات الخمس الفائتة، وكاتيا في الثانية والعشرين تنام وحدها ايضاً بقلب كسير. ضوء قوي، ثم ظلام. شمس تتدفق من كل جهات السماء، يتبعها سواد الليل، والصمت والنجوم، والريح تحرّك الأغصان. ذلك هو الروتين. أسكن هذا البيت منذ أكثر من سنة، اي منذ خروجي من المستشفى. ميريام أصرّت على مجيئي. في البداية كانت هي وانا وحدنا وممرّضة نهارية تخدمني حين تكون ميريام في الشغل. ثم انهار السقف على رؤوسنا، كما يقولون، حين فصلت كاتيا نفسها عن الجامعة في نيويورك ولجأت الى أمها في فيرمونت. سمّوه تيتوس على اسم ابن رامبرانت، الصبي الصغير بشعره الأشقر المحمّر والقبعة الحمراء، كما في لوحات والده. التلميذ الحالم الحائر في دروسه. الصبي الذي كبر حتى بلغ العشرينات وهو في صحة عليلة، ثم مات. تماماً مثل حبيب كاتيا، اسمه لعنته، بل اسمٌ يجدر الغاؤه من المداولة الى الابد. افكر في موت تيتوس كثيراً. القصة الرهيبة لموته، الصور الساحقة نسبة الى حفيدتي المسكينة. لكنني لا أريد التطرق الى هذا الموضوع الآن. لا استطيع ذلك. عليّ تأجيل الأمر الى ابعد ما يمكن. الليل ما زال في أوله، وفيما انا مستلقٍ احدق في الظلام، ظلامٌ دامسٌ يمحو السقف فوق رأسي، تعودني القصة التي بدأتها ليلة أمس، فهذا ما أفعله حين يخونني النوم. أستلقي وأخبر نفسي حكايات. لعلها ليست مهمة كثيراً، لكن بمقدار ما هي مستمرة بإمكانها ان تحول دون ما أفضل عدم تذكره. التركيز يبقى مشكلتي، وفي معظم الأحيان يتوه فكري عن القصة التي بدأتها الى قصة أخرى لا اريد التفكير فيها، ولا أستطيع شيئاً حيال ذلك. أفشل مرة بعد مرة، أفشل أكثر مما أنجح، لكن ذلك لا يعني انني لا أبذل قصارى جهدي. ترجمة - جاد الحاج