جامعة محمد بن فهد تستذكر مؤسسها في احتفالية تخريج أبنائها وبناتها    فرنسا تصعد لنهائيات كأس العالم 2026 برباعية في أوكرانيا    مصرع طيار تركي إثر تحطم طائرة إطفاء في كرواتيا بعد انقطاع الاتصال بها    "أوتشا": استمرار الضربات العسكرية الإسرائيلية بالقرب من أو شرق الخط الأصفر    تراجع أسعار الذهب من أعلى مستوى لها في أكثر من ثلاثة أسابيع    موسم الدرعية 25/26 يستعد لإطلاق مهرجان الدرعية للرواية الأحد المقبل    %48 من القوى العاملة في المنشآت العائلية    أفضل خمس خدمات بث فيديو    الفن يُعالج... معارض تشكيلية في المستشفيات تعيد للمرضى الأمل    مؤشرات التضخم تحدد مزاج المستثمرين في الأسواق السعودية    «الأرصاد» في إنذار أحمر : أمطار غزيرة على جدة اليوم الجمعة    اللاعب السعودي خارج الصورة    الفيفا يختار هدف عمرو ناصر في الأهلي المصري ضمن القائمة المختصرة لجائزة بوشكاش    الأخضر السعودي يختتم استعداده لمواجهة ساحل العاج    إعلان أسماء المستحقين للأراضي البعلية الموسمية في الحدود الشمالية    شبكة عنكبوتية عملاقة    الرياضة السعودية ما بعد النفط.. الاستثمار في العقول لا العقود    غدٌ مُشرق    رحلة الحج عبر قرن    عدسة نانوية لاكتشاف الأورام    إنجاز طبي جديد بنجاح عملية فصل التوأم الملتصق الجامايكي    انطلاق "موسم شتاء درب زبيدة 2025" في محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية    المدير الرياضي في الأهلي: غياب توني لأسباب فنية    القبض على (3) يمنيين لتهريبهم (60) كجم "قات" في عسير    وزير "البيئة" يلتقي قطاع الأعمال والمستثمرين بغرفة الشرقية    وزير الحج والعمرة: الرعاية الكريمة لمؤتمر ومعرض الحج كان لها الأثر الكبير في نجاح أعماله وتحقيق أهدافه    هطول أمطار رعدية على معظم مناطق المملكة من يوم غدٍ الجمعة حتى الاثنين المقبل    مفتي عام المملكة يستقبل وزير العدل    خبراء: السجائر الإلكترونية تقوض حقوق الأطفال الإنسانية    توازن كيميائي يقود إلى الرفاه الإنساني    غرفة القصيم توقع تفاهمًا مع الحياة الفطرية    منسوبو وطلاب مدارس تعليم جازان يؤدّون صلاة الاستسقاء    "محافظ محايل" يؤدي صلاة الاستسقاء مع جموع المصلين    محافظ صبيا يؤدي صلاة الاستسقاء تأسياً بسنة النبي واستجابة لتوجيه خادم الحرمين الشريفين    شراكة مجتمعية بين ابتدائية قبيبان وجمعية «زهرة» للتوعية بسرطان الثدي    أول اجتماع لمكتب المتقاعدين بقوز الجعافرة    مصرية حامل ب9 أجنة    الثقوب الزرقاء ورأس حاطبة.. محميتان بحريّتان تجسّدان وعي المملكة البيئي وريادتها العالمية    محافظ محايل يزور مستشفى المداواة ويطّلع على مشاريع التطوير والتوسعة الجديدة    ورشة استراتيجية مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة 2026–2030    الشلهوب: الرسائل المؤثرة.. لغة وزارة الداخلية التي تصل إلى وجدان العالم    محافظ القطيف يرعى انطلاق فعالية «منتجون» للأسر المنتجة    ذاكرة الحرمين    في أولى ودياته استعداداً لكأس العرب.. الأخضر السعودي يلتقي ساحل العاج في جدة    ترمب يواجه ردة فعل مشابهة لبايدن    تعزز مكانة السعودية في الإبداع والابتكار.. إطلاق أكاديمية آفاق للفنون والثقافة    «مغن ذكي» يتصدر مبيعات موسيقى الكانتري    160 ألف زائر للمعرض.. الربيعة: تعاقدات لمليون حاج قبل ستة أشهر من الموسم    القيادة تعزي رئيس تركيا في ضحايا تحطم طائرة عسكرية    وفد رفيع المستوى يزور نيودلهي.. السعودية والهند تعززان الشراكة الاستثمارية    آل الشيخ ورئيسا «النواب» و«الشورى» يبحثون التعاون.. ولي عهد البحرين يستقبل رئيس مجلس الشورى    وسط مجاعة وألغام على الطرق.. مأساة إنسانية على طريق الفارين من الفاشر    يجتاز اختبار القيادة النظري بعد 75 محاولة    شهدت تفاعلاً واسعاً منذ إطلاقها.. البلديات: 13 ألف مسجل في مبادرة «الراصد المعتمد»    النويحل يحتفل بزواج عمر    طهران تؤكد جديتها في المفاوضات النووية.. إيران بين أزمتي الجفاف والعقوبات    استعرض مع ولي عهد الكويت التعاون.. وزير الداخلية: مواجهة الجريمة والإرهاب بمنظومة أمنية خليجية متكاملة    تصفيات مونديال 2026.. فرنسا وإسبانيا والبرتغال لحسم التأهل.. ومهمة صعبة لإيطاليا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاميريكي بول أوستر : المستقبل داخلنا سلفاً
نشر في الحياة يوم 17 - 08 - 2004

يوغل الروائي الأميركي بول أوستر في روايته "ليلة التنبؤ" المترجمة اخيراً الى الفرنسية Actes Sud, 2004 في مسالك السرد المتقاطعة والحكايات المضفورة بخيوط التشويق المستمد من بنية الرواية البوليسية... لكن هذا النص الجديد يتميز بمكوّن راجح على بقية المكونات، وهو عنصر الرواية داخل الرواية. انه يستعمل هذا التركيب الفني ليجعل القارئ يتابع من داخل النص وعبره، طريقة "صنع" الرواية التي يحاول كاتب مفترض ان يكتبها بعد تماثله للشفاء من مرض عضال. وهو ينطلق من فكرة وردت في رواية بوليسية ل"د. هاميت" تتحدث عن البطل الذي نجا من الموت بأعجوبة، فقرر ان يبدأ حياة جديدة لا علاقة لها بحياته السابقة... وفي النص الذي يكتبه سيدني اور تدريجاً تحت اعيننا، ينطلق من قرار اتخذه نيك بوين بأن يسافر بعيداً من زوجته ومدينته فجأة بعد ان نجا من الموت إثر سقوط عارضة خشب بالقرب منه، رحل فجأة ولم يحمل معه سوى مخطوط رواية "ليلة التنبؤ" التي ارسلتها اليه روزا ليتمان حفيدة روائية معروفة كتبت تلك الرواية في العشرينات من القرن الماضي.
لكن "حاضر" النص هو ما يشكل البنية السردية الحاضنة حيث يحكي سيدني علاقته بزوجته غراس وبصديقهما الكاتب المشهور جون تروز. خلال مرحلة النقاهة، اذاً، يحاول سيدني استئناف الكتابة ليواجه الديون المتراكمة وليساعد زوجته على نفقات العيش. هو مغرم بزوجته وهي، على رغم حبها له، تعيش لحظات توتر يحار سيدني في فهمها. وعلاقتهما بالكاتب تروز تمنحهما بعض العون والدفء...
وفي خطٍ موازٍ، ينقل الينا سيدني خلاصة الرواية التي يكتبها ومغامرة بطله التي تؤول الى مأزق عندما يجد نفسه حبيس غرفة مدرعة وقد نسي المفتاح في الغرفة المجاورة... يتوقف مشروع الرواية، عندئذ، ويستمر السرد المتصل بقصة الكاتب وعلاقاته بغراس وبوين. ويلخص الكاتب المفترض مأزقه على هذا النحو: "حاولت ان اكتب محكياً فوصلت الى مأزق. وحاولت ان ابيع فكرة فيلم فرفضت. كدت ان افقد زوجتي. كنت رجلاً ضائعاً، مريضاً اصارع لاستعادة قوتي، غير انني من خلال الخطوات العاثرة والبلادات التي ارتكبتها ذلك الاسبوع، ادركت شيئاً لم اكن على علم به: كأنما جسدي اصبح شفافاً مثل صفيحة مثقوبة من خلالها يمكن ان تتسرب كل قوى العالم غير المرئية ... وخمنت ان تكون تلك الحالة كامنة وراء ميلاد لومييل فلاك بطل رواية "ليلة التنبؤ" الأعمى الذي كان بالغ الاحساس بالارتجاجات المحيطة به، لدرجة انه كان يعلم ما سيحدث قبل وقوع الاحداث نفسها. لم اكن اعلم سوى ان كل خاطرة كانت تمر ببالي كانت تؤشر على هذا الاتجاه: اطفال يولدون ميتين، فظائع المعتقلات الجماعية، اغتيال الرؤساء، ازواج يختفون. ذهاب واياب مستحيلان داخل الزمن. كان المستقبل سلفاً في داخلي وكنت اهيئ نفسي للمصائب المقبلة". ص 220
وبالفعل، نجد ان البناء الفني للرواية يعتمد على مكونات وعناصر تخدم هذا التشابك والتناهي المتناسل عبر لعبة الرواية داخل الرواية. نجد بالأخص: تركيب سردٍ على سرد، والاستطراد المتواتر الذي يبدو احياناً منعدم الصلة بالسياق، والتناوب بين معاينة اليومي وتسجيل مؤثثاث فضاء بروكلين، وبين ارتياد اعماق المشاعر واستبطان العلائق بالزمن والتاريخ... وهي مكونات حاضرة في شكل او في آخر في بقية روايات بول اوستر الحريص على ان يجعل شخصياته تائهة باستمرار تبحث وسط الدوار المزلزل عما يمنحها نتفاً من الهوية المتصدعة. وهي الفكرة التي يبرزها في رواية سابقة Mr. Vertigo حيث البطل يمشي مفتوح العينين "منذ ان حاول كل واحد من الناس ان يفك لغز سديمه الخاص داخل سديم الآخرين...".
وفي "ليلة التنبؤ"، يضيف اوستر عناصر شكلية تسعفه على احتواء التشظيات والتفريعات السردية، فنجده يدرج ثلاثة عشر هامشاً لتفصيل حادثة او التذكير بوقائع حدثت في تاريخ سابق عن "حاضر" الرواية. ونجد ان الحبكة البوليسية تتشخّص، اساساً، من دون توقع من الكاتب المفترض الذي يبدو - طوال النص - متحكماً بخيوط السرد. ذلك ان الكاتب يفاجأ ب"جاكوب"، ابن صديقه تروز، يهاجم زوجته غراس التي لم تعطه النقود التي طلبها لتسديد ديونه عند بائعي المخدرات، فأسقط الجنين وجعلها تشرف على الهلاك. وقبل يوم واحد من تلك الحادثة، يكون الاب تروز غادر الحياة بعد ان ارسل مبلغاً مالياً الى سيدني ليساعده على مواجهة ازمته المالية، وقبل اسبوع من ذلك، اكتشف سيدني ان تروز كان على علاقة حب عميق بزوجته غراس التي وجدت نفسها تحب رجلين في الآن نفسه.
ان هذا التداخل في الاحداث والفضاءات السردية هو ما يجعل الكاتب المفترض يتدخل ليوضح لنا تصوره عن مشروع روايته "ليلة التنبؤ" التي يتطابق عنوانها مع عنوان تلك الرواية التي كتبتها روائية في عشرينات القرن الماضي. لذلك لا يفتأ يردد أن ما يكتبه هو عبارة عن محكي داخل المحكي، وانه سيعطيه شكل رواية فلسفية تتصل بالتنبؤ بالمستقبل وتحلل العلاقة بالزمن.
الحب في مواجهة "السقوط"
يصعب، وسط هذه المتاهة السردية والاستطرادات الحكائية والتأملية، تحديد ثيمة اساس تتيح تأويل رواية "ليلة التنبؤ". لكنني توقفت عند ثيمات تشكل شبكة متفاعلة تلامس: الاستمرار في الحياة من خلال معنى ما، هشاشة العواطف، الخوف المتربص، السلطة التي تحمي وجودها بخلق "الأعداء"، المتعة العابرة لمواجهة القلق والوحدة، الحب خارج المنطق، مسؤولية الفرد عن صيرورته، العنف الملازم لتفاصيل الحياة، الانجذاب الى اللامرئي.
ولا شك في ان تعداد هذه الثيمات على هذا النحو، لا يخلو من اختزال لأن الثيمات تأتي ضمن سياق وأحداث تكسبها قوتها. وأعتقد ان هذا البناء المتشابك، القائم على التشويق والسرد المحبوك، اتاح لأوستر ان يدس افكاراً وتلميحات تستجيب لرؤيته المتناثرة في روايات عدة. وفي طليعة تلك الافكار، ما يتصل بالقدرة التنبؤية للكتابة، فهو يورد على لسان احدى الشخصيات: "الافكار حقيقية وكذلك الكلمات. وكل ما هو بشري حقيقي، وأحياناً نعلم اشياء قبل حدوثها حتى لو لم نكن واعين لها. نحن نعيش في الحاضر الا ان المستقبل قائم داخلنا في كل حين. وربما لأجل ذلك نكتب، يا سيدني نحن لا نكتب لننقل احداثاً من الماضي وانما لنستثيرها في المستقبل". ص 19
لقد ابرز بعض النقاد، ان السقوط بمعناه الفيزيقي والميتافيزيقي هو موضوعة شبه ثابتة في مكونات روايات اوستر. وهو سقوط يقترن، غالباً، باكتشاف الشخصيات للفراغ المهول المحيط بالوجود البشري. الا ان اوستر يحرص، مع ذلك، على اضاءة بصيص من الامل على نحو ما نجد في روايته Moon Palace حيث تؤكد احدى الشخصيات: "وحده الحب يستطيع ان يوقف انساناً في سقوطه".
وفي "ليلة التنبؤ" يضطلع الحب الجارف، الغامض، الملتبس، بوظيفة اضفاء المعنى على عالم مجنون حافل بالعنف والمذابح، خاضع لمنطق المال والمتع الرخيصة... فمن خلال حب سيدني وتروز المرأة نفسها المحبة لهما كلاهما، تبدو شبكة المجتمع الاميركي اللاّمعقولة قابلة لأن يصارع داخلها الانسان لانتزاع لحظات مضيئة تغدو بمثابة افق للعيش. لقد استطاع بول اوستر ان ينسج بنية سردية مشوقة تعتمد الاستطراد والتناص، فتغدو، من ثم، بنية روائية "معادلة" لشبكة العلائق الاجتماعية المعقدة والمأخوذة في شرك يتعدى قدر الفرد وارادته، ويجعله دوماً تحت وطأة الخوف والتوجس والتنبؤ بما سيسفر عنه المستقبل، وكأن السديم الذي يلف الفرد ويضيّع خطواته هو ما يدفعه الى محاولة فهم مساره وشظايا هويته من خلال سديم الآخرين... كأن كتابة الرواية - في هذا السياق - وسيلة لمواجهة السديم باستحضار احداث الماضي التي هي "استعادة" للمستقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.