من يتذكر سنان حساني صاحب رواية"الريح والبلوط"التي ترجمت الى لغات عدة وصدرت بالعربية في بيروت سنة 1986 في سلسلة"ذاكرة الشعوب"التي كانت تصدرها مؤسسة الأبحاث العربية؟ في 1986 كان يشار إليه بالبنان كنموذج للروائي الذي وصل الى أعلى منصب في بلاده، والى كونه مع ذلك أول ألباني يحتل منصب رئيس يوغوسلافيا. ولكن هذا"الصعود"في ظروف يوغوسلافيا المضطربة آنذاك كان له ثمنه، اذ سرعان ما هوى ونُسي مع الشخصيات التاريخية ليوغوسلافيا التيتوية التي لم يبق لها سوى ان تكتب مذكراتها المشبعة بالحنين الى الماضي المجيد. سنان حساني غادر كوسوفو التي كان يمثلها في مجلس الرئاسة الفيديرالي في ذروة الصراع الألباني - الصربي حول كوسوفو، وبحث عن ملاذ هادئ يعود فيه الى نفسه وأدبه بعد أن أصبح مرفوضاً من الطرفين المتصارعين حول كوسوفو. فالألبان في كوسوفو اعتبروه متعاوناً مع ميلوشيفيتش ومسؤولاً بالتالي عن الغاء الحكم الذاتي الواسع لكوسوفو في 1989، كما ان ميلوشيفيتش بدوره كان يضيق بملاحظاته ويعتبره عقبة أمام إلغاء كيان كوسوفو وضمها الى صربيا. في هذه الظروف وجد سنان حساني ملاذاً آمناً له في مدينة بودوفا الساحلية في جمهورية الجبل الأسود، حيث تابع من هناك التطورات المأسوية التي رافقت انهيار يوغوسلافيا التيتوية سواء في كرواتيا او في البوسنة وكوسوفو. وقد التقاه في هذا الملاذ الصحافي الكوسوفي المخضرم طاهر بريشا الذي أجرى معه لقاءات مطولة صدرت في كتاب يحمل ذكرياته ومراجعاته لأهم الحوادث التي شهدها وشارك فيها سواء خلال حياة تيتو او بعد وفاته، كما يضم الكتاب في نصفه الثاني الحديث عن الأدب فقط. المثير هنا أن هذا الكتاب الصادر بالألبانية في بريشتينا كما هو واضح على الغلاف لا وجود له في مكتبات أو أرصفة بريشتينا حيث تباع آخر الاصدارات الألبانية في كوسوفو وألبانيا ومقدونيا والجبل الأسود. وكان لا بد لي من أن استعين بأكثر من صديق حتى أحصل على نسخة من هذا الكتاب. في هذا الكتاب الذي يحمل عنوان"في مركز الأحداث - أحاديث مع سنان حساني"يختلط التاريخ مع الأدب والسياسة والثقافة السائدة. في ذكرياته عن طفولته البائسة في قرية بوجران في كوسوفو تاريخ مؤثر لوطنه المصغر كوسوفو وشعبه الألباني بين تجربتين مختلفتين: بين يوغوسلافيا الأولى الملكية 1918-1941 وبين يوغوسلافيا الثانية الفيديرالية 1945-1991. في التجربة الأولى كان شعبه غير مرغوب به في الدولة الجديدة، ولذلك تعرض للإهمال والاضطهاد بكل أنواعه بما في ذلك حرمانه من التعلم في لغته والضغط عليه للهجرة الى الشرق تركيا وسورية. وهكذا هاجر بعض أقاربه الى تركيا وسورية وكاد أبوه ان يلتحق بهم في يوم عصيب. وفي هذه القرية تعلم الطفل سنان في كتاب القرية الذي بقي من الحكم العثماني ثم التحق بالمدرسة الشرعية في سكوبيا التي كانت توفر له مصاريف الدراسة والاقامة الى أن أقفلت أبوابها في 1941 عشية انهيار يوغوسلافيا أمام جيوش المحور. ومع أن حساني كاد أن يتخرج إماماً في المدرسة الشرعية، الا أنه سرعان ما تواصل مع الحزب الشيوعي اليوغوسلافي وانضم الى المقاومة المسلحة اليارتيزان الى أن اعتقلته القوات الألمانية ونفته الى معسكر اعتقال قرب فيينا. وبعد اطلاق سراحه من المعسكر في نهاية الحرب عاد الى بلاده ليشارك في التجربة الجديدة لوطنه وشعبه في يوغوسلافيا الفيديرالية، التي اعترفت للألبان بحكم ذاتي محدود يسمح لهم برعاية ثقافتهم القومية ومشاركتهم في الادارة المحلية. وفي هذا المجال كان لحساني دور مهم حيث انه كان يمثل النخبة الصغيرة من أوائل الكتاب الألبان الذين أخذوا يبدعون الأدب الجديد بلغتهم القومية الألبانية. وهكذا مع تأسيس الصحافة اليومية والمجلات الثقافية ودور النشر أخذ الأدب الألباني الجديد في كوسوفو يتطور بسرعة بعد عقود من الحرمان. وفي هذا السياق لا يوعد من المستغرب أن تدخل سنة 1957 تاريخ الأدب الألباني باعتبارها السنة التي شهدت صدور أول رواية مؤلفة في الألبانية ألا وهي"حينما بدأ العنب ينضج"لسنان حساني. ومع هذا"الاختراق"برز اسم حساني بسرعة في عالم الثقافة ثم السياسة. وقد استمر صعوده الثقافي - السياسي، بعد صدور أعماله الروائية الأخرى وخصوصاً"الريح والبلوط"التي تناولت بجرأة تشوهات التجربة الاشتراكية في يوغوسلافيا، حتى أصبح أول ألباني يتولى رئاسة يوغوسلافيا خلال 1986-1987. كان حساني قام بپ"اختراق"آخر حين أحب فتاة صربية ستانا وتزوجها حيث أن ذلك بسبب ظروف الماضي العسير كان غير مألوف وغير مقبول للطرفين. ومع أنه أطلق على اولاده أسماء ألبانية مميزة إيلير وديانا، إلا أن حساني كان يشعر على الدوام بوجود مسافة ما تفصله عن الألبان والصرب في آن، حيث ان كل طرف له شكوكه في الآخر. بعد وفاة تيتو 1980 تحولت كوسوفو منذ 1981 الى ساحة صراع تقرر مستقبل يوغوسلافيا. وفي هذه الظروف برز حساني كمعتدل يدعو الى حل وسط بعد أن تولى رئاسة كوسوفو ثم أصبح ممثلها في مجلس الرئاسة الفيديرالي ليتولى بعد ذلك رئاسة يوغوسلافيا، إلا أن الظروف لم تعد تسمح آنذاك بالحلول الوسط. الألبان يأخذون عليه تساهله أامام ميلوشيفيتش الذي كان عازماً على ضم كوسوفو الى صربيا، بينما كانت الصحافة الصربية في بلغراد تنتقد علانية سنان حساني لأجل بعض مواقفه التي كانت تعتبر قومية وممالئة للألبان. في هذا الكتاب يكشف حساني الآن تفاصيل تلك الأيام العصيبة، وخصوصاً علاقته المتوترة مع ميلوشيفيتش التي توضح أنه كان يختلف معه في رؤيته لحل المشكلات العالقة بين صربيا وكوسوفو، كما لدينا مراجعة ذاتية ونقدية تشمل بعض الأخطاء التي وقع فيها خلال وجوده في أعلى المناصب خلال تلك السنوات العصيبة التي كان يتقرر فيها مصير يوغوسلافيا. ومع أن الحديث يدور الآن حول التاريخ والماضي، حيث ان حساني يعتقد الآن ان علاقة كوسوفو مع صربيا قد انتهت وأن مستقبل كوسوفو الآن في استقلالها واندراجها في الاتحاد الأوروبي، إلا أن هذا الموقف لا يكفي لفتح الطريق له للعودة الى كوسوفو! صحيح أنه لا يوجد قانونياً لا من طرف السلطات الكوسوفية ولا من طرف السلطات الدولية ما يمنع عودته الى مسقط رأسه ومسرح حياته الأدبية والسياسية، إلا أن حساني محروم في الواقع من هذا الحق الطبيعي نتيجة التراكم الحاصل في النفوس بسبب حرب 1999 وما سبقها من تعسف صربي بحق الألبان في كوسوفو. ولا يشفع له هنا ما ورد في هذا الكتاب من شهادات وإشادات بأعماله الأدبية التي كانت لها قيمة ريادية من جانب الكتاب والنقاد الذين كانوا يسعون إليه في الماضي ويتجاهلون وجوده الآن. المهم في هذا الكتاب ما يتعرض الى الجانب الأدبي الحالي، حيث يكشف حساني أنه لم ينقطع عن الكتابة الروائية وأنه أكمل رواية جديدة يأمل في صدورها قريباً. وفي الواقع ان هذه الرواية هي متابعة لرواية"الجدول الفائض"التي صدرت في 1980. ففي هذه الرواية يتابع فيها واقع منجم كوسوفي يعكس التحولات الاقتصادية والاجتماعية في يوغوسلافيا قبل الحرب وخلال التجربة الاشتراكية، بينما يتابعها الآن في الرواية الجديدة في مرحلة ما بعد الاشتراكية. حالة سنان حساني كما بدت في هذا الكتاب محزنة ومؤثرة في دلالتها على ما حدث في يوغوسلافيا السابقة وما بقي يذكر بها حتى الآن.