الشعوب العربية مدعوّة اليوم الى الوقوف دقيقة صمت الساعة الثانية عشرة ظهراً إحياءً للذكرى الأربعين لهزيمة العام 1967. هذه الدعوة التي وجهتها جامعة الدول العربية سيلبّيها اليوم الأدباء العرب المشاركون في مؤتمر"اتحاد الكتّاب العرب"الذي يُعقد في مدينة العريش وسيتوجهون الى الناحية المصرية من مدينة رفح الفلسطينية واقفين وقفة احتجاج على ما يحصل في فلسطين أو ما تبقى منها. وقد تغدو هذه الوقفة أشبه بالوقوف على أطلال النكسة في ذكراها الأربعين، ولا أحد يدري إن كان بعض الشعراء سيرتجلون قصائد في هذه اللحظة أم سيلقون قصائد كتبوها سابقاً. فرؤساء الاتحادات العربية وممثلوهم هم غالباً من المتحمّسين للمواقف الوطنية التي يحلو فيها الندب والبكاء أو الصراخ بصوت عالٍ. ولعل الذكرى التي تصادف عامها الأربعين الآن مناسبة للتفجع المأسوي لأن"الأربعين"تحمل طابعاً جنائزياً بحسب الطقوس الشعبية. يصرّ العرب على تذكّر هزيمة العام 1967 وعلى الاحتفال بها سنة تلو أخرى. ومنذ أربعين سنة يتوالى الكلام نفسه والشعارات نفسها وتتواصل الدعوات الى قراءة الأسباب التي أدّت اليها والأسس التي انطلقت منها. ولا تحصى المقالات والكتب التي وضعت في هذا الصدد وقد استنفدت القضيّة حتى لم يبق أي جديد يقال أو أيّ مجهول يُكشف عنه. وقيل ان العلّة في العقل والروح العربيين وفي غياب الحرية وفي القمع الفكري والتراجع الاقتصادي والتخلف والكذب وپ"الجعجعة"الصوتية... صحيح أن الهزيمة أسقطت أحلام جيل بكامله، جيلٍ طليعي، سياسياً وثقافياً، وكانت قاسية بما أحدثت من صدمات وخيبات، لكنها أضحت مجرّد ذكرى بعدما تتالت الهزائم الكثيرة في العالم العربي بدءاً من سبعينات القرن المنصرم. حتى الانتصار الذي حققه العرب في حرب تشرين الأول أكتوبر لم يكن له أيّ وهج ولم يُحتفَ بذكراه إلا نادراً، وكأن العرب لا يهوون إلا المآسي والهزائم. كان حجم النكسة كبيراً وثقيلاً. لم يكن أحد يتوقع هذه الكارثة. لا الدول ولا الأنظمة ولا الرؤساء والقادة ولا المثقفون ولا الجماهير... حلّت الهزيمة في شكل مفاجئ وپ"فضائحي"إن أمكن القول. لم تسقط جبهة واحدة بل جبهات، ولم تُحتلّ أرض بل أراضٍ شاسعة وكادت اسرائيل المتعجرفة تحقق حلمها التوراتي. احتفلت اسرائيل حينذاك بالنصر الذي لم يكن إلا اغتصاباً للأراضي العربية، لكنه النصر الذي لم يلبث أن أربكها وبات ثقلاً عليها. أما العالم العربيّ فاحتفى بالهزيمة محاولاً تخطيها ولو بالأمل والحلم. وأكثر ما يؤلم في الهزيمة أنها حلّت في مرحلة كانت الثقافة العربية ترسّخ فيها حداثتها انطلاقاً من إرث عصر النهضة. حينذاك كانت مدن مثل القاهرة وبغداد وبيروت وسواها تدخل عصرها الذهبيّ شاهدة ما يشبه النهضة الجديدة في حقول شتى. وكان روّاد الحداثة في الفكر والشعر والرواية والمسرح والسينما وسواها قد أعلنوا ثوراتهم ضدّ الحركات التقليدية والماضوية والرجعية وانطلقوا نحو فضاءات الحداثة في تجلياتها كافة. إلا أنّ حركة التحديث لم تتراجع البتة، بل راحت تواجه الواقع الجديد طامحة الى تغييره. ولم تزدها المأساة إلاّ شغفاً في تعرية الأوهام واسقاط الأقنعة. كُتبت قصائد حماسية وخطابية كثيرة في الهزيمة وكُتبت عنها أيضاً روايات وقصص ونصوص مسرحية. لكن العودة اليوم الى شعر الهزيمة أو أدبها تكشف طابعه الانفعالي والخطابي ومقاربته السريعة لهزيمة أصابت من الوجدان العربي مقتلاً. ولكن لم يسقط كلّ أدب الهزيمة من الذاكرة فبعضه لا يزال قابلاً للقراءة، لا سيما النصوص التي ابتعدت عن المباشرة والدونكيشوتية والافتعال. والمجال غير متاح هنا لإعادة قراءة هذا الأدب الذي فقد ناره على مرّ السنوات وتوالي الهزائم، ما خلا القليل منه. تُرى هل تلبي الشعوب العربية دعوة جامعة الدول العربية وتقف اليوم دقيقة صمت حداداً على"الهزيمة"؟ هل بلغت هذه الدعوة أسماع هذه الشعوب؟ هل بلغت أسماع أهل فلسطين والعراق ولبنان والسودان...؟ أم أن ضوضاء الحروب الأهلية وغير الأهلية التي تفترس هذه الأوطان أعلى من أي دعوة أو نداء؟