ليسل ممينغر فتاة صغيرة في التاسعة من عمرها. ها هي برفقة رجل وإمرأة في الطريق إلى المقبرة. الرجل أبوها والمرأة أمها. ليسل هي ابنتهما بالتبني. أبوها الحقيقي قيد الاعتقال أما أمها فقد ماتت تحت التعذيب. لقد أمسك بهما البوليس السري النازي بتهمة الشيوعية. إنه الزمن الكالح في ألمانيا. النازية تتسلل إلى الساحة ويملأ الفضاء الخوف والصمت. يأتي الموت ليحتل الصدارة فهو الحاضر أبداً. هذا يوم يوم آخرللموت كي يقوم بعمله. هذا يوم دفن شقيق بطلة الرواية ليسل ممينغر. أثناء الدفن تلمح ليسل كتاباً كان حفار القبر وضعه بالقرب من أمتعته . عنوان الكتاب هو: الدليل إلى حفر القبور. تسهو ليسل عن الآخرين وتتعلق بالكتاب كما لو أن قوة خارقة فيه تشدها إليه. تتعلق بالكتاب من بين كل الأشياء. تنسى الناس والمقبرة وأخيها الميت وتقع مسحورة أمام الكتاب الغامض الذي لا تفقه شيئاً من فحواه. هي لا تعرف القراءة أصلاً. يتحول هذا التعلق بالكتاب إلى هوس طاغ يدفعها إلى اختلاسه. تفقد ليسل شقيقها وتشارك في دفنه ولكنها تكسب مكانه كتاباً. يسرق الموت أخاها فتسرق هي كتاباً بدلاً منه. يمضي أخوها إلى العدم والنسيان أما الكتاب فسيأخذها إلى النور والذاكرة. سرقة كتاب حفار القبر هي الخطوة الأولى على الطريق الطويل الذي ستمضي عليه ليسل. طريق سرقة الكتب. تمثل سرقة الكتب ثيمة محورية في الرواية. بطلة القصة تواصل العيش من خلال سرقة الكتب وبفضل هذه السرقات تتعرف إلى الناس وتبني العلاقات. لا يعادل الموت في الحضور سوى الكتاب. ينهض الموت كأي شخص عادي. يعمد الراوي إلى سرد يوميات العيش في بلد يمضي فيه الناس إلى حتفهم رغماً عنهم. وإذ يجهد الموت في إطفاء جذوة الحياة بين الناس يظهر الكتاب وكأنه منقذ خرج من لا مكان ليعيد الأشياء إلى طبيعتها فتنتصر الحياة وتتفوق الرغبة في العيش. "الدليل إلى حفر القبور"هو كتاب حفار القبور ولكنه ينتشل الفتاة الصغيرة من المقبرة ويعيدها إلى عائلتها الجديدة لتسلك درباً جديداً في الحياة. دليل حفر القبر هو، بالنسبة لليسل، دليل إلى اكتشاف أفق جديد للعيش في مناخ جهنمي يسود فيه الموت وتجول فيه آلة القتل النازية. هناك معادلة خفية في الرواية. تنافس بين الموت والحياة. بين الإقصاء والإبقاء. بين الدفن والانتشال. بين النسيان والذاكرة. يجري كل هذا في ظل مفارقة صارخة. الشيء يستحضر نقيضه. الرغبة في العيش تنهض على كتف المقبرة. والذهاب إلى الأمل يقوم في بقعة اليأس. والتمسك بالشجاعة يتأسس فوق الخوف والهلع. الأشياء تعكس وجهاتها. كتاب"حياتي"لأدولف هتلر ينقذ حياة صبي يهودي كان على وشك أن يأخذه الجنود إلى الموت. ينقذ الكتاب حياة الصبي ماكس فاندربرغ، الذي يتخذ من قبو بيت آل هوبرمان، أهل ليسل بالتبني، مخبأ له. ثم أن ماكس يعمد، في ما بعد، إلى محو صفحات الكتاب ليكتب خواطره العاطفية من أجل ليسل. الكتاب المرعب ذاته، الذي يكرس زمناً حديدياً مغلقاً يقضي بالعذاب، يفتح نافذة على مستقبل أكثر وعداً بالهناء. هذا احتفاء بالكتاب والكلمات والحروف. أيًّا كان محتوى الكتاب فهو يشكل خلاصاً في نهاية الأمر. الكلمات هي، إذن، ذرات من الضوء تجتمع لتؤلف نهاراً يبدد العتمة التي تشطب الناس والأشياء من صفحة الحضور. رواية الكاتب الأسترالي الشاب ماركوس زوساك تقص حكاية البطلة الصغيرة ليسل. غير أن الراوي، الذي هو الموت، يروي سيرة الآخرين أيضاً. وهو إذ يدقق في الأعمار ويتفحص الوجوه ليأخذهم معه في رحلته المضنية، فإنه لا يتأخر عن التأفف من هذا الوجود الظالم. وجود ظالم له أيضاً. البشر يطاردونني. هذا ما يكتبه الموت في دفتر مذكراته. كان مؤلف كتاب الدليل إلى حفر القبور أكد في نهاية الكتاب على ضرورة أن يموت المرء بشكل أنيق. فالموت هو الشيء الوحيد الذي لا تكون فيه مساومة أو تزييف. وهو كتب: إذا ما مت تأكدوا من دفني بطريقة لائقة. يروي الكاتب تفاصيل من حياة الفتاة الصغيرة ليسل التي قتل النازيون أمها واعتقلوا اباها. وهو يجعل الموت يقوم بمهمة السرد: الموت راوياً حيادياً، حنوناً، يثقل كاهله الواجب المدمر الذي يقود خطواته. يتصرف الموت كأي مواطن مخلص. وهو لا يتأخر عن تدوين مذكراته. هذا كتابه، كتاب الموت وهذا زمنه، زمن الموت. في ألمانيا النازية كان الموت يحتفل بانتصاره في كل ركن. انتصار على الحياة والناس والأفكار والكتب. كان الناس يموتون في جبهات القتال وفي الشوارع وفي السجون وفي معسكرات التعذيب وفي غرف الغاز. وكانت الكتب تموت. كانت تختفي من المكتبات وتحرق في الساحات. كان ينبغي التشبث بالكتاب كي يبقى. كان يجب أن ينهض أحدهم فيسرق الكتاب ويأخذه بعيداً من أعين النازيين وحفاري القبور. كان لا بد لأحدهم من أن يسجل الأحوال ويروي القصة. يقول الكاتب ماركوس زوساك: القصص هي التي تشكلنا وتعين طريقة عيشنا. ولا تقوم قائمة للقصص ما لم تدون وتحفظ في ثنايا السطور وبين دفتي كتاب. تذكر هذه الرواية بكتب أخرى دونت وقائع العيش حين كان للموت مقام أرفع من مقام الحياة. نتذكر، من بين كتب أخرى،"مذكرات آني فرانك"الفتاة اليهودية التي اختبأت في سقيفة عائلة هولندية ودونت يومياتها قبل أن يعثر عليها النازيون وتؤخذ إلى الموت. نتذكر رواية إيلي ويسل" الليل"التي يسود فيها ليل الرعب والهول. ليست رواية الأسترالي ماركوس زوساك فانتازيا خيالية بل هي شذرات من يوميات عاشها بشر وجدوا أنفسهم أمام الموت قبل الأوان. كان الموت ضيفاً غير مرغوب فيه استدعاه شخص دون كتباً بعنوان"حياتي"كدليل إلى الموت وحفر القبور للآخرين. كتاب مميز هذا الذي دونه الروائي الأسترالي الشاب. كان مقدراً أن يكون قليل الصفحات ولكنه حين انتهى منه تجاوز 550 صفحة. إنها رواية تنشد الاحتفاء بالقصص والحكايات والكتب والكلمات. هذه الأشياء تحول الوقائع من مشاعر مؤلمة إلى تواريخ حية توقظنا في كل لحظة وتدلنا إلى الخطر الكامن فينا. الحكاية تنقذ لأنها تحيي الذاكرة. ما دفع الراوي إلى كتابة هذه الرواية كان حكاية رواها له أهله. حكاية شهدت حوادثها مدينة ميونيخ الألمانية في زمن النازية. كان الجنود النازيون يدفعون أمامهم جمعاً من اليهود نحو مصيرهم وكان هؤلاء ينقلون خطواتهم بجهد بالغ فقد كانوا مرهقين وجائعين. في آخر الجمع رجل عجوز يكاد يقع أرضاً من الجوع والإنهاك. فجأة يركض إليه صبي صغير ويناوله رغيفاً من الخبز. سالت الدموع من عيني الرجل وقبل يد الصبي. لمح الجندي ذلك فهرع إلى الرجل وانتزع من يده الخبز ثم ركض إلى الصبي وأخذ يجلده بالسوط. يقول زوساك: حين أتذكر هذه القصة أدرك أن القسوة والرأفة خصلتان تجتمعان في الإنسان. في"سارقة الكتب"يحكي الروائي عن القسوة والرأفة اللتين تنتصر إحداهما على الأخرى في نهاية المطاف.