من قال إن"الغمة الاقتصادية"التي تهبط على البيوت المصرية في شهر ايلول سبتمبر من كل عام بسبب بدء العام الدراسي تنقشع وتتبدد وتتبخر في شهر حزيران يونيو من كل عام أي مع انتهاء العام الدراسي؟ ومن قال إن حالة الطوارئ التي يفرضها التوتر الناجم عن التحصيل الدراسي والحشو التعليمي والصم المنهجي تُرفع مع قدوم العطلة الصيفية؟ يشير واقع الحال الى العكس تماماً... صحيح أن العطلة الصيفية بدأت مع انتهاء العام الدراسي، لكن شبح المشاحنات الاسرية ذات الطابع الاقتصادي تلوح في الافق. بل ان حدتها تتزايد وترتبط بارتفاع درجات الحرارة وتفاقم نسبة الرطوبة وهي ما تعد علامات طبيعية تأتي من السماء لحض البشر على النزوح صوب البحر. لكن هذه العلامات الطبيعية كثيراً ما تفتقد عوامل مساعدة ومنشطة تسمح بتلبية نداءات الطبيعة. أبرز هذه العوامل اقتصادي بحت. فالأب الذي نجح في الإبحار إلى بر الأمان بعد عام دراسي حافل بمصاريف مدرسية مغالى فيها، وكلفة دروس خصوصية كادت تكسر كاهله، يكون منهكاً مادياً إلى الدرجة التي تجعل مجرد فتح باب الحديث عن مصيف أشبه بمن يشعل ثقاباً على مقربة من أنبوب نفط. بأقل أضرار ممكنة لكن أنبوب النفط شبه الجاف سرعان ما يضطر إلى إيجاد أي موارد من اجل قضاء عطلة صيفية بأقل أضرار ممكنة، فقد ولى الزمن الذي كانت فيه العائلات المصرية تنتقل بكامل عدتها الى"بيت اسكندرية"أو"شقة رأس البر"لقضاء فصل الصيف. وانقسم المصريون الى ثلاث فئات رئيسة: الاولى هي من تمتلك فيلا او وحدة سكنية في مدينة ساحلية او قرية سياحية ساحلية، والثانية هي من تقوم على توفير بضعة آلاف من الجنيهات بغرض التصييف لمدة اسبوع او عشرة ايام فقط لا غير. والثالثة هي تلك التي تنظر الى الفئتين الاوليين بعين ملؤها الحسرة. إذ إنها عادة ما تقبع في بيوتها بغض النظر عن بدء عطلة الصيف او انتهائها. وفي احسن الاحوال تتمكن من قضاء يوم على شاطئ قريب يكون عادة"مشتى"مثل العين السخنة او رأس سدر وذلك بحكم قربه من مدينة مثل القاهرة. لكن لحسن الحظ أن هناك من الانشطة ما يمكن ان يملأ فراغ اشهر الصيف، إذ تتكاثر اللوحات المرفوعة على مداخل المدارس والتي تعلن عن بدء النشاط الصيفي لطلابها، ومنها ما يشمل تعلم فنون مثل الرسم، النحت، تلوين الزجاج والعزف، ومنها ما يقدم نوعاً من الخدمات المجتمعية مثل المساعدة في تنظيف الحي وتشجيره. وتعد العطلة الصيفية ايضاً فرصة ذهبية للمؤسسات الدينية لجذب الاطفال والمراهقين الى انشطتها وافكارها من بوابة الانشطة الاجتماعية والترفيهية التابعة لها. الا ان مثل هذه الانشطة تجذب عدداً صغيراً من الاطفال والمراهقين الذين يفضلون الانطلاق من دون تقيد بمواعيد وحصص محددة بعدما أعيتهم المدارس بجداولها المتخمة، وحصصها المعبأة بشتى صنوف العلوم والمعارف. كما تفتح هذه المدارس مراكزها الرياضية، حيث يمارس آلاف الأطفال والشباب، الرياضة لا سيما كرة القدم مياومة طوال الأسبوع. الا ان هذه المراكز الرياضية لا تستقطب سوى فئات تُصنّف غالباً ضمن"قاعدة الهرم الاجتماعي والاقتصادي"وهو ما يبقي أبناء الطبقة الوسطى بعيدين عنها. فمعظم هذه المراكز يعاني إهمالاً كبيراً من حيث الاهتمام بالملاعب والمرافق. اما الطبقات الثرية، فيجد ابناؤها وبناتها ملاذاً في النوادي الرياضية الراقية التي تستلزم عضوية ثابتة لارتيادها واستخدام مرافقها الرياضية والترفيهية، وهي عضوية مورثة. اما الاشتراك فيها حالياً فيتطلب مبالغ طائلة يعجز السواد الاعظم من المصريين عن سدادها. هكذا، يبقى ابناء الطبقة المتوسطة حائرين، فلا هم مستعدون للانخراط مع طبقات ادنى في مراكز الشباب، ولا هم قادرون على توفير ما لا يقل عن عشرة الاف جنيه على اقل تقدير رسوم الانضمام الى عضوية ناد رياضي. هذه الحيرة تعبر عن نفسها صيفاً بأشكال عدة تبدأ بالوقوف على النواصي، وتمر بالتسكع في المراكز التجارية، وتنتهي بمشاحنات ومطاحنات اسرية تتخذ طابع المطالبة بمزيد من الحقوق الترفيهية من الاب والام، على رغم أن مثل هذه المطالبات تكون غير مشروعة نظراً الى عدم قدرة اولياء الامر على تلبيتها لاسباب اقتصادية بحتة. وما يؤجج هذه المشاحنات سيول الاعلانات التي تتزايد على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد والمجلات والتي تقدم"اروع عروض الصيف في جزر الكناري"و"اجازة الصيف في اوروبا للجميع"، وپ"ب1500 جنيه في الشهر صيِّف انت واولادك". مثل هذه الاعلانات التي تقدم الوهم بعينه، سواء من خلال تنظيم رحلات بالتقسيط تثقل كواهل الاهل بديون على مدى اشهر مقبلة، او باكتشاف ان الرحلة المعلن عنها التي تكلف صاحبها 1500 جنيه فقط، ما هي إلا"مقدم"لبقية التكلفة. ومع احتدام المشاحنات الاسرية المطالبة بالمزيد من الترفيه رغم محدودية الامكانات، تتعالى دعوات الامهات المتضرعة الى الله بسرعة بدء العام الدراسي الجديد والخلاص من"الصيف وبلاويه"... وتستجيب السماء لدعوات الامهات. ويبدأ العام الدراسي بحملة شعواء من محاولة تدبير المبالغ اللازمة لتسديد مصاريف المدارس الآخذة في الانتفاخ، ودفع فواتير الدروس الخصوصية، وذلك بعدما تكون عطلة الصيف أتت على كل ما في حوزة الأهل من سيولة مادية واصول غير ثابتة، وتبدأ ازمة العام الدراسي بمتطلباته، وتستمر حتى بدء أزمة العطلة الصيفية بمتطلباتها!