ليس هناك أدل على أن وقت الفراغ يعاني إفراطاً وإغراقاً أكثر من هذا الكم المذهل من طلبات الصداقة من «أمير الأحزان» و«فارس الصباح» و«قاهر النساء» من جهة، و«صريعة الحب» و«حزينة بلا حبيب» و«راح زمن الحب» من جهة أخرى. ولا يمكن التأكد من أن الفراغ يهيمن على كثر وينال من حياة ملايين إلا هذا الكم المذهل من السيارات التي تغلق الطرق الرئيسية والفرعية وما بينها في الأحياء القاهرية المعروفة بمقاهيها المتجاورة، وهو الإغلاق الدائرة رحاه على مدار ساعات الليل والنهار، باستثناء الصباح الباكر. ولا مجال لإنكار ما يمكن أن يفعله الفراغ في الأبدان والأرواح، حيث الميزان لا يكذب والمعلومات العامة الضحلة لا تكشف عن نفسها إلا بأعداد المقبلين عليها وتهافت الراغبين في الفوز بالمليون دولار أو الألف جنيه أو رحلة شرم الشيخ. في شرم الشيخ التي تشهد رواجاً ملحوظاً للسياحة الداخلية، حيث تخفيض شديد للأسعار وترويج كبير للمصريين في العطلة الصيفية، جرى حديث محتدم بين شابتين ووالدهما حول وقت الفراغ. فعطلة الصيف تمتد على ثلاثة أشهر ونصف شهر، والإجازة في شرم الشيخ خمسة أيام، والعودة إلى القاهرة تعني العودة إلى حياة الكنبة والبراد. انتقاد الأب لابنتيه التي زاد وزن إحداهما بطريقة ملحوظة، وانكشف المستوى المعرفي للثانية عبر إدمانها مسابقات المعلومات العامة التي يصفها الوالد ب «التافهة» والتي تخفق الابنة فيها دائماً، نجم عنه دفاع مضاد. فالأولى رمت بتهمة وزنها الزائد على الأب الذي يكتفي بالأيام الخمسة في المصيف، فلا تجد ما تملأ به فراغ العطلة الدراسية إلا محتويات البراد. أما الثانية فلا تجد في معلوماتها العامة ضرراً، حيث وقت الفراغ لا يعني بالضرورة قراءة كتاب، بل يعني اطلاعاً، وهو ما تفعله كثيراً ولكن من خلال «فايسبوك» ومواقع الأغاني والفوازير. فزورة ذيوع أسماء حركية وألقاب كودية يعطيها شباب وشابات لأنفسهم على «فايسبوك» في موسم الصيف ربما يكمن حلها في وقت الفراغ. فعلى رغم صعوبة أو بالأحرى استحالة حصر أو تصنيف أصحاب هذه الأسماء وخلفياتهم والغرض منها، إلا أن هناك من الشباب من الجنسين من يلجأ الى تدشين صفحات بأسماء يرونها «جذابة» أو ذات رونق قادر على تكوين صداقات لملء تلك الفراغات من دون الإفصاح عن الهوية الحقيقية. «أحمد» (20 سنة) يقول أن لديه ثلاث صفحات بثلاثة أسماء يستخدمها للتسلية حيث «صداقات» مع فتيات بعضها يطغى عليه الشق الرومانسي بدرجاته، والبعض الآخر يكون «صداقات» لتبادل آراء ووجهات نظر عن كل شئ وأي شيء بدءاً بكرة القدم والدوري مروراً بالعلاقات مع الجنس الآخر وانتهاء بقضايا مثل الهجرة والعمل والدراسة. «نوران» تعترف بأنها تستخدم إسماً كودياً رفضت الإفصاح عنه حيث تتصرف «براحتها» سواء لعمل صداقات مع شباب، وهو شيء غير وارد في حال كشفت عن هويتها، أو للتعبير عن آراء جريئة لها لا يمكنها التعبير عنها باسمها. وتؤكد: «هي صفحة صيفية تذهب إلى حالها مع بدء الدراسة». العمل التطوعي نموذجاً ولحسن الحظ أن بدء الدراسة أو انتهاءها لا يؤثر كثيراً في منظومة وقت الفراغ لدى قطاع آخر من الشباب المصري، وإن ظل أقلية. فالنشاطات الطالبية، لا سيما الجامعية، تشغل قطاعاً من طلاب الجامعات على مدار شهور السنة. محمد توفيق (19 سنة) طالب جامعي وعضو نشيط في جمعية طالبية تعمل على محو أمية وتنظيم دروس تقوية لسكان مناطق عشوائية في القاهرة. يقول: «انخراطي في هذا النشاط محا عبارة وقت الفراغ من حياتي. في أثناء الدراسة، أخصص ثلاثة أيام بعد انتهاء الدراسة إضافة إلى يوم الجمعة، أمضيها في التدريس. وفي أثناء الصيف، أخصص لنفسي يوم إجازة والستة أيام المتبقية أكون موجوداً خلالها في هذه المنطقة للتدريس والمساعدة في تطويرها». تطوير مفهوم وقت الفراغ في شكله السلبي التقليدي والمستخدم من البعض إما في النوم المفرط أو مشاهدة التلفزيون بإغراق أو التلطع في المقاهي طيلة ساعات الاستيقاظ، أو حتى المؤدي إلى نهايات غير سعيدة حيث انخراط في تناول المخدرات أو التحرش بالفتيات وغيرهما من سبل تمضية وقت الفراغ المقيتة، لا يحتاج إمكانات هائلة أو أموالاً طائلة. هذا ما أثبتته مجموعة من الشباب من سكان منطقة «المرج» الشعبية. فقطعة الأرض الخالية التي حولها السكان إلى مقلب قمامة نظفوها بالكامل، وحولوها بالجهود الذاتية البدائية إلى ملعب كرة قدم يستخدم على مدار اليوم من أبناء المنطقة. وتكونت فرق رياضية، وتتجمع الجماهير لمشاهدة المباريات، وتجري التدريبات هناك منذ مطلع الصيف ليتحول وقت الفراغ لقطاع من الشباب من وقوف على النواصي ومشاحنات في البيت طلباً لمزيد من المصروف، إلى رياضة لا تهدّدها إلا أخبار ترد بين الحين والآخر عن نية صاحب الأرض البدء في بنائها وتحويلها إلى كتلة خرسانية إضافية. مشاهد مشابهة ولكن بإمكانات مادية أعلى موجودة بين عمارات سكنية فاخرة في حي مدينة نصر (شرق القاهرة)، حيث ثلاثة ملاعب مجهزة للعب الكرة مجهزة ب «الترتان» ومزودة بإمكانات معقولة تمتص وقت فراغ الشباب والصبية من سكان العمارات. وتبقى معضلة النوع قائمة في معظم سبل تمضية وقت الفراغ. فالقيود الاجتماعية والثقافية المفروضة تكبّل تحركات الفتيات إلى حد كبير، وحتى في حال إتاحة ملاعب رياضية تكون مخصصة لكرة القدم وممارسيها من الذكور. وتُستثنى من هذا التحيز شابات الطبقات الغنية، حيث إمكانات الاشتراك في النوادي الرياضية وتمضية أشهر الصيف على الشاطئ من دون حد أقصى للأيام أو اضطرار للتردد على البراد أو التصاق غير محمود العواقب بكنبة من الكنبات.