لم يستقبل المسيحيون اللبنانيون انتقال المسلمين السنّة الى الموقع الاستقلالي، الذي كان المسيحيون انفسهم حفروه على مدى اكثر من عقد، على النحو الذي كان من المفترض ان يستقبلوه به. فالخطوة السنية التي ظهرت جلياً منذ اللحظة الأولى لاغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط فبراير 2005 هي لحظة نادرة ربما لم يتح للمسيحيين مثلها في التاريخ اللبناني الا مرة واحدة، عندما غلّب رياض الصلح خياره اللبناني وفرض على طائفته القبول بلبنان. وبعدها لم تتمكن شخصية سنية لبنانية واحدة من تجريد لبنانيتها من شحنات الاندفاعات العروبية. صائب سلام وجد نفسه في ازمة 1958 في قلب ما سمي في حينه"الثورة"وفي مواجهة كميل شمعون. وفي 1975 لم يتمكن سنّة لبنان من النأي بأنفسهم عن الوقوف الى جانب منظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب اليسارية في حرب لم يكن السنّة من أشد المتحمسين لها. وفي 1990 وعندما جردت القوات السورية والجناح اللبناني المتحالف معها حملة لإنهاء ما سمي تمرد العماد ميشال عون، لم يكن السنّة رأس حربة هذه العملية، لكنهم لم يكونوا في الموقع المواجه لها. وعلى مدى هذه المراحل كلها، كان موقعهم رجراجاً ومتأرجحاً بين تأسف على شراكة يريدونها فعلاً وبين تمسكهم ب"أخوة"سابقة على هذه الشراكة ومتجاوزة لها. في 14 شباط 2005 بدا السنّة في لبنان وكأنهم غادروا حيرتهم. خرجت بيروت وراء جنازة رفيق الحريري موجهةً أصابع الاتهام الى"الأشقّاء"ومغلّبة"الشراكة"على"الأخوة". ولم تكن هذه اللحظة وليدة انفعال احدثه الاغتيال كما يحلو لكثيرين ان يصوروا. فما كُشف لاحقاً من مرارات العلاقة بين سورية والسنّة اللبنانيين فاق بأشواط ما شهدته العلاقة السورية مع مسيحيي لبنان. لم يلتقط المسيحيون الدلالة السياسية لهذه اللحظة. في البداية تعاملوا معها على نحو فولكلوري وعاطفي. هتفوا وراء الجنازة وبكوا مع ابناء بيروت، وفي السياسة تعاملوا مع الانعطافة السنية على انها أمر بدهي. لم يدركوا ان قدوم ابناء بيروت الى مواقعهم يحتاج الى تحصين وأن هذا الانتقال مهدد اذا لم يُحصَّن سياسياً. ولم ينتبهوا الى ان هذا الانتقال هو الذي مهد لبداية العودة السياسية المسيحية الى المعادلة الوطنية. انتخب جبل لبنان، وهو نواة الحضور المسيحي في البلد، ميشال عون ممثلاً له في اول انتخابات بعد الانسحاب السوري من لبنان. وكان عون فور وصوله الى بيروت باشر سباقاً بينه وبين رفيق الحريري في ضريحه، قوامه: من الذي اخرج السوريين من لبنان، انا ام رفيق الحريري؟ وبدأت تظهر على ملامح"عماد"المسيحيين قسمات اخرى. اقترع المسيحيون له على نحو انتقامي، ولكن ممن؟ من شركاء جدد لم تكن الشراكة معهم قد تمتنت بعد. فالخطأ غير القاتل الذي ارتكبه السنّة في تمريرهم قانون الانتخابات الذي لم يلاقِ رضا مسيحياً، رد عليه الأخيرون بسلاح فتك بالشراكة الطرية العود، وتمثل بانتخاب عون ولوائحه المنافسة للوائح التحالف الناشئ. والغريب ان الاقتراع للعماد لم يكن اقتراعاً له فحسب، وانما ايضاً لحلفاء له لم ينهوا بعد علاقتهم بسورية وكانوا حتى الأمس القريب رموزاً فاقعة في سياق المواجهة السورية المسيحية. بعد الانتخابات، صار جائزاً ان ننسب الى المسيحيين في لبنان ما يقدم عليه ممثلهم العماد ميشال عون. صار من الجائز ان نقول ان المسيحيين في لبنان وقّعوا ميثاقاً مع"حزب الله"، وابتعدوا خطوة من الموقع الجديد للسنّة في لبنان، وانهم تعاملوا مع"الأخطاء التكتيكية"بارتكابهم أخرى"استراتيجية". فمسألة ملاقاة السنّة بعد انعطافتهم لا يمكن التقاعس عنها بسبب مقعد او مقعدين نيابيين في المتن الجنوبي، والاعتراف بدورهم في دفع السوريين الى الانسحاب سيكون على سبيل تثبيتهم في الموقع الذي اراده المسيحيون اصلاً للبنان. والقضية تتعدى من دون شك التنافس المفتعل على كرسي وزارة العدل، او التلويح الانتقائي بملفات الفساد. لكن، لنقف الآن ونقوّم نتائج"الخطأ المسيحي"هذا. ففي المشهد اللبناني صورة تحالف مسيحي - شيعي أملته ضرورات غير منطقية الى حدٍ بعيد."حزب الله"ما كان ليلجأ الى عون لو ان ثمة فرصة سنية تلوح في الأفق. هذه الحقيقة اذا لم يكن العماد يدركها يكون المسيحيون قد اوقعوا انفسهم في مأزق مضاعف. فهو، في سياق لهاثه الرئاسي، لم يصمد امام"غمزة"صغيرة وجهها اليه السيد حسن نصرالله. وهو، أدرك ام لم يدرك، لن يكون الرئيس العتيد لكن في إمكانه ان يعوق ايصال رئيس لا يريده"حزب الله". فكل ما يستطيع العماد ان يفعله عرقلة انتخاب رئيس لا يريده"حزب الله". وفي المقابل ليس في إمكانه الاتيان برئيس للجمهورية يرغب"حزب الله"به. اذاً، تحول المسيحيون في هذه الحال، مرة جديدة، قوة فاعلة على نحو سلبي في المعادلة اللبنانية. فماذا بقي امام القوتين الأخريين، اي السنّة تيار المستقبل والشيعة حزب الله؟ السيناريو المنطقي ان يجرى اتفاق على رئيس للجمهورية لا يثير حساسية هذين الناخبين، وهذا لن يتم الا على حساب المسيحيين في لبنان. ثمة اكثر من شخصية لا تستفز آل الحريري ومقبولة من"حزب الله"كما لا تثير حفيظة سورية وتتمتع بما يسمى"عمقاًً عربياً". لكن ليس من شخصية واحدة يقبل بها عون ويؤيدها آل الحريري. اما بالنسبة الى"حزب الله"، فالعودة السنية الى دائرة"الوعي المقاوم"عزيزة على قلبه أضعاف ما هي عزيزة أيضاً"وثيقة تفاهم"يدرك الحزب عدم رسوخها في وعي القاعدة الحاضنة لميشال عون. والشرعية التي يستمدها الحزب من هذه العودة والتي حرمته منها عملية اغتيال الحريري، لا تمكن مقارنتها بعائدات تحالف عابر مع العماد. المسيحيون في لبنان في مأزق هم بأنفسهم صنعوه هذه المرة. والسيناريو الأمثل الذي يطرح والذي قد يجنّبهم مرارة تحالف شيعي - سني، هو ان يكمل اميل لحود ولايته وأن تكافأ الأكثرية مقابل صبرها سنة"لحودية"ونصف سنة بأن تختار الرئيس المقبل، وهو لن يكون ميشال عون طبعاً. اما الثمن الذي سيدفع لقاء هذا السيناريو المرير فسيدفعه اللبنانيون كلهم بأن يتجمد زمنهم طوال هذه المدة.