جاءت إجراءات الحكومة السورية التي أعلنت عنها الأيام الماضية باتجاه التأثير على عرض العملات الصعبة والطلب عليها في الوقت المناسب، وتتلخص إجراءاتها بثلاثة وهي: - زيادة عرض الدولار عبر توسيع تمويل المصارف الحكومية لمستوردات القطاع الخاص واحتياجات المواطنين الأخرى. - تخفيض الطلب على الدولار عبر تعديل أسعار الفائدة وإصدار سندات خزينة لمدة سنة بفائدة 9 في المئة. - التوجه نحو تنظيم مهنة الصيرفة بما يضع السوق غير الرسمية"السوداء"تحت الأنظار. سوقان لليرة السورية: ما زال الدولار الأميركي هو العملة الرئيسة التي يتحدد سعر صرف الليرة السورية تجاهها والتي تحدد سعر صرف العملات الأخرى. في سورية توجد سوقان رئيسان مفصولتان لعرض العملات الصعبة الطلب عليها: - السوق الحكومية: وتنحصر في المصارف الحكومية وتشمل إيرادات الحكومة من العملات الصعبة، و 70 في المئة من إيراداتها تأتي من صادرات النفط. وتستخدم الحكومة إيراداتها لتغطية احتياجاتها المختلفة، ثم تغطية الجزء الأقل من احتياجات قطاع الأعمال، وجزء صغير من الاحتياجات الأخرى للمواطنين. وما زالت هذه السوق تحقق فائضاً. - السوق غير الرسمية"السوداء"، وتشمل معظم تعاملات القطاع الخاص والأهلي، وتتكون إيراداتها أساساً من صادرات القطاع الخاص وتحويلات العمالة السورية في الخارج وبعض المصادر الأخرى. ويتكون الطلب فيها من طلب قطاع الأعمال لتغطية مستورداته التي لا تغطيها الحكومة، ثم طلب القطاع الأهلي لمختلف احتياجاته للسفر والتعليم والطبابة في الخارج وغيرها. ويقع جزء من هذه السوق خارج المصارف السورية، بينما يقع الجزء الآخر خارج الأراضي السورية، وخصوصاً في لبنان، وقد بدأ بالتراجع، ثم في الأردن والسعودية ودول الخليج. وهذه مسألة ترفع إمكانية المضاربة على الليرة السورية. وهذه السوق غير الرسمية تعاني من عجز تتم تغطيته، بحسب ما يتردد، عبر ضخ كمية من العملات الصعبة في السوق من قبل الحكومة. ويتم هذا التدخل بطرق شفافة. ولا يوجد رصد جيد لحركة هذه السوق ولا دراسات لها، إنما تراقب الحكومة هذه الحركة بكثير من التكتم. الضغوط تؤدي لميل قيمة الليرة نحو الهبوط: جاء ارتفاع الطلب على الدولار عبر: - زيادة مستوردات القطاع الخاص بأكثر من زيادة وارداته، منذ 2004. - الضغوط السياسية التي أدت إلى تقلص تحويلات السوريين من الخارج، وتقلص تدفق الرساميل الخاصة وهي قليلة أصلاً، واستمرار تهريب الأموال إلى الخارج ثم تزايدها بسبب الضغوط السياسية. - بعض التأخر في الإجراءات الحكومية في موازنة العرض والطلب أو التأخر في طمأنة المواطن. وقد بقي الارتفاع محدوداً، فلم يتجاوز 56 ليرة سورية للدولار بعد أن كان نحو 53 ليرة سورية أي أقل من 2 في المئة. ولكن حساسية الوضع أدت إلى تدخل الحكومة. المخاطر على المدى القريب وإجراءات مواجهتها: إن السمة العامة خلال الأسابيع القادمة هي فترة تأرجح. وتواجه الحكومة السورية حالياً سؤالاً صعباً، إذ ماذا لو تصاعدت ضغوط الطلب على الدولار، خصوصاً بسبب الضغوط السياسية، وجميع المؤشرات تشير الى ذلك؟ لدى الحكومة قدرة جيدة على حماية أسعار صرف الليرة لأمد معقول من الزمن. فاحتياطها من العملات الصعبة يعادل نحو 30 شهراً من قيمة مستورداتها بمستواها الحالي، وهو من أعلى المعدلات. ومعظم هذا الاحتياط موجود على شكل يورو ويدار بطريقة غير شفافة. ستجد الحكومة نفسها أمام ثلاثة احتمالات للجواب عن هذا السؤال: - الأول: أن تقوم بحماية سعر الصرف حتى النهاية مستخدمة جزءاً من احتياطها من العملات الصعبة. وسيؤدي هذا الاستخدام لتآكل الاحتياط في فترة تتوقف على سياستها، خصوصاً إذا أخذت بنصائح البعض بتحرير قابلية الليرة للتداول في هذه الظروف. - الثاني: أن تمتنع عن أي حماية لليرة فتحافظ على احتياطها. غير أن هذا القرار سيؤدي الى ارتفاع سعر صرف الليرة تجاه العملات الصعبة وبالتالي الى ارتفاع أسعار عام يؤدي لمزيد من تدهور مستويات أصحاب الأجور والرواتب المتدهورة أصلاً، ما يخلق غضباً شعبياً في فترة تستمر فيها الضغوط السياسية. - الثالث: حماية مدروسة تقوم على مراقبة لصيقة بالضغوط وعواملها وحركة السوق، مع حساب تكاليف الحماية الكلية أم الجزئية، بحيث تستخدم الدولة جزءاً من احتياطها مع السماح بارتفاع أسعار محدود. في المدى القريب لا يمكن للدولة إلاّ أن تحمي العملة الوطنية من التدهور بانتظار ما تسفر عنه الشهور القادمة، ولتخفيف تكاليف حماية العملة الوطنية لا بد من اتخاذ إجراءات تخفف الطلب على العملات الصعبة مثل: - رفع سعر الفائدة بنسبة كبيرة دفعة واحدة ربما حتى 25 في المئة وربما أكثر، أو الإعلان عن هذا التوجه لرفعه تدريجاً بحسب الحاجة وبحسب رد فعل السوق على القرار. - الإسراع بإصدار شهادات إيداع بالليرة السورية بفائدة مرتفعة. - الإسراع بإصدار شهادات حكومية باليورو بفائدة مرتفعة. - عدم اتخاذ إجراءات تزيد من الطلب على السلع المستوردة. - عدم تقليص نفقات الدولة الجارية والاستثمارية، فهذا التقليص يخلق فجوة لها مخاطرها في قدرة الدولة على مواجهة الضغوط القادمة. - اتخاذ إجراءات عاجلة يمكن أن تزيد من الصادرات. ستحدد أسعار الفوائد بحسب مستوى الضغوط. هذا وسيحد ذلك من الطلب على الليرة السورية. وفي هذه الحالة حتى لو استمرت الضغوط السياسية وحتى المضاربات، فإن خفض معدل تحويل الليرة تجاه العملات الأجنبية سيبقى محدوداً، وكذلك ارتفاع الأسعار بمستويات يمكن تحملها بانتظار ما سيأتي من تطورات. هذه الإجراءات ستجعل تكاليف الاستثمار أعلى، وستخلق ضغطاً أكبر على قطاع الأعمال قد يؤدي، لو طال، إلى ركود اقتصادي، وضغطاً أقل على المواطن، بل ستخلق الفائدة المرتفعة عائداً يعوض المواطن جزءاً مما يخسره بارتفاع الأسعار. كما ان استمرار الدولة في الإنفاق وقطاعها الاقتصادي بالنشاط سيجعلها تتحمل جزءاً من تكاليف هذه الإجراءات. هكذا تتوزع أعباء الضغوط وتكاليفه على الدولة وقطاع الأعمال والمواطنين بانتظار ما تسفر عنه هذه الفترة. ان ما على الدولة أن تتذكره جيداً هو درس أواسط الثمانينات، حين قامت بتمويل مستوردات القطاع الخاص بأسعار تحويل الليرة تجاه الدولار بأسعار تقرب من نصف أسعار السوق غير الرسمية"السوداء"، بينما قام التجار ببيع مستورداتهم بحسب أسعار السوق السوداء، ما خلق أرباحاً ريعية كبيرة. وقد بدأ القطاع الخاص يتزاحم بتقديم طلبات فتح اعتمادات وفي ذاكرته ما جرى في الثمانينات. وهذا كله يعني انه يجب الحفاظ على سعر صرف رسمي مماثل لسعر السوق غير الرسمية. مثل هذه الإجراءات ستجعل أثر الضغوط محدوداً وتكاليفه محدودة بانتظار ما تسفر عنه الشهور القادمة، أما في حال تزايد الضغوط ووصولها إلى مستويات أعلى فيجب وضع سياسة أوسع تشمل مكونات الاستثمار والتصدير والإنفاق الحكومي وغيرها. المخاطر على المدى المتوسط: ماذا لو استمر استهداف سورية لسنوات قليلة قادمة؟ على المدى المتوسط، قد تتعرض سوق العملات الصعبة لضغوط مزدوجة تشكل مقصاً، بسبب تراجع كميات النفط المصدرة وبفرض عدم قدرة الاقتصاد السوري على تعويضها بصادرات أخرى، وبسبب تزايد عجز الميزان التجاري، الذي بدأ بالظهور منذ 2004. ومن جهة أخرى تراجع تحويلات العملات الصعبة إلى سورية سواء كان ذلك بسبب تراجع الاستثمار الخاص أو تراجع تحويلات العاملين أو حتى تلك الناتجة عن تراجع السياحة، واستمرار هروب الرساميل، ما سيؤدي الى ازدياد الفجوة بين عرض الدولار والطلب عليه مما يخلق ضغوطاً أكبر على احتياط الدولة ويجعل تكاليف حماية الليرة أكبر على المدى المتوسط. كما أن المزيد من تحرير التجارة سيؤدي الى مزيد من الطلب على العملات الصعبة، سواء"بسبب اتفاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى أو اتفاق تحرير التجارة المقبلة مع تركيا، أو اتفاق الشراكة السورية الأوروبية المقبلة، والمجمدة الآن بسبب مواقف سياسية من الجانب الأوروبي، ما يعني تزايد العجز في الميزان التجاري. ولمنع حدوث هذا المقص أو جعل تأثيره محدوداً، أمام الحكومة مجموعة من الإجراءات: - ستضطر الحكومة، وبحسب حجم الضغوط على الليرة، للاستمرار بسياسة حماية الليرة ولو نسبياً، - استمرار إجراءات تخفيف الطلب على الليرة عبر أسعار الفائدة والسندات وعدم اتخاذ خطوات أخرى تحرض المزيد من الطلب على المستوردات. - ستؤدي أسعار الفوائد المرتفعة إلى استمرار تدفق تحويلات العمالة السورية في الخارج. - ستضطر الدولة لإعادة النظر بسياسة الدعم التي تخلق ضغوطاً على العملات الصعبة وخصوصاً على المازوت، - يمكن أن تقوم الدولة بزيادات أجور تعويضية. - يمكنها أن تطلق مجموعة من المشروعات الاستثمارية المختارة الموجهة نحو التصدير كشركات مساهمة بين الحكومة والقطاع الخاص والأهلي. - يمكنها أن تسرع بإصلاح القطاع العام، لأن عبئاً كبيراً سيقع عليه في مثل هذه الظروف التي يتوقع أن تتقلص فيها استثمارات القطاع الخاص. - أو أن تسرع بتطوير برنامج متكامل لتنمية الصادرات بما فيها هيئة تنمية الصادرات. - تسريع العديد من الإجراءات الإصلاحية التي تساعد في تحسين مناخ الاستثمار مثل إصدار القانون التجاري وقانون الإغراق وقانون الممارسات الضارة بالاقتصاد الوطني، وإنشاء هيئة الاستثمار والسوق المالية وغيرها من إجراءات ضرورية طال انتظارها. - الاتجاه نحو قطاع النفط والغاز لجذب استثمارات دولية تساعد في زيادة إنتاج الحقول الحالية للسورية للنفط، وأن تعالج مشكلة تدهور الإنتاج في حقول شركة الفرات للنفط امتياز شركتي شل وبتروكندا وأن تسرع في تنفيذ مشروع غاز تدمر الذي ينتج نحو 10 ملايين متر مكعب في اليوم، وقد تأخر حتى الآن لأكثر من 7 سنوات بسبب البيروقراطية الحكومية وقراراتها الخاطئة. - في كل الأحوال، تكلف فريق عمل ليقوم بدراسة شاملة تخلق معرفة أفضل بسوق العملات الصعبة تجاه الليرة السورية والعرض والطلب فيها والعوامل المؤثرة، ويضع السيناريوات المحتملة والإجراءات الممكنة، وتعدل في تشكيلة مجلس النقد والتسليف باتجاه إدخال بعض الخبراء. مثل هذه المجموعة من الإجراءات ستجعل سورية تجتاز الفترة الصعبة فيما لو استمرت لبضعة أعوام. ولكن قد لا تكون سورية بحاجة لهذه الإجراءات الصعبة. خبير اقتصادي ومحلل مالي سوري.