لعل أحد أكثر الافلام المناهضة"للامبريالية"قرباً من قلوب العرب الفيلم الملحمي"أسد الصحراء"الذي يمثل فيه أنطوني كوين دور عمر المختار. ويشيد الفيلم بالمقاتلين العرب في مواجهة الايطاليين، وبطلبهم الشهادة غير هيابين تحت دبابات موسوليني. وهذه الاساطير، ممزوجة بعيار قوي من الوطنية في الكتب المدرسية، وصور أطفال الحجارة بفلسطين، نصبت"المقاومة"في الوعي العربي الشعبي فعل شهامة عالياً ومجيداً. ولكن تحول المقاومة الى اعمال ارهابية، والالتباس العراقي الذي جعل احتلالاً أميركياً مهيناً المخرج الوحيد من الاستبداد البعثي، طرح علامات استفهام كثيرة. ولا شك في ان التخلص من رواسب الاساطير يتطلب وقتاً طويلاً، ولكنه، في الوقت نفسه، قد ينجم عن صدمة كبيرة كاعتداءات 9 تشرين الثاني نوفمبر في عمان. ومن سخرية القدر أن يكون في عداد القتلى الستين، المخرج السينمائي، مصطفى العقاد، صاحب"اسد الصحراء"ومخرجه. وحلت محل الفيلم المحبب على مواقع الانترنت الاسلامية، الأوراد الدينية بدلاً من الموسيقى، وحذفت المشاهد التي تصور النساء. وأصاب تنظيم"القاعدة"، وهو اعلن مسؤوليته عن تفجيرات عمان، أهدافاً انقلبت عليه في السنوات الماضية. فالمجازر التي تعرضت لها مدن مسلمة مثل الدار البيضاء واسطنبول والرياض وشرم الشيخ، أبعدت جمهور المسلمين عن الجهاديين. فقتل في عمان عشرات الفلسطينيين، وهم مسلمون سنّة في قلب عاصمة عربية هانئة. وعلى الفور تغيرت النظرة الى من كان، يوماً، بطلاً مسلماً، وهو أبو مصعب الزرقاوي. فصار اكثر الرجال المكروهين في الاردن. وحتى عائلته التي امتدحت نفسها في السابق بابنها الشجاع، اعلنت براءتها منه وتنصلها. وأظهرت استطلاعات الرأي في الاردن، وهي كانت في السابق مؤيدة الجهاديين، تراجعاً ملحوظاً في حظوتهم. ولا يقتصر هذا على المجتمع الاردني، بل ان تغيراً شاملاً في الرأي العام العربي بدأ يظهر. ففي الدار البيضاء، نزل حوالى 150 الف شخص الى الشوارع احتجاجاً على تهديد"القاعدة"لديبلوماسي مغربي في بغداد. وأثار اعدام جماعة الزرقاوي ديبلوماسيين جزائريين وقائماً بالأعمال مصرياً، استياء عاماً في البلدين. وادت سنتان من"الجهاد"في السعودية الى استعداء الرأي العام السعودي على الاصولية الاسلامية. فهوى التأييد الشعبي لهذه الاعمال من 80 الى 20 في المئة، بحسب مصادر محلية. وكانت بعض الحكومات العربية تتستر عن ارهابييها، خوفاً من أن توصم بهم، وأن يضر ذلك بصورتها. فصارت اليوم تتذرع بالمآسي الناتجة من هؤلاء الارهابيين الى تبرير سياساتها. ولكن الامور بدأت تتغير. فكتّاب الاعمدة العرب الذين قاموا ضد"المشروع الاميركي"بدأوا اليوم ينددون بالعنف. وفي الثقافة الشعبية بدأت ملامح التغيير ايضاً. ففي ذروة موسم التلفزيون، وهو شهر رمضان، عرضت الشاشات العربية مسلسلات تنتقد"الجهاديين"، وتسلط الضوء على بؤس المجتمعات التي تأويهم. ورجال الدين المغالون التحقوا، بدورهم، بموجة الاعتدال، واستغلوا منابرهم في التنديد بأعمال العنف باسم الدين. وحتى نجم"الجزيرة"الذي أحل العمليات الانتحارية ضد اسرائيل، الشيخ يوسف القرضاوي، بدأ ينشد التسامح، ويدعو الجهاديين الى التوبة. وفي الاردن، اعلن رفيق الزرقاوي، أبو محمد المقدسي، ان"التجاوزات في العراق أساءت الى صورة الجهاد". وأرسل ايمن الظواهري نفسه الى الزرقاوي ينصحه بعدم"الاصرار على جز رؤوس المخطوفين عندما تفي رصاصة واحدة بالغرض". ولا يأتي هذا نتيجة مساعي الغرب. بل تبلور وعي جماعي بأن الهستيريا الجهادية لم تبق مجدية، وأن تكاليف"المقاومة"تفوق نتائجها المرجوة. وفي الوقت نفسه، ترتفع المطالبة داخل أميركا بإعادة الجيش الى دياره، لتطمئن العرب المتوجسين من بقاء الجيش الاميركي في العراق الى ما لا نهاية. وثمة مساع حكومية ملموسة في العالم العربي. فالدولتان الراجحتان في المنطقة، وهما مصر والسعودية، بادرتا الى التماس حل الازمة العراقية بعد وقت من المراقبة. ويعود ذلك الى اسباب اولها الخوف من"اشباع"العراق بپ"المجاهدين"الذين قرروا، على ما يبدو، توسيع دائرة نشاطهم. وثمة سبب آخر هو أن السنّة الذين دعموا"المقاومة"وجدوا نفسهم في عزلة، ومهدوا الطريق أمام الاطماع الايرانية والمتشددين الشيعة. وعليه، فالانتخابات الوشيكة في العراق وهي تثمر حكومة دائمة وليس مرحلية، نبهت بعض السنّة الى ان عليهم المشاركة في صنع مستقبل بلادهم، لئلا يعزلوا ويهمشوا. ويأتي مؤتمر القاهرة في السياق نفسه. فالرئيس العراقي الكردي، جلال طالباني، جهر نيته التفاوض حتى مع"المقاومة"، ما هدأ السنّة ولم يستفز الشيعة، لانه ألحق بقرار عدم اعتبار اعمال العنف"مقاومة". وتبقى الحقيقة الراسخة ان العراق مكان موحل وصعب، وقابل للانفجار في أي لحظة. وجاءت الحوادث الاخيرة لتثبت نفوراً طائفياً بين العراقيين وعداوة. والأسئلة الأساسية لم تجد اجابات عنها بعد، كالفيديرالية وتقاسم الثروة النفطية. وپ"المجاهدون"الذين حولوا العراق ساحة لعب، خسروا بريقهم، لكنهم لم يختفوا بعد. ويبقى ان على العرب المتنازعين بين عالمين اعتماد صيغة وسطية وعقلانية لا تبدد، مرة واحدة، ما يملكونه. عن ذي ايكونوميست البريطانية، 26/11 - 3/12/2005