افتتاح معرض عسير للعقار والبناء والمنتجات التمويلية    الخريف: نطور رأس المال البشري ونستفيد من التكنولوجيا في تمكين الشباب    مركز الفضاء.. والطموحات السعودية    حرب غزة تهيمن على حوارات منتدى الرياض    العميد والزعيم.. «انتفاضة أم سابعة؟»    تسجيل «المستجدين» في المدارس ينتهي الخميس القادم    أخفوا 200 مليون ريال.. «التستر» وغسل الأموال يُطيحان بمقيم و3 مواطنين    بطولة عايض تبرهن «الخوف غير موجود في قاموس السعودي»    أمير منطقة المدينة المنورة يستقبل سفير جمهورية إندونيسيا    دعوة عربية لفتح تحقيق دولي في جرائم إسرائيل في المستشفيات    «ماسنجر» تتيح إرسال الصور بجودة عالية    برؤية 2030 .. الإنجازات متسارعة    العربي يتغلب على أحد بثلاثية في دوري يلو    للمرة الثانية على التوالي.. سيدات النصر يتوجن بلقب الدوري السعودي    (ينتظرون سقوطك يازعيم)    في الجولة 30 من دوري" يلو".. القادسية يستقبل القيصومة.. والبكيرية يلتقي الجبلين    بالشراكة مع المنتدى الاقتصادي العالمي.. إنشاء" مركز مستقبل الفضاء" في المملكة    أمير الشرقية يدشن فعاليات منتدى التكامل اللوجستي    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يحضر احتفالية اليوبيل الذهبي للبنك الإسلامي    «الكنّة».. الحد الفاصل بين الربيع والصيف    توعية للوقاية من المخدرات    لوحة فنية بصرية    وهَم التفرُّد    عصر الحداثة والتغيير    مسابقة لمربى البرتقال في بريطانيا    اختلاف فصيلة الدم بين الزوجين (2)    قمة مبكرة تجمع الهلال والأهلي .. في بطولة النخبة    تمت تجربته على 1,100 مريض.. لقاح نوعي ضد سرطان الجلد    اجتماع تنسيقي لدعم جهود تنفيذ حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين    Google Maps أولوية الحركة لأصدقاء البيئة    فزعة تقود عشرينيا للإمساك بملكة نحل    العشق بين جميل الحجيلان والمايكروفون!    بقايا بشرية ملفوفة بأوراق تغليف    إنقاص وزن شاب ينتهي بمأساة    الفراشات تكتشف تغيّر المناخ    وسائل التواصل تؤثر على التخلص من الاكتئاب    أعراض التسمم السجقي    زرقاء اليمامة.. مارد المسرح السعودي    «عقبال» المساجد !    دوري السيدات.. نجاحات واقتراحات    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (37) من طلبة كلية الملك فهد البحرية    ولي العهد يستقبل وزير الخارجية البريطاني    دافوس الرياض وكسر معادلة القوة مقابل الحق    السابعة اتحادية..    الإطاحة بوافد وثلاثة مواطنين في جريمة تستر وغسيل أموال ب200 مليون ريال        اليوم.. آخر يوم لتسجيل المتطوعين لخدمات الحجيج الصحية    أمير المدينة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب    فيصل بن بندر يستقبل مدير 911 بالرياض.. ويعتمد ترقية منتسبي الإمارة    إنقاذ معتمرة عراقية توقف قلبها عن النبض    أمير تبوك يطلع على نسب الإنجاز في المشاريع التي تنفذها أمانة المنطقة    رسمياً.. إطلاق أوَّلَ مركز ذكاء اصطناعي للمعالجة الآلية للغة العربية    سياسيان ل«عكاظ»: السعودية تطوع علاقاتها السياسية لخدمة القضية الفلسطينية    أمطار مصحوبة بعدد من الظواهر الجوية على جميع مناطق المملكة    دولة ملهمة    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحياة بالعربية !. الفصحى تغطي السياسة والشاعران أدونيس ومحمود درويش يسحران الجمهور بالنثر 2 من 2
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 2004

تواصل "الحياة" نشر هذا المقال الطويل للبروفسور الراحل تلبية لرغبة سابقة من كاتبه، اذ كان نشره بالانكليزية في المجلة الادبية المتخصصة "راريتان" ربيع 2002 وتمنى لو أمكن ترجمته ليطلع عليه قراؤه العرب، وهو يتحدث عن اللغة العربية محللاً ومتذوقاً، لكنه، كالعادة، يعرّج على السياسة والسياسيين عرباً وأجانب.
هنا حلقة ثانية اخيرة.
أثار انتباهي أن ليلى أحمد، المصرية التي كانت صديقة حميمة لأختي في القاهرة وتعلمنا سوية في المدارس الانكليزية نفسها، وتنحدر من عائلة مثقفة عربية اللغة، وحصلت على الدكتوراه في الأدب الانكليزي من كمبردج وألّفت قبل نحو عقدين كتاباً مثيراً للاهتمام عن الجنسانية في الاسلام، عادت الى البروز أخيراً كناشطة ضد الفصحى، اضافة الى كونها، وهو الأغرب، استاذة في الدين في الاسلام بالذات. وفي مذكراتها "عبر الحدود: من القاهرة الى أميركا، رحلة امرأة" 1999 قدمت دفاعاً "مجيداً" عن العامية المصرية معترفة في الوقت نفسه بجهلها بالفصحى. ولا يبدو أن هذا عرقل تدريسها الاسلام في جامعة هارفرد، على رغم من ان الكل يعرف ان العربية، اذا اخذنا القضية على مستوى معين من العمق، هي الاسلام والاسلام هو العربية. وبسبب افتقارها التام الى التعايش مع اللغة على الصعيد اليومي لا يبدو انها تدرك ان العرب المتعلمين في الحقيقة يستعملون العامية والفصحى سوية، وان ذلك لا يمنع طبيعية التعبير وجماله من جهة ولا يشجع تلقائياً على التكلف والجفاف من الثانية. فاللغتان منفتحتان على بعضهما بعضاً، ويمكن مستعملهما الانسياب بيسر من الواحدة الى الأخرى، وان ذلك إحدى السمات الجوهرية لحياة العرب اللغوية. ولا يسعك لدى قراءة تهجمات ليلى أحمد المثيرة للشفقة إلا التأسف على انها لم تهتم بتعلم لغتها، وهو أمر كان سهلاً عليها لو توافرت لها الرغبة وانفتاح الذهن.
لقد قضيت أول 15 سنة من حياتي في بلاد عربية، على رغم انني تعلمت هناك في مدارس كولونيالية انكليزية تديرها هذه البعثة التبشيرية أو تلك، أو المجلس الثقافي البريطاني. وبالطبع كان فيها تعليم الفصحى، لكن في شكل يشابه تعليم اللاتينية في الغرب، أي كلغة ميتة مستعصية من هنا رؤية ليلى أحمد لها. وفي حالتي فقد كانت العربية والانكليزية سوية، وبالمعنى الحرفي "لغة الأم"، واستطعت دوماً الانتقال من الواحدة الى الأخرى. لكن برامج التعليم جعلت الانكليزية تتفوق على الفصحى، وبقيت هذه الأخيرة طوال سنيّ المبكرة رمزاً لكل القيود التي تفرضها العائلة والمدرسة، أشعر بالضيق منها كلما جلست في الكنيسة مستمعاً لمواعظ لا تنتهي، أو في الاجتماعات في المدرسة وغيرها وما فيها من الخطب العصماء في امتداح حسنات هذا الملك أو ذاك الوزير، وكان دفاعي الوحيد ضدها اللجوء حيث كنت ألجأ الى السهو والتغافل. وحفظت عن ظهر قلب مقاطع من "كتاب الصلوات" وغيره من المواد الدينية، اضافة الى بعض القصائد العربية، الوطنية عادة، التي لم أجد فيها وقتها سوى التحذلق والعاطفية المبالغة. لكن، لم ادرك إلا بعد سنين كيف ان أسلوب التلقين، ورجال الدين القساة والعديمي الموهبة، وموقف "تعلم هذا لأنه في مصلحتك" ومقاومتي المستمرة له، تضافرت كلها لتضعف من ذلك المشروع التعليمي بأكلمه.
قواعد العربية على درجة من الرقي وجاذبية المنطق تجعل من الأفضل، كما اعتقد، تعليمها للطلبة الأكبر سناً، القادرين عقلانية ترتيبها. وربما كان المكان الأفضل لتعليم العربية لغير العرب هو معاهد اللغة في مصر وتونس وسورية ولبنان وفيرمونت. لكن الذي لم استطع اتقانه أبداً كان ما أشرت اليه سابقاً: القدرة على التنقل بين الفصحى برسميتها وبلاغياتها والعامية بانسيابها وحميميتها. وبلغ من رفضي السلطوية القامعة لشخصيتي كطفل ومراهق ان ثورتي اتخذت شكل الاصرار على لغة الشارع وعدم استعمال الفصحى الا للاستهزاء والتقليد الساخر للبلاغيات المملة والتهجم على الكنيسة والدولة والمدرسة.
لكن بعد استقراري في الولايات المتحدة منذ 1951 مع زيارات كثيرة الى الأهل في مصر ولبنان، واذ لم أدرس خلال السنين ال16 التي قضيتها في المدرسة ثم الجامعة غير اللغات والآداب الأوروبية، جاءت حرب 1967 لتدفعني، مكرهاً، الى السياسة، ولو على البعد. وكان أول ما لاحظته وقتها ان لغة السياسة كانت الفصحى وليست العامية. وعاد الى ذهني عندها موقفي من الفصحى أثناء الطفولة، وشعرت بسرعة أن التحليلات السياسية المقدمة بالفصحى في الاجتماعات العامة تبدو أعمق مما هي عليه فعلاً، أو أن الكثير مما يقال في تلك المحاولات الجاهدة لتقليد الفصحى قامت على نماذج للفصاحة تم تلقينها لتقليد الجدية في الطرح وليس الجدية بذاتها. وأزعجني ان اكتشف ان هذا ينطبق في شكل خاص على الرطانات الماركسية والتحررية السائدة وقتها، حيت تم تعريب توصيفات الطبقة والمصالح المادية والصراع الاجتماعي - وما يرافقها من الكلام على التناقضات والنقائض، و"معذبو الأرض" التعبير الذي خلفه لنا فانون - لتكون مادة لمونولوغات لا تخاطب الشعب بل الناشطين المثقفين الآخرين.
في المقابل استعمل بعض القادة مثل عبدالناصر وياسر عرفات - وقد عرفت بعضاً منهم - اللغة المحكية في جلساتهم الخاصة، ووجدت وقتها انهم كانوا أبلغ من الماركسيين الذين كانوا عادة أثقف من القائدين المصري والفلسطيني. وكان عبدالناصر يخاطب جماهيره بالعامية المصرية المطعّمة بتعابير مدوية من الفصحى. ولما كانت الفصاحة بالعربية تعتمد الى حد كبير على درامية الاداء، فقد كان عرفات يبدو عادة في خطاباته العامة القليلة خطيباً أقل من المعدل، بسبب اخطائه في التلفظ وتردده وإطالاته المزعجة، حيث يبدو للأذن المثقفة وكأنه فيل يتخبط في حقل للزهور.
بعد بضع سنوات وجدت ان لا خيار أمامي سوى استعادة تعلم قواعد العربية وفيلولوجياتها. ولحسن حظي كان معلّمي هذه المرة استاذ اللغات السامية المتقاعد أنيس فريحة، من الجامعة الأميركية في بيروت، وكان صديقاً لوالدي. وكان مثلي من المبكرين بالنهوض، وقضينا الساعات الثلاث يومياً بين السابعة والعاشرة صباحاً في دراسة اللغة، وذلك من دون كتاب مقرر، لكن بتناول مئات المقاطع من القرآن والمؤلفين الكلاسيكيين مثل الغزالي وابن خلدون والمسعودي، والحديثين من أحمد شوقي الى نجيب محفوظ. وكان استاذاً رائعاً، كشفت لي دروسه عن آليات اللغة في شكل يناسب اهتماماتي المهنية وتدريبي الفيلولوجي في مجال الأدب الغربي المقارن، حيث كنت في ذلك الوقت تقريباً اقدِّم ندوات دراسية عن نظريات اللغة سميت الموضوع أدبيات اللغة لمؤلفين من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثل فيكو وروسو وهردر ووردزورث وكوليردج وهمبولت ورينان ونيتشه وفرويد ودو ساسور. وتعرفت بفضل فريحة وأدخلت لاحقاً في برامجي التدريسية وكتاباتي إلى اللغويين ومنظري اللغة العرب، من ضمنهم الخليل بن أحمد وسيبويه وابن حزم، الذين سبقت أعمالهم اولئك المفكرين الغربيين بنحو سبعة قرون.
وكانت ظاهرة التنقل بين الفصحى والعامية، كما شرحها لي فريحة، تجربة رائعة بالنسبة إلي، خصوصاً عندما قارنتها بالعلاقة من حيث القواعد والمفردات بين الانكليزية والفرنسية.
وفي المقام الاول، بما ان العربية لغة يجرى تصريفها بدقة، يمكن المرء ان يتعلم الاشتقاقات الاساسية التسعة الاكثر استعمالاً للفعل - لبّ اللغة - من جذر يتألف من ثلاثة أحرف ساكنة، ما يوفر على صعيد بناء الجملة تلك الاشكال الشائعة الاستعمال معظم الجمل العربية تبدأ بفعل التي يتعيّن على الكاتب - المتكلم ان يختار منها، ولو ان هذه العملية تصبح تلقائية بمرور الوقت. بعدئذ، ثانياً، تمثل مفردات العربية الجزء الأكثر ثراء من اللغة، اذ يمكن صوغ الكلمات على نحو منطقي مذهل من جذور، وجذور الجذور في شكل لا نهائي تقريباً، وبانتظام دقيق كما يبدو. وهناك بالطبع تباينات في التعبير نشأت بمرور الوقت، لكن الالفاظ المهجورة والعامية الحديثة في الخطاب بالفصحى لا تثير المشاكل ذاتها كما تفعل، على سبيل المثال، في الانكليزية او الفرنسية الحديثة.
وتوجد العربية الفصحى، وقواعدها وتصريفاتها وأشكال إعرابها وثراؤها الجميل، بتزامن دائم نوعاً ما من الوجود يختلف تماماً عن اي حالة لغوية اخرى اعرفها، على رغم انه عندما تأخذ المحادثات المحكية منحى جدياً او معقداً، فإن المرء يلجأ عندئذ اليها كفاصل وجيز جداً او متقطع: الحاجة الى كلام شخصي غير ذي شأن مثل "ناولني السكر" او "حان الوقت لأن اغادر" تعيد المرء الى اللغة المحكية. لكن في بعض الاحيان، عندما يجرى التكلم بطريقة خطابية في تجمع عام قد يكون اجتماع عمل او ندوة او لجنة اكاديمية او محاضرة، يتحول المتكلمون الى حاملي هذه اللغة الاخرى، التي يمكن فيها حتى لتعابير مثل "يسعدني ان اكون هنا اليوم" او "لا اريد ان آخذ الكثير من وقتك" ان تحوّل الى صياغات بالفصحى تؤدي وظيفتها كجزء عضوي من ذات الخطاب كله. وهنا ينبغي ان اشير الى ان قناة "الجزيرة"، التي يعاب عليها كثيراً في وسائل الاعلام الاميركية من اشباه خبراء والتي استطيع ان اشاهدها بسهولة عبر جهاز استقبال البث الفضائي، لا تنقل طيفاً من الآراء السياسية اوسع بكثير مما يتوافر في وسائل الاعلام الاميركية الرئيسة فحسب، بل انه بسبب استخدام اللغة الفصحى لا يوجد أثر لكلام الاشقياء السوقي الذي يشوه برامج المقابلات والحوارات التي تعرض هنا، حتى عندما تتضمن المناقشات خلافات حادة في شأن قضايا كبرى في السياسة والدين.
واثار انتباهي دوماً الوقع الذي يحدثه سماع كلمة شائعة ذات معان متضاربة تماماً في اللغتين. لنأخذ الاسم "سامي"، على سبيل المثال. في اللغة الانكليزية، يتبادر الى الذهن فوراً سام ويلر، او سامي غليك، وهو ممثل كوميدي، او على الاقل لقب غير جميل او صيغة شائعة مختصرة لاسم اكثر مهابة مثل "صموئيل" بما يوحي من دلالة دينية لا تناسب عصرنا. وفي العربية، يعد "سامي" ايضاً اسماً شائعاً لرجل المؤنث هو "سامية"، وهي ايضاً الكلمة المستخدمة ل"الساميّة"، لكنه مشتق من كلمة "السماء"، وبالتالي يعني "عال" او "سماوي"، وهو ابعد ما يمكن تصوره عن اسم "سام" او "سامي" بالانكليزية. انهما موجودان معاً لدى المستمع الذي يتقن اللغتين، محيّرين، وغير متوائمين اطلاقاً.
وبخلاف الانكليزية، تزخر العربية سواء الفصحى او اللهجات المحلية بصياغات مهذبة تتضمن ما يعرف ب"أدب اللغة"، او السلوك السليم في اللغة. فالشخص الذي لا يعد صديقاً قريباً يخاطب دائماً بصيغة الجمع، وتوجه اسئلة مثل "ما اسمك؟" دائماً في شكل غير مباشر ومقترنة بعبارات تبجيل. وعلى غرار اللغة اليابانية، وبدرجة اقل الفرنسية والالمانية والايطالية والاسبانية، يلجأ الناطقون بالعربية الى شتى انواع التمايزات في النبرة والمفردات في ما يتعلق بطريقة التخاطب في اوضاع محددة وفي شأن مواضيع خاصة. ويشار الى القرآن دائماً باعتباره "القرآن الكريم"، وبعد تلفظ اسم النبي محمد يتوجّب القول "صلى الله عليه وسلّم". وتستخدم صيغة اقصر قليلاً من التعبير ذاته للمسيح. وفي المحادثة العربية المعتادة، يتكرر اسم الله عشرات المرات بتعابير على مستوى مذهل من التنوع تعيد الى الذاكرة كلمة deo volente باللاتينية او ojala بالاسبانية او in God's name بالانكليزية، لكنه يتكرر مرات اكثر بكثير. وعندما يُسأل احدهم كيف حاله، يأتي الرد المباشر دائماً "الحمد لله"، على سبيل المثال، وما يمكن ان يعقب ذلك هو سلسلة كاملة من الاسئلة التي تتردد فيها ايضاً كلمة الله، وهي تتناول افراد العائلة الذين لا يشار الى أي منهم عادةً بالاسم بل بالمكانة التي يحظى بها من حب وتقدير لا يشار الى الابن باسمه بل بتعبير "المحروس". وتميز احد اعمامي، عندما كان يعمل مديراً في مصرف، بموهبة حقيقية تمكّنه من الاسترسال بحديث فضفاض مهذب لمدة خمس عشرة دقيقة من التعابير الكيّسة، وهو أمر لا يمكن تخيّله في الانكليزية، لكن يجرى تعلمه في عمر مبكر ويخصص للاستعمال في حالات يكون فيها ما يقال اكثر اهمية من موضوع الحديث. وهو ما وجدته دوماً مسلياً على نحو رائع، خصوصاً انني اجد القيام بذلك شيئاً بالغ الصعوبة، الاّ للحظة او لحظتين.
ومن اقدم ما تحتفظ به ذاكرتي عما يتوقع من الخطيب بالعربية الفصحى في مناسبة رسمية ما روته لي قبل سنين كثيرة والدتي وعمتها، وهي مدرسة للغة العربية، بعد الاستماع الى خطاب اكاديمي في القاهرة ألقته شخصية مصرية معروفة، قد تكون طه حسين او احمد لطفي السيد. ربما كانت المناسبة سياسية او تذكارية، فقد نسيت ايهما تكون، لكنني اتذكرهما تقولان ان بعض شيوخ الأزهر كانوا ضمن الحضور. ولاحظت والدتي انه بين فترة واخرى كان الخطاب الرزين والمحكم يتعرض الى مقاطعة، اذ يقف احد الشيوخ ويقول "اللهم"، ثم يجلس فوراً، وقيل لي ان هذا التعبير الذي يحتوي على كلمة واحدة كان لاظهار الاستحسان او الاستهجان لحسن التعبير او لخطأ في النطق. وتبيّن هذه الرواية بالذات الاهمية الكبيرة التي تولى للفصاحة او، بالعكس، للاخفاق فيها. ومن المفيد ان ندرك ان جامعة الازهر ليست اقدم مؤسسة للتعليم العالي في العالم فحسب، بل انها تعتبر مركز المذهب السنّي في الاسلام، ويمثل عميدها بالنسبة الى مصر السنية ارفع مرجع ديني في البلاد. والاهم من ذلك ان الازهر يدرّس في شكل اساس، لكن ليس حصرياً، المعرفة الاسلامية، وفي لبّها القرآن، وكل ما يتصل به من طرق التفسير والتشريع والحديث واللغة وعلم النحو والصرف. لذا من الواضح ان اتقان العربية الفصحى يكمن في صميم تدريس الاسلام للعرب وغيرهم من المسلمين في الازهر لأن لغة القرآن - التي تعتبر انها كلام الله الأزلي "المنزل" عبر الوحي الى النبي محمد - مقدسة، وتتضمن قواعد ونماذج صرفية تعد ملزمة لمن يستخدمها، ولو انهم بموجب "الاعجاز" لا يمكن ان يلجأوا الى محاكاتها، او ان يجرى بأي شكل، كما في حالة "آيات شيطانية"، تحدي مصدرها الالهي كلياً.
قبل ستين عاماً، كان يُنصت الى الخطباء ويُعلّق عليهم من دون انقطاع تبعاً لصواب لغتهم ولباقتها بدرجة لا تقل عن تقويم مضمون كلامهم. ولم اشهد شخصياً حادثة مثل تلك التي رويت لي، ولو انني اتذكر بشيء من الخجل انه عندما ألقيت اول كلمة لي بالعربية في القاهرة ايضاً قبل عقدين، وبعد سنين من التكلم في اجتماعات عامة بالانكليزية والفرنسية ولكن ليس بلغتي الاصلية ابداً، اقترب مني شاب من اقربائي بعد انتهاء الكلمة ليبلغني مدى خيبته لأنني لم اكن اكثر فصاحة. قلت له مكتئباً: "لكنك فهمت ما قلته"، لأن همي الاساس كان ان تفهم بعض النقاط السياسية والفلسفية الحساسة. اجاب: "آه، نعم، بالطبع، لا توجد اي مشكلة. لكنك لم تكن فصيحاً او بلاغياً بما فيه الكفاية". ولا تزال هذه الشكوى تلازمني عندما اتكلم لانني لا استطيع ان احوّل نفسي الى متكلم بالعربية الفصحى او خطيب مفوّه. فأنا امزج العبارات العامية والفصحى في شكل براغماتي، مع نتائج كما اُبلغت ذات مرة بلطف تشبه حال شخص يملك رولزرويس لكنه يفضّل استخدام سيارة فولكسفاغن. وما زلت احاول ان احل هذه المشكلة لانني، كشخص يعمل بلغات عدة، لا اريد ان اتّهم بأنني اقول شيئاً بالانكليزية لا اقوله بالطريقة ذاتها بالضبط بالعربية.
ولا بد من ان اقول انه على رغم تذرعي بأن طريقتي في الكلام تتجنب الدوران حول المعنى والحذلقة المزخرفة تتضمن في الغالب مرادفات لا تنتهي، واستخدام اما "و" كوسيلة لتطوير افكار من دون اكتراث لمنطق، او استخدام مجموعة صياغات مستظهرة من غير فهم لكلام فضفاض وتعابير ملطّفة من النوع الذي يهزأ به اورويل في "السياسة واللغة الانكليزية"، لكن يمكن العثور عليه في كل لغة وهي ملازمة لتدهور الكتابة السياسية والصحافية والنقدية المعاصرة باللغة العربية، فإن ذلك ايضاً هو عذر استخدمه لاخفاء احساسي بأنني ما زلت اتسكع على حواشي اللغة بدلاً من الوقوف بثقة في قلبها. ولم اكتشف الاّ في السنوات العشر او الخمس عشرة الاخيرة ان اروع وأرشق وأصلب نثر عربي قرأته او سمعته هو ما انتجه روائيون وليس نقاداً مثل الياس خوري او جمال الغيطاني، او اثنان من اعظم شعرائنا الأحياء، ادونيس ومحمود درويش، وكلاهما يسمو في قصائده الغنائية الى ذرى شامخة من العاطفة لدرجة تدفع جمهوراً غفيراً الى نوبات نشوة مفعمة بالحماسة، لكن النثر بالنسبة الى كليهما اداة ارسطوية يشبه في اناقته نثر ايمبسون او نيومان. لكن معرفتهما باللغة تمتاز ببراعة فائقة وبكونها طبيعية لدرجة انهما يستطيعان ان يتكلما بفصاحة ووضوح في آن بفضل موهبتهما التي لا تحتاج الى حشو او اطناب مضجر او تباه لذاته، بينما ما زال يتعين على شخص مثلي تعرف على عبقرية اللغة في وقت متأخر نسبياً - فأنا لم اتعلمها كجزء من تعليم اسلامي على وجه التحديد، او في نظام تدريس عربي وطني وليس استعماري - ان يفكر بتأن عند تركيب جملة بالفصحى في شكل صحيح وواضح، من دون ان يحقق دائماً نتائج جيدة، ان شئنا التعبير في شكل ملطّف.
ونظراً لأن العربية والانكليزية لغتان مختلفتان بالطريقة التي تعملان بها، وايضاً لأن هدف الفصاحة في احداهما ليس كما هو في الثانية، فإن اجادة التكلم بلغتين من النوع الذي غالباً ما احلم به، واجرأ احياناً على الاعتقاد بأنني اوشكت على تحقيقه، غير ممكن حقاً. ويوجد كم هائل من الكتابات التقنية عن ثنائية اللغة، لكن ما اطلعت عليه منها لا يمكن ان يعالج مسألة ان يعيش المرء فعلاً لغتين من عالمين مختلفين وفصيلتين لغويتين مختلفتين، وليس ان يعرفهما فحسب. وهذا لا يعني القول إن المرء لا يمكن ان يكون في شكل ما لامعاً، كما كان كونراد البولندي الاصل باللغة الانكليزية، لكن الغرابة تبقى موجودة الى الأبد. إضافة الى ذلك، ماذا يعني ان تتقن التكلم بلغتين على نحو متكافئ كلياً؟ هل بحث احد الاشكال التي تخلق بها كل لغة حواجز بوجه غيرها من اللغات؟ هكذا، غالباً ما اجد نفسي ألحظ جوانب من التجربة وأجمع ادلة من حولي تؤكد مجدداً العيب المحيّر بالنسبة الي والحالة الدينامية لكلا اللغتين، اي التباين التام بينهما، وهو اكثر اشباعاً بكثير من انجاز جامد وكامل، لكنه نظري فحسب على نحو ما يحققه كما يبدو المترجمون المحترفون، لكنهم باعتقادي لا يفعلون ذلك لانهم، بحسب تعريف مهمتهم بالذات، غير قادرين على الفصاحة. وبعدما تركت ورائي اماكن دمرتها الحرب او انها لاسباب اخرى لم تعد موجودة، ولم يعد لدي ما يذكر من ممتلكات واشياء من المرحلة المبكرة في حياتي، يبدو انني جعلت من هاتين اللغتين في حركتهما، كتجارب، بيئة يمكن ان احملها داخلي، بكل ما تحتويه من جرس وطبقة صوتية ولهجة تلائم تماماً الزمان والمكان والشخص. اتذكر وما زلت انصت لما يقوله الناس، وكيف يقولونه، وأي كلمات تحمل التشديد وبأي طريقة على وجه التحديد. وهو ما يفسّر، باعتقادي، لماذا كانت الشخصيات الهزلية في اعمال هوبكينز وشكسبير، في الشعر الانكليزي، هي التي تركت وقعاً على اذنيّ يتعذر محوه بسهولة.
لذا عندما افكر بالسنوات المبكرة من حياتي تتجلى لي في شكل صور قوية التأثير تبدو الآن مفعمة بالحيوية مثلما كانت آنذاك، كما تتجلى في الوقت نفسه بحالات اللغة في العربية والانكليزية التي تبدأ دائماً في ألفة العائلة: انكليزية والدتي بلهجتها وموسيقاها الغريبتين، المكتسبتين في مدارس تبشيرية وبيئة فلسطينية متعلمة في البلاد، ولغتها العربية بقدرتها التعبيرية الرائعة، المتأرجحة في شكل ساحر بين لهجة موطنها الاصلي في الناصرة وبيروت ولهجة مكان اقامتها اللاحق لوقت طويل في القاهرة، ولهجة والدي الانكلو - اميركية الغرائبية، ومزيج لهجتي القدس والقاهرة الذي كان اضعف لديه بكثير، والاحساس الذي اعطاني اياه بالنصح وفي الوقت نفسه البحث دمن ون نتيجة في احيان كثيرة عن الكلمة الصحيحة بالانكليزية وايضاً بالعربية. ثم هناك في وقت لاحق العربية التي تتكلم بها زوجتي مريم، وهي لغة تعلمتها في شكل طبيعي في مدرسة حكومية من دون تأثير في البداية من الانكليزية والفرنسية، ولو انها تعلمت الاثنتين بعد ذلك بقليل.
ومن هنا السهولة التي تجدها في الانتقال بين الفصحى والعامية، وهو ما اعجز اطلاقاً عن القيام به مثلها او بالثقة التي تفعل بها ذلك. وهناك معرفة ابني المدهشة باللغة العربية التي اكتسبها بجهد مثابر وحده في الجامعة وبعدئذ عبر اقامته الطويلة في القاهرة وفلسطين والاردن وسورية ولبنان، مسجلاً اي مصطلح جديد يتعلمه، قانوني او قرآني او شعري او جدلي، حتى تحول الفتى الذي نشأ في مدينة نيويورك وأصبح محامياً لغته الاولى هي الانكليزية طبعاً، الى مستخدم ضليع ل"الشيء" الذي ينطق به جد والدته، اي اللغة العربية التي كان يدرّسها كأستاذ جامعة في بيروت قبل الحرب العالمية الاولى. وهناك ايضاً ابنتي بحدة السمع التي تملكها كممثلة بارعة وموهبتها الادبية المكبرة. فهي، على رغم انها لم تقتف أثر شقيقها الاكبر لتتقن المزايا الغريبة للغتنا الاصلية، تستطيع ان تحاكي الاصوات بالضبط. وقد طلب منها خصوصاً في الوقت الحاضر ان تؤدي ادواراً في افلام تجارية ومسلسلات تلفزيونية ومسرحيات، وهي ادوار تمثل المرأة الشرق الاوسطية، ما اثار تدريجاً لديها اهتماماً بتعلم اللغة المشتركة للعائلة للمرة الاولى في حياتها الفتية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.