عندما اختارت الولاياتالمتحدة ان تجعل من الديموقراطية الطعم الذي تغري به شعوب المنطقة ونخبها، عسى هذه الأخيرة ان تغض الطرف عن التدخل الاميركي المباشر في اعادة ترتيب الأوضاع الاقليمية والمحلية، كانت تدرك مدى احتياج العرب الشديد لإصلاح أوضاعهم السياسية. فعلى رغم ان فكرة الحريات العامة لم تحتل موقعاً بارزاً ومتقدماً في الفكر الاصلاحي العربي - كما كان الشأن لمبدأ تحديث الدولة - إلا في وقت متأخر من القرن الماضي، غير ان التجارب المرة للدولة الوطنية في معظم البلدان العربية، جعلت قطاعات عريضة من المواطنين العرب يتألمون كثيراً من حجم المظالم التي تعرضوا لها بسبب تضخم دور السلطة السياسية وهيمنتها المطلقة والعنيفة على المجتمع والثروة والوطن. من هذه الزاوية، وبعد الاحتلال الاميركي والبريطاني للعراق، واصرار واشنطن على الادعاء بأنها تنوي فعلاً مساعدة شعوب المنطقة على التحرر ووضع حد للكبت السياسي، يكون المطلب الديموقراطي على الصعيد العربي دخل مأزقاً جديداً غير مسبوق. فهو من جهة مطلب شرعي وشرط ضروري لتحقيق التنمية ودخول مرحلة الحداثة الفعلية، ومن جهة اخرى تعقدت الطرق المؤدية له ما جعل البعض يتصور بأن الاصلاح السياسي العميق تحول الى أشبه بالمشروع الطوباوي أو السراب الذي يظنه العطشان ماء. لا تتجدد يمكن القول أن التحول الديموقراطي الحقيقي لم يحصل في أي بلد عربي. لا يعني ذلك ان الأوضاع السياسية للبلدان العربية متشابهة. فهي تختلف من بلد الى آخر، من حيث مساحة الحريات الاساسية، ومرونة الأنظمة في التعامل مع معارضيها واستعدادها للسماح بإجراء انتخابات تعددية ونزيهة نسبياً. لكن المؤكد ان العالم العربي لم يشهد الى حد الآن حصول انتقال سلمي ديموقراطي للسلطة في أي قطر من أقطاره. ما حصل في كل البلاد العربية تقريباً أن أنظمة الحكم التي انتصبت بعد الاستقلال أو مع تشكل معالم الدولة المعاصرة، استمر معظمها الى حد الآن من دون تبدل جوهري في طبيعته وآلياته. والتغيير الذي طرأ على بعضها جاء نتيجة انقلاب عسكري، أو تكيفاً منها مع بعض المتغيرات والضغوط. واستند كل هذه الأنظمة على آليات متشابكة ايديولوجية وثقافية وقانونية وأمنية واقتصادية واجتماعية واخلاقية لمنع أي تهديد فعلي لوجودها. وكانت هذه الآليات فعالة اذ نجحت في تحجيم مختلف أشكال المعارضات، وحالت دون صعود حركات اجتماعية جديدة قادرة على تغيير موازين القوى. ولهذا بقيت الاحزاب السياسية التي نشأت وبقيت خارج دائرة الحكم عاجزة عن تعديل موازين القوى لمصلحتها. واستمرت أمام خيارات محدودة: إما قبول التعاون مع الأنظمة والتسليم بشروطها ما يحولها الى أحزاب ديكورية الهدف منها هو المساعدة على تحقيق استمرارية الأوضاع السياسية، أو الدخول في مواجهات سلمية أو عنيفة. وهي مواجهات تنتهي دائماً، بحكم اختلال موازين القوى، الى فقدان الكوادر والمناضلين، واشاعة الإحباط والتورط في متاهات السرية والهجرة والمغامرات المسدودة. الاستعانة بالخارج ولعبة المصالح هذه السيناريوات التي تتكرر منذ خمسين عاماً، لا تعني ان الأوضاع السياسية العربية راكدة. هناك عديد الدول يشهد منذ فترة حركية لافتة للنظر، حيث توجد بها حرية صحافة مقيدة، وتجري فيها انتخابات مشروطة ومواجهة، وتعرف نشاطاً جمعوياً مكبلاً بقوانين وضغوط عدة. المشكلة ان هذه التجارب على أهميتها لم تحقق الى الآن التراكم النوعي الذي يقيها من الانتكاس، ويمكنها في النهاية من فرض نمط ديموقراطي للحكم وثقافة سياسية تحررية. فالأنظمة لا تزال قادرة في كل هذه الدول على التحكم في نمو هذه التنظيمات، واضعافها عند الحاجة، والقضاء عليها عندما تقتضي الضرورة، أو احتوائها عن طريق ادماج بعضها في الدورة السياسية بهدف الاستفادة من خبراتها ومصداقيتها. ولهذه الأسباب تشعر المعارضات العربية بأنها تدور في حلقة مفرغة، مما جعلها تبحث عمن يساعدها على تحقيق الديموقراطية المنشودة. وفي هذا السياق لجأ الكثير منها منذ السبعينات الى البحث عن أصدقاء في أوروبا واميركا، عساهم يساعدون من خلال ممارسة الضغط السياسي والاعلامي على الأنظمة القمعية. وهو ما تم فعلاً، لكن عندما انتقل بعض هؤلاء الأصدقاء الى دفة الحكم في بلدانه، لم يتخلوا نهائياً عن حلفائه الذين لجأ اليهم، لكنه اعطى الأولوية في الغلب لمصالح دوله الباحثة عن الأسواق والاستقرار. وهي لغة أدركتها جيداً الأنظمة العربية التي لم تتردد من جهتها في مقايضة الدول الغربية، بأن تعرض عليها مختلف الخدمات والتنازلات ذات الطابع الاقتصادي والمالي، مقابل امتصاص ضغوطها وكسبها لمصلحتها في معركتها من أجل البقاء والاستمرار. وهكذا بينت التجارب ان الاستعانة بالقوى السياسية الغربية لاضعاف الأنظمة المستبدة في الداخل، ورقة غير مضمونة النتائج. فهذه القوى قد تمارس بعض الضغط وتسهم في تعرية جوانب من الأوضاع الداخلية، لكنها غالباً ما تصطدم بضعف قوى المعارضة، ومن جهة اخرى تبقى غير مستعدة لتضحي بمصالح دولها الحيوية مقابل الدفاع عن حق هذا الحليف أو ذاك في الوجود. بين الطاعون والكوليرا اتجهت الحالة العراقية نحو الأقصى، فالإدارة الاميركية لم تكتف بتأييد المعارضين العراقيين الذين لجأوا اليها، ولم تقف عند حد الضغط السياسي ثم الاقتصادي على نظام بغداد، بل قررت استئصاله عن طريق شن حرب مدمرة على العراق. لكن ما ترتب عن ذلك من نتائج وأوضاع أحدث حالة رعب في أوساط المعارضين العرب الذين وجدوا أنفسهم أمام ثنائية رهيبة: "الديموقراطية" مقابل فقدان السيادة. فعلى رغم حالة القمع والتهميش التي يعانون منها في بلدانهم، يشعر معظم المعارضين العرب بأنهم غير مستعدين ان يكرروا تجربة العراق، فيضعون أيديهم في أيدي الاميركان أو غيرهم ليستبدلوا الديكتاتورية بوصاية مباشرة على أوطانهم وثروات شعوبهم. لقد أعلن الكثير منهم رفضهم لهذا الاختيار الانتحاري، على رغم ادراكهم بأن هذا يصب في وجه من وجوهه لمصلحة الأنظمة القائمة. هذه الأنظمة التي تحاول ان تستفيد مما حدث في العراق لدعم استمراريتها. بعضها شرع فعلاً في القيام بإجراءات سياسية محدودة تعبيراً عن حسن النية. وبعضها الآخر لا يزال يلوح بورقة مقاومة الارهاب، والتفجيرات التي حدثت في السعودية من شأنها ان تعطي المبرر للكثير من الحكام لتشديد القبضة على الأوضاع الداخلية، ولن يلقوا من الاميركان والغربيين سوى الدعم والتأييد. بل ان ما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين من صعود للحركة الاسلامية الشيعية وتفاقم مشاعر الرفض للولايات المتحدة، ستدفع الاميركيين الى التفكير جيداً في مسألة دمقرطة العالم العربي، ان كانوا حقاً قد فكروا فيها بجدية. العراقيون وحظوظ البناء الديموقراطي هكذا يجد الديموقراطيون العرب أنفسهم في مأزق تاريخي، فهم من جهة عاجزون الى الآن عن تغيير موازين القوى داخل بلدانهم اعتماداً على امكاناتهم الذاتية، على رغم التضحيات الجسيمة التي قدمها الكثير منهم. كما ان التيارات الرئيسية في صفوف المعار ضات العربية لم تتشرب بعمق الفكر الديموقراطي ومتطلباته الثقافية والاخلاقية الى جانب الآليات القانونية والهيكلية، وهو ما يجعل بعض المراقبين يشككون احياناً في ديموقراطية الأحزاب والجماعات المطالبة بالديموقراطية، ويتهمونها بالانتهازية والذرائعية والبحث التكتيكي عن هامش من الحريات لتتمكن من البقاء والنمو. كما ان هؤلاء الديموقراطيين فشلوا أيضاً في خلق التوازن بين العاملين الخارجي والداخلي، ولم يستفيدوا كثيراً من الضغوط الدولية لتحقيق حضور فعلي على الأصعدة الوطنية. وها هم يرفضون المشروع الاميركي الذي اعتبره البعض "فرصة تاريخية"، لكنهم في المقابل لا يملكون بديلاً سوى الاستمرار في التحرك ضمن الهوامش الصغيرة التي قد تتسع قليلاً هنا أو هناك. أي الاستمرار في التعايش أو التكيف مع أنظمتهم التي سئموا منها وسئمت منهم. في ظل هذا التوجس من المستقبل والحيرة، يجب رصد ما يجري داخل العراق، ومتابعة هذا المخاض الصعب الذي يمر به مجتمع كان محجوباً بالقوة عن الأنظار. وخلافاً لما قد يذهب اليه البعض، قد يكون العراقيون الطرف الوحيد في الساحة العربية الذي هو بصدد بناء الأرضية الفعلية لإقامة نظام ديموقراطي. فالعراق حالياً يعج بالتنظيمات ومحاولات التشكل في أحزاب وجمعيات ولجان، والعمل على بناء تحالفات متعددة استعداداً لأي انتخابات محتملة. واذا نجح العراقيون في التغلب على نزعاتهم الطائفية، وتجاوزوا حساباتهم الصغيرة، وسيطروا على الأوضاع الأمنية، وعادت الخدمات الاساسية للأهالي، وحصنوا جبهتهم الداخلية من الاختراقات الاجنبية والفتن، فإن الاميركان سيضطرون للمغادرة مع شروط ستقبلها القوى السياسية مرحلياً على مضض. وبالتالي فإن العراقيين ربما ينجحون في تشكيل تجربة ديموقراطية، متعثرة في البداية لكنها قد تكون واعدة على المديين القريب والمتوسط. * كاتب وصحافي من تونس. فرق شاسع بين أن تكون الهجمات الانتحارية في الدار البيضاء من صنع محلي أو من تدبير خارجي. وعلى رغم الطابع الكوني للظاهرة الإرهابية، فإن ذلك الفرق يحيل على تساؤلات عدة، أقربها أن تورط رعايا مغاربة في التخطيط والتنفيذ يعني دخول البلاد منعطف العنف الذي تترتب عليه تداعيات تطاول غياب الاستقرار، بينما الحال في البعد الخارجي أن فيروس الإرهاب المعدي يتجاوز الحدود، ولا أحد يستطيع القول إنه بمعزل عن الهجمات. لكن وصفات العلاج إذ تبدو في الحال الثانية مرتبطة بالمقاربات الأمنية والتعاون الدولي والانخراط الكامل في الحرب الدائرة ضد الإرهاب من منطلق إنساني ومغاربي، فإنها في الحال الأولى ذات علاقة بترتيب البيت الداخلي وفق منهجية ديموقراطية، وإن كان الأرجح أن الديموقراطية لا تنمو في غياب الأمن ورفض التعايش وإلغاء الآخر من منطلق ديني أو سياسي. لكن اختيار الدار البيضاء في هجمات المغرب له أكثر من دلالة سياسية واقتصادية ونفسية، عدا أن تنفيذ الهجمات بواسطة انتحاريين مغاربة يحمل على الاعتقاد بأهمية وطول الفترة التي يحتاجها صنع انتحاري يجازف بحياته من دون أن تكون له قضية محورية مثل احتلال الأرض واغتصاب الحقوق. يتعلق الأمر إذاً بطبعة جديدة لتجارب الألوية الحمراء، حين كانت تضرب مراكز القرار الاقتصادي والمالي، على اعتبار أن الدار البيضاء هي القلب النابض للحركة التجارية في المغرب. لكنها من حيث تركيبتها الطبقية تكثف عن هول التناقض بين من يملك العمارات والأرصدة والاستثمارات ومن يملك فقره فقط. وقد كانت صورة الأحياء الشعبية الواطئة التي تؤوي الانتحاريين صادمة في بؤسها وفقرها ومظاهر تهميشها. وبالتالي يكون الاعتقاد في الرد العنيف الآتي على خلفية الفقر وشظف العيش مدخلاً لتقصي الأسباب قبل رصد النتائج. وحتى في حال البعد الخارجي للظاهرة الإرهابية الكونية، فإن العوامل النفسية والاجتماعية لها أهميتها في صنع الشخص الانتحاري. إلا أن مستويات التعليم والتجربة في قضية المتورطين في هجمات الدار البيضاء تبدو أقرب إلى اليأس الانتحاري منها إلى الرد الصادر عن قناعة. وليس في الإمكان عزل تأثير الصورة عن مفهوم الانتحار، كما نتوق إعلامياً ودولياً. قد يكون المغاربة استطاعوا استيعاب صدمة الهجمات الأخيرة بأقل قدر من الخسارة. لكن تشنجاً في الأفكار وردود الفعل بدأ في التبلور على خلفية تبادل الاتهامات بين إسلاميين وعلمانيين حول المسؤولية. ولن يكون في مصلحة ديموقراطية فتية أن تنزلق إلى مخاطر صراع كهذا. فقبل أقل من ثلاث سنوات توزع المجتمع المغربي إلى فريقين في التعاطي وقضية المرأة. عندما كانت حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالرحمن اليوسفي في صدد إقرار خطة المرأة في التنمية، وتصارع الفريقان في تظاهرات حاشدة في الرباطوالدار البيضاء قبل أن تلجأ السلطات إلى معاودة النظر في تلك الخطة حفاظاً على تماسك المجتمع.