العيش بسلام كان يشكل مشكلة كبيرة بالنسبة إليه، لأن الرجل كما يبدو اعتاد على الحياة هناك، في ساحات المعارك، وبين صفوف المقاتلين. ومن يشك في ذلك، عليه أن يقرأ الجملة التالية التي قالها كاتب التحقيقات، الأميركي أرنست همنغواي، معبراً عن شكواه أمام أحد الجنرالات الأكبر منه سناً، والذي لم يخف عنه ما يفكر به في هذا الصدد: "منذ أكثر من أربع سنوات وأنا لم أقتل ولو أي ابن كلب ما". تلك الجملة قالها صاحب "وداعاً أيها السلاح"، بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت معاناته بالعجز الجنسي لم تعد خافية على أحد، وحيث بدأ بصره يسوء أكثر، لدرجة أنه لم يعد قادراً على الاستغناء عن لبس النظارات المقعرة دائماً" كانت تلك أيضاً أيام عجزه عن الكتابة والتي صاحبه فيها شعور لا يوصف بالقرف والغثيان، وبالاكتئاب في شكل عام، ربما ذلك السبب الذي دفعه للإدمان في صورة كبيرة. قبل سنوات أربع من ذلك، كانت الحرب، وكانت فرنسا وألمانيا تحررتا من هتلر وحزبه القومي الاشتراكي، أو على الأقل تحررت من قبضة النازيين حانة فندق "ريتز"، حيث واظب همنغواي مع زملائه من جماعة الجيل المفقود من الكتّاب الأميركيين على الجلوس هناك. إذاً لم يعد كاتب التحقيقات ليستطيع العيش من دون حرب. كان يرسل التحقيقات الحربية من الجبهة إلى أميركا، تلك التحقيقات الصحافية التي يصف فيها القتال بين رجل وآخر، بين شعب وآخر، "بين جنود قوات التحالف ضد أولاد الكلب العنصريين"، "بين المحررين والمجرمين". في ذلك الوقت كان كاتب التحقيقات، أرنست همنغواي تحول إلى نجم كبير. لم يعد ذلك الكاتب الشاب المبتدئ الذي بدأ مسيرته الأدبية أولاً في الحرب العالمية الأولى. وإذا كان همنغواي أُصيب في تلك الحرب بتلك الجروح التي سببت له لاحقاً عجزاً جنسياً، فإنه قبل كل شيء عثر في تلك الحرب على أسلوبه الأدبي الخاص به. كان يكتب تحقيقاته على شكل برقيات عاجلة من الجبهة الى الصحف في بلاده. لاحقاً تحولت تلك البرقيات السريعة إلى تحقيقات من أوروبا، كان يرسلها في شكل دائم، إلى أميركا: ريبورتاجات عن رحلات في السفن، وصيد الأسماك، عن الحب الخائب ومصارعة الثيران، أيضاً تحقيقات مختصرة ومتحمسة ومتماسكة تشبه تحقيقاته الحربية التي كان يرسلها من طريق التلغراف البرقي. لم يكن همنغواي سعيداً في حياته، مثلما كان عليه في صيف 1944 في فرنسا. كان دائماً هناك بصفته كاتب تحقيقات نجماً. لم يحتج أبداً إلى ما يُطلق عليه اليوم "embeded journalism"، لأنه كان أكثر الصحافيين جرأة، وكان يفعل كل ما في وسعه لكي يكون بين المقاتلين "من أجل الحرية"، يغني أغنية الموت للرجال المحاربين الأشداء" وهو ذهب بطواعية مع قوات التحالف التي نزلت في مقاطعة نورماندي الفرنسية، للالتفاف على قوات "القائد" هتلر، وكان يكتب التقارير الصحافية لمجلة "كولير"، غير عابئ بالمخاطر التي يمكن أن تقود إليها عملية الإنزال. على رغم ذلك، وعندما لاحظ أن قوات التحالف بدأت تكتفي بالانتشار هناك، بعد أن أرسلت وحدة صغيرة، تستطلع لها الجبهة مباشرة، بمواجهة القوات النازية، لكي تستعد للزحف الكبير. لم يشأ همنغواي البقاء هناك بانتظار الهجوم الكبير، كلا، لم يكن مرتاحاً وكان لا يريد الاستراحة قبل القتال. وربما كان يمكن أي شخص آخر في محله، أن يظل مرتاحاً مع قوات التحالف ينشد معهم أناشيد النصر، لكن همنغواي كان يهدف أكثر من ذلك. ليس من الغريب إذاً، أن تدق ساعة الحقيقة بالنسبة إليه في "رامبوليه" عند العاصمة باريس، حيث خلع عنه الشارة التي تعلن أنه صحافي، وليزود نفسه بدل ذلك هوية عسكرية، ويسلِّح نفسه حتى الأسنان، بعد جمع مجموعة من مقاتلي حرب العصابات الفرنسيين حوله، لكي يقاتلوا ضد القوات الألمانية التي بدأت بالانسحاب من ساحة المعركة لذلك قُدم همنغواي للمحكمة، بسبب خرقه القوانين" تلك الجرأة حسده عليها زملاؤه. في تلك الأيام أيضاً كان همنغواي يشعر مرة أخرى بعدم الراحة، وبأنه لم يكن سعيداً. كان عليه أن يدخل في مفاوضات الانفصال عن زوجته الثالثة "مارتا غيلهورن"، وأن يبدأ بالعيش مع زوجته الجديدة، الرابعة. كانت تلك الفترة بالذات التي بدأ يعاني فيها بصورة واضحة العجز الجنسي، ومنذ أسابيع قليلة. جروحه المتتالية راحت تؤلمه في شكل إضافي. أما صديقه، الجنرال "لانهام"، فقد بعث له رسالة من غابة "هورتين" يهدده فيها، بأنه سيطرد الألمان خلف الخطوط الخلفية من دونه، من دون كاتب التحقيقات. همنغواي الذي كان يشرب حتى التخمة ويتمتع بصحبة الممثلة الألمانية المشهورة، "مارلين ديتريش" التي كانت تعيش آنذاك في المنفى، بعيداً عن إرهاب النازيين، والتي كانت تُلقب بالملاك الأزرق عنوان الفيلم المأخوذ عن رواية الكاتب الألماني "هاينريش مان"، لم يتردد لحظة واحدة في أن يترك ذلك الترف، ويلبي نداء صديقه الجنرال، فهو لم يملك هدفاً آخر في النهاية: الموت أو القتل على الأقل. لم يكن هناك أحد يشك بشجاعة صاحب "الشيخ والبحر". فعندما كانت تصرخ صفارات الإنذار، كان يظل على جلسته هادئاً، لا يهرب مثل بقية زملائه. وكان نموذجاً للرجل الجريء، وتركت شجاعته انطباعاً قوياً عند الجنود المتطوعين الذين كان يصاحبهم، وكانوا يعرفون أن عليهم الاهتمام بشخص انتحاري. هناك روايات كثيرة عن شجاعة همنغواي وصلابته، يُقال انه قتل بالفعل مجموعة من النازيين الألمان، حاصرهم في سرداب وفي يده قنابل يدوية. ولا يكتفي بوصف وجوههم عند قتله لهم، إنما يصف بالتفصيل في إحدى رسائله، عملية قتله أحد عناصر الحزب النازي وبصورة تثير القشعريرة: "أطلقت عليه النار بسرعة في البطن ثلاث مرات، وثم، عندما خرَّ صريعاً على ركبتيه، أطلقت عليه النار في جمجمته، لدرجة أن مخه خرج من فمه، أو ربما عبر الأنف". مرات متكررة تعرض للمخاطر أثناء العمليات الحربية، وجُرح فيها، إضافة إلى تعرضه لحوادث في السيارات، في حرائق الغابات، وأخيراً عند تحطم طائرته الخاصة. لكن وكما يبدو، أن الموت الذي كان همنغواي يبحث عنه وبمرارة في قمم الغابات والجبال، لم يأت إليه طواعية، إنما ظهر بدل ذلك أمامه ثلاثة أعداء، لم يشأ أن يخضع لسلطتهم: زوجته الرابعة، الشرطة الاتحادية، مكتب الضرائب. في ذلك الوقت أضاع همنغواي تماماً قدرته على الكتابة. هكذا لم يظل أمامه في اللحظة الأخيره غير مواجهة ضحيته الأخيرة، الموت، والذي أنهى هو، همنغواي عليه أخيراً، قبل أن يقضي هذا عليه، وهذا ما عبر عنه الكاتب الأميركي جون أبدايك باختصار، أقصد عن هذا المرض المزمن بالموت الذي صاحب أرنست همنغواي طوال حياته، أو طوال مسيرته الأدبية على الأقل، "عندما وضع أخمص بندقيته المتهرئة على الأرض، مسنداً جبهته على فوهتها، ثم ضغط على الزناد".