قد تقاتل الشعوب دفاعاً عن أرضها وتستميت الامم في مقاومة عدوها ولكن الانتصار في النهاية يكون بالضرورة للقوة العسكرية والاقتصادية، لذلك فإن ما شاهدناه في الحرب التي جرت على العراق اخيراً إنما هو تأكيد واضح لهذه الحقيقة، ولماذا نذهب بعيداً؟ إن المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية هي الاخرى تعبير ربما أشد وضوحاً من غيره في تأكيد حقيقة مؤداها انه ليس من المهم فقط ان يكون لديك الحق ولكن الاهم من ذلك كله ان تملك القوة القادرة على فرض ذلك الحق وتأكيده على الارض وليس مجرد الاشارة إليه في المحافل الدولية والتحدث عنه في المنتديات السياسية، ولعل العلاقة بين العالم الاول بتقدمه وازدهاره والعالم الثالث بفقره وهمومه هي تعبير عن انعدام التكافؤ في العلاقات بين القوى على المسرح السياسي المعاصر، لذلك فإننا نظن بحق أن غياب ذلك التكافؤ في القوة وانعدام التقارب في موازينها هو واحد من أهم الاسباب التي تقف وراء الظاهرة الإرهابية وتنذر بأخطر العواقب على مستقبل الإنسانية كلها، فالاحساس بالظلم وازدواج المعايير وتعدد قواعد الحكم على الحالة الواحدة ادت كلها إلى الوضع المعقد الذي نعيشه الآن، فالبعض لازال يقيس المواقف وينظر الى الامور بمعيار اخلاقي يقوم التقييم فيه على اساس قرب كل موقف او ابتعاد اي حدث في القيم والاعراف والتقاليد فضلاً عن تعبيره عن الفضائل من عدمه بينما الامر يختلف تماماً عن ذلك، فقد جرى فض اشتباك تاريخي بين السياسة والاخلاق منذ كتاب "الامير" لميكيافيللي بل وقبل ذلك بعشرات القرون عندما جرى جدل حاد بين "ارسطو" و"السوفسطائيين" في عصره، ويجب ان نعترف بأن النظرة السائدة لكثير من القضايا الدولية لازالت تعتمد على المنظور الأخلاقي بالدرجة الاولى بينما محصلة القوى هي التي تحكم العالم كما ان السياسات يجري رسمها وفقاً للمصالح لا المبادئ كذلك فإن المواقف تتحدد انطلاقاً من حسابات محددة لا من قيم راسخة، ويمكن هنا أن نرصد المؤشرات التي تؤكد ان القوة وهي تعبير مادي تهزم الشجاعة وهي فضيلة اخلاقية: - أولاً: إن الرأي العام ظاهرة عاطفية انسانية تعتمد على معايير قيمية وليست تحليلات مصلحية لذلك فإن الرأي العام يتعاطف مع اصحاب الحق والذي يدافعون بشجاعة عنه ولكن قد تصدمه الحقيقة عندما يكتشف ان القوة هي صاحبة اليد العليا والفائزة في الصراع بمنطق العصر وربما روح كل عصر ايضاً. - ثانياً: إن التنظيم الدولي يدخل مرحلة المحنة الحقيقية بسبب سقوطه في يد الاقوياء وتأثيره بقدراتهم على تصريف الامور وترتيب الاوضاع، فبينما كان ذلك التنظيم الدولي يمثل ضمير العالم وتعبر "الجمعية العامة" في الاممالمتحدة - على سبيل المثال - عن برلمان دولي شامل لم يعد الأمر كذلك الآن فقد تغلبت محصلة القوى، وسيطر القطب الاوحد على مسار المنظمات الدولية بصورة تكاد تحدد كذلك مستقبلها. - ثالثاً: ان الحروب - كل الحروب - هي محنة إنسانية قاسية تضيع فيها القيم وتغيب عنها الاخلاق ويحل بديلا لها الدمار والخراب والدماء والدموع، وقد تقف الشعوب في شجاعة لدفاع عن ارضها ومقدساتها ولكن القوة تقهر كل ذلك بحكم جبروت التكنولوجيا وسطوة السلاح المدمر، فالحرب لم تعد منازلة سيوف او مواجهة بين رجال ولكنها اصبحت تفوقاً تكنولوجياً وتقدماً هائلاً يجعل الشجاعة تعبيراً وقتياً ويحيل القوة الى نتيجة نهائية. - رابعاً: إن الإعلام المعاصر اثر هو الآخر تأثيراً ضخماً على مسار الحروب وطبيعة المواجهة فنحن في عصر الحرب التلفزيونية التي يشارك فيها الجميع بصورة تحرك العواطف وتلهب المشاعر وتحيل المعركة الى ما يشبه الفيلم السينمائي الذي يصور المأساة ويضع اطارها بطريقة درامية تستفز اصحاب الحق وترضي اصحاب القوة، كما أننا ندرك ايضا ذلك الارتباط بين القوة العسكرية والقدرة الاعلامية. - خامساً: ان الحرب قد اخذت مفهوماً شاملاً بحيث لا يمكن حصارها في ميادين قتال أو مواقع مواجهة ولكنها اصبحت قابلة للانتشار تصل الى عمق المجتمع وتطاول اعصاب الدولة ولا تتوقف عند حد معين، وهو امر جعل البعد الاقتصادي لها اساسياً وربط بين الانتصار فيها وبين امكانات الدولة وقراراتها، لذلك فإننا نقول إن القوة ليست قوة عسكرية فحسب ولكنها قوة اقتصادية واعلامية ايضا. فإذا انتقلنا الى تطبيق هذه الملاحظات على الحرب غير العادلة وغير المبررة التي شنتها الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفاؤها على العراق لاكتشفنا أنها تكرار للحملة الفرنسية على مصر منذ أكثر من قرنين من الزمان عندما جاءت لتخلص المصريين من ظلم المماليك وحكم العثمانيين، حيث قاومت مصر بشدة الحملة الغازية لا حباً في حكامها الظالمين ولكن رفضاً للوجود الاجنبي، وهو ما حدث بالضبط في الاسابيع الاخيرة عندما اكتشف الشعب العراقي أن الاختيار محصور بين حاكم عراقي ظالم ووجود اجنبي دخيل فإنه قرر تلقائياً ان يواجه العدو الخارجي قبل ان يواجه مأساته الداخلية، ويجب ان اعترف هنا كعربي ان قلبي ينزف مع الشعب العراقي الشقيق الذي عرف من المعاناة والقهر ما الا يستحقه ولا يتناسب مع تاريخه الحافل، وهنا استطيع ان اقول إن الحرب الاخيرة على العراق قد حملت مفاجآت ثلاث: الاولى: هي إنهيار العراق غير المتوقع في مواجهته واحدة من اكثر الحروب ضراوة في العصر الحديث، فالمواطن العراقي يدافع عن تراب الوطن رغم انعدام تكافؤ القوى وغيبة العدالة الدولية، فالشعب العراقي يحارب منذ عام 1980 في إيران تارة ومع غزو الكويت تارة اخرى ثم ينتقل الى حصار امتد لأكثر من اثنتي عشر عاماً. الثانية: تحدث الأميركيون قبل الحرب عن انهيار سريع على كل الجبهات العراقية وسقوط "بغداد" بعد ساعات من بدء الحرب، ولكن صمدت المدن العراقية لفترة طويلة نسبياً رغم القصف العشوائي الرهيب الذي تعرضت له عاصمة العباسيين وغيرها من مدن العراق حاضنة التراث الشامخ للحضارة العربية الإسلامية. الثالثة: لقد اتصفت ادارة الحلفاء للحرب بشيء من الارتباك وجرى الحديث عن خلافات داخل القيادة العسكرية الأميركية وانتقادات وجهها الجنرالات لوزير الدفاع، كذلك فإن العلاقات الأميركية - البريطانية لم تخلُ هي الاخرى من اختلافات طفيفة في وجهات النظر خصوصاً فيما يتصل بمستقبل العراق عند انتهاء الحرب. هذه كلها مؤشرات توحي بأن الإعداد للحرب على العراق لم يكن مدركاً للحجم الحقيقي القدرات العراقية كما كان مبالغاً الى حد كبير ايضاً في قدرات الحلفاء بينما هناك حقيقة كان يجب أن يعيها هؤلاء القادمون الى المنطقة وهي أن السلاح وحده لا ينتصر مهما كان تفوقه كما أن التكنولوجيا لا تحسم وحدها الحروب فهناك امر اسمه إرادة الشعوب هو الذي يحدد حجم المقاومة ونوعية المواجهة بل ويحدد النتيجة الحقيقية للمعارك، ولا استطيع أن أزعم هنا أن كل العراقيين الذين واجهوا القوات الغازية كانوا يفعلون ذلك دفاعاً عن النظام الحاكم ولكنه غرام العراقي بوطنه وعشقه لأرضه، ولن تمحو الايام من ذاكرة الاجيال الجديدة تلك المشاهد الدامية لشعب عربي واجه الحرب والحصار والغزو في عقدين متتالين من الزمان وهو الشعب العراقي، ولن تمحو الأيام من ذاكرة الأجيال الجديدة أيضاً ذلك القلق الذي عاش فيه شعب الكويت على امتداد ثلاثة عشر عاماً، فضلاً عن قتلاه واسراه ومفقوديه، وفي النهاية فإنني أجازف هنا فأقرر أن الأميركيين إن كسبوا الحرب عسكرياً إلا أنهم بالقطع لم يكسبوها سياسياً. * كاتب قومي عضو البرلمان المصري.