يمتد عيد يوم سان فالنتينو الذي يصادف في الرابع عشر من الشهر الجاري والمخصص للحب عند الملايين من الشباب الإيطالي، الى عدة ايام قبل وبعد موعده، فالإيطاليون يعتبرونه عيدهم الذي انطلق من أرضهم حينما كان القديس فالنتينو يعيش في إحدى ضواحي روما أواخر القرن الثالث الميلادي تحت حكم الإمبراطور الروماني كلاوديوس الثاني الذي اصدر أمراً بمنع زواج أي من جنود امبراطوريته، مخافة انشغالهم عن مهمة الحروب والفتوحات، غير ان القديس فالنتينو عارض هذا الامر، واستمر بعقد الزيجات في كنيسته سراً حتى اكتشف أمره وأمر باعتقاله وإعدامه في يوم الرابع عشر من شباط فبراير. تغرق جميع مقاهي ونوادي ومراقص الشباب والأسواق الإيطالية، سواء تلك المخصصة للخضروات واللحوم والأسماك او تلك المخصصة للملابس ولعب الأطفال، وقاعات الدرس وأروقة الجامعات والمعاهد والمدارس والنوادي الشبابية، والكثير من الشوارع والطرقات، بالورود الطبيعية والاصطناعية، وقوالب الحلوى، وألعاب اليانصيب التي توضع فيها أسماء الفتيات الراغبات في الزواج مع أسماء رجال راغبين لتجرى القرعة في المراكز الثقافية والاجتماعية داخل العديد من المدن والقرى، كما يتم طبع بطاقات بريدية، ومناديل ورقية وقطنية، وقبعات وقمصان وأربطة عنق، تنقش عليها مختلف الأبيات الشعرية والرسوم وعبارات الحب والهيام التقليدية. وتسلل تقليد الاحتفال بهذا اليوم من إيطاليا الى عموم بلدان العالم، فلقي الامتنان من قطاعات تجارية كرست بعضاً من ثرواتها ليوم العشاق لتجني في المقابل ثروات مضاعفة. الإيطاليون يرون فيه نعمة كبيرة وهبها الخالق للبشر لتستمر الحياة، ولتبقى مواكبها متألقة تتحدى الأحقاد والحروب، فهم يهنئون بعضهم البعض، وتزدحم شبكات الكومبيوتر بالمراسلات، وتسافر باقات الورد من محلات بيع الزهور من حي الى آخر ومن مدينة الى أخرى، وتتضاعف طوابير الشباب على محلات العطور والزهور وال"سوفنير" من اجل الشراء، وتخصص محطات الراديو والتلفزيون الذي تزيد قنواته على ألف قناة خاصة في عموم البلاد، برامج طويلة بعضها يستمر طوال اليوم، تلتقي شبيبة البلاد لتتحاور وتسمع آراءها بعيد الحب، وتزدحم ساحات المدن وبعض الشوارع الفرعية التي تكون عادة ملتقى الشباب ايام السبت والأحد، بالشباب من كلا الجنسين وهم يحملون هداياهم التي تغلف عادة بورق احمر يحمل الرسوم الجميلة . بين عشاق الأمس وعشاق اليوم يصنع الحب تاريخه ويدون أحداثه، وحول هذه العاطفة المتأرجحة بين التوهج والخفوت تدور القصص وتروى الحكايات، وبين الماضي والحاضر نبحر بحثاً عن هذه القصص كأننا نبحث عن مواقع قدم لنا واثار لخطى تركناها على الدرب. وكلمة "أحبك" قد تبدو لبعضنا بدائية، وللبعض الآخر قليلة الحياء، اما كبارنا، فما زالوا يعتقدون أن الحب لا يعني الرجال. والحب من وجهة نظر المتصوفة هي حال تحضر وغياب، وطريق الى المعرفة، تقوم على الذوق والاتصال. والحب في بلداننا العربية هو غيره في بلدان أوروبا، ففي مجتمعاتنا يشكل الحروب والحرائق ويبني الحضارات، وتصبح مفرداته منفى لمن لا بيوت آمنة في قلوب محبيهم، اما الحال عند الأوروبي والأوروبية فمختلف، إذ ان طبيعة العصر بدأت تميل نحو التفكير العلمي، وخلقت جملة ابتعادات لكل ما يمت الى عالم الأسطورة والرومانسية بقربى، وحضارات التكنولوجيا جعلت الإنسان يتجه بقلبه وفكره نحو المناظر الصناعية الكئيبة. فهل انتهى الحب الرومانسي في الدول الأوروبية؟ هذا السؤال طرحناه على أستاذة علم الاجتماع ايلزا مانويلي من جامعة تريمتي فقالت: "الحب يمثل أحد التجارب الإنسانية الأساسية، ان لم يكن أحد أهم التجارب للكثير من الأساطير الشرقية والغربية التي لا تزال موجودة في أسس حياة كل منا، ولكننا مع ذلك لا يمكننا ان نلغي السمات المعاصرة لهذه الظاهرة، فمن الصعوبة ان نضع التراجيديا الحديثة، أو ان نقارن الشعر الملحمي مع الرواية الحديثة، ولكن ظاهرة الحب باعتبارها انفعالاً إنسانياً عاماً، ليست إحساساً استثنائياً حتى وان نشأ تداخل كبير في فهم الحداثة لها، ففي القرون الأربعة الاخيرة، ومن خلال تغيرات في الأعراف والتقاليد لمرات عدة، تغيرت نظرتنا للحب أيضاً من دون ان يؤثر ذلك على مركزية الحب في الحياة وفي التصورات. فالعصر الأوروبي الحديث كثرت فيه الانغلاقات التكنولوجية وكبتت فيه الأصوات الرومانسية وأصبحت محبوسة بالعمل والآلة، إلا ان عافية الحب ما زالت عامرة في حياة الناس هنا، وما زالت العواطف الرومانسية بين الشباب قائمة لم تغيرها كثيراً المتغيرات التي يشهدها العالم". اما طبيب علم النفس ماريو الساندري في مدينة افيتزانو فقال: "عالم الغرب من دون ظاهرة الحب سيكون عالماً لا يملك إمكان معرفة الآخر، اذ بلا الحب لا يمكن العيش. الغرب الآن يعاني من حصار يبعد الإنسان عن الكلمة الشاعرية والعلاقة الساحرة، والغرب ينتج أيديولوجيات مبنية على واقع التكنولوجيا، ولهذا أثره في انحسار ظاهرة الحب الرومانسي وتغيرها عما كانت عليه قبل خمسين سنة، الشبيبة اليوم تتجه نحو شرقكم الذي لا يزال يمدنا بقوة المشاعر الروحية التي نودعها مع زمن العولمة.الحب إحدى التجارب التي تعتبر مفتاحاً للحياة اليومية، ولكنه في الوقت نفسه أحد العناصر المهمة جداً لفهم روحية فترة تاريخية معينة، فمع تطور ونمو التقاليد والأعراف، تغيرت النظرة الى الحب". والسؤال الذي يطرح هنا وباستمرار في عموم أوروبا هو: هل يمكن ان تعشق اليوم شخصاً في شكل كلي؟ هل العشق اصبح اليوم من أوهام الأزمنة الأخرى؟ في إيطاليا يمكن الحصول على إجابات لمثل لهذه الأسئلة. التكنولوجيا المتطورة زاحفة على كل نواحي الحياة بما فيها المشاعر الإنسانية، وهي في خدمة الإنسان، وتعني عدد ساعات عمل اقل، وصناعات اكثر نظافة، وتعني مجتمعاً يطلق إبداعات البشر ولا يعمل على تشويه وعيهم وتزييف حاجاتهم، وهي أيضاً، كما يفترض، تقوم بتنظيم مشاعرهم وأحاسيسهم، والإعلان التكنولوجي الجديد يقول إن الآلات التي تفكر آتية، ولن تكون قادرة فقط على تركيب كيماوي عضوي، بل ان الجهود باتجاه جعلها مبرمجة مثلاً على الخوف من الموت والمقدرة على التعاطف بمحبة الآخر. في المجتمعات الغربية ثمة من يشعر بثمن عصر التكنولوجيا وهو الآن في طور التعلم للسيطرة على كل القوى والمشاعر في عالمه، لأنه لا يعرف الا القليل عن نفسه. الكومبيوتر بدأ يلعب دوراً كبيراً في حياة الناس ومشاعرهم وأحاسيسهم واختياراتهم، لما يحمله من انطباعات سحرية مشحونة على الدوام بلهجة عاطفية، ومقدرة إيحائية بالغة التأثير. وتقوم شركات إعلانية متخصصة بخلق تأثيرات اغرائية لقلوب وأمزجة ومشاعر الشباب، الى حد اصبح معه الإعلان يساهم في تربية العديد من الشبيبة ذوقياً وجمالياً، كما يقوم بتقنين وتسويق علاقة الحب بين الذكور والإناث عن طريق ما يطلق عليه بأسواق الحب التي تنشط في الأشهر التي تسبق الاحتفالات بيوم الحب. وأسواق الحب هذه تقدم النصائح بقصد جني الأرباح، وتسعى من خلال شبكاتها على الانترنت، ومكاتبها في مراكز المدن، الى تنظيم المشاعر العاطفية في أماكن العمل، وفي أروقة الجامعات والمدارس والمعاهد، وفي الأماكن الأخرى التي يلتقي فيها الشباب مثل المقاهي العامة والمراقص والنوادي الرياضية والثقافية، وحتى في الشوارع والساحات واثناء التظاهرات الاحتجاجية، فكل الأماكن من وجهة نظر هؤلاء صالحة لخلق علاقة حب ضمن شروط تتحدد على النحو الآتي: 1- المقدرة على الاستماع للآخر، وهذا يشترط التكلم بهدوء والتواضع. 2- قبول الآخر. 3- التحليل، ويستدعي من الشاب او الشابة عدم النظر خارج حدود العلاقة التي يحددها المكان، وان يكون كل من الطرفين ملتزماً بأعصاب هادئة تتسم بالبرود. ان الهدف من الحب، كما تراه أسواق الحب التي يمكن زيارتها من خلال زيارة لأحد مكاتب سوق الحب، هو كيفية خلق العلاقة واتباع الإرشادات التي توصل الى محبة الآخر، وكيف تحترم مشاعر الآخر، انها استراتيجيات جديدة تسوق للشاب والشابة شكل مستقبلهم، من اجل التكيف واللحاق، لان الإنسان كما يرى سادة هذا "البزنس" الجديد قادر على التعلم على الآلة الجديدة اكثر من قدرته على تقبل التغيرات في حياته، فهو يحتاج الآن الى قيم وتقاليد تتناسب وبنية العصر الجديد. ومن يدري كيف ستكون عليه كلمات الحب وغزل الحبيب بحبيبته في المستقبل؟ فالحب لم يعد المصباح الذي حدثتنا عنه قصص ألف ليلة وليلة ذلك الذي يضيء للناس السبيل الى الكنز.