انطفأت فدوى طوقان كشمعة تنطفئ: يخبو نورها بالتدريج فتلقي ظلالاً تستطيل حولها، حتى تبتلع العتمة النور الشحيح ويحل الصمت. قلة من المهتمين، واكبوا فدوى في سنيها الأخيرة. لقد اشتدت عليها وطأة الشيخوخة المبكرة وكل شيخوخة هي مبكرة للشاعر او الشاعرة. وقد زادت من وطأتها وحدة الشاعرة الشخصية، وتكاثر اعداد الجنود المحتلين في مدينتها نابلس. والحال ان ظلم الاحتلال وقع بصورة مضاعفة على الشاعرة الرقيقة، التي سبق لها ان فجعت بأخيها وأستاذها ابراهيم ثم بأخيها نمر، قبل ان تفجع بالاحتلال الذي اطبق على مدارج الطفولة وملاعب الصبا، وهي التي لم تألف الاقامة في مكان آخر ولا كان السفر من عاداتها. والذين يعرفونها، يعرفون ان الاحتلال بات مشكلة شخصية لها وقد أمرضها، هي التي تنسب أول وأكثر ما تنسب الى نابلس، مدينة: "التجربة الصعبة". وقد تعاقب عليها الزمن ودار، فبداياتها الشخصية العائلية الصعبة، في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، والتي جهدت في التحرر منها، عادت لتلقي بظلالها عليها، مع اسر نابلس وما تبقى من فلسطين، في العام 1967 وما تلا ذلك العام، وهو ما أسهم في التعتيم عليها وانسحابها. وقد يتذكر الآن النقاد والدارسون ان فدوى، جاورت جيل الرواد إن لم تكن منهم، وقد غلبها الخفر دائماً ومعه الزهد، من ان تتقدم الى الأضواء أو الى صف أمامي، لائذة ب"وحدتها مع الأيام" ما جعلها الأكثر رومانسية بين الشعراء والشاعرات، ولكن مع اقتصاد في النبرة وفي البوح، فإذا هي تترك وقفاً رقيقاً لا ينسى ولا يمحى في النفس، من فرط عذوبته وصفائه، وكذلك جماليته التي تجاور الجماليات الأولى لنزار قباني، إنما على غير إسراف وتزيد، وبهمس عاطفي اقرب الى الكتمان، ويحيل الى التأمل. والآن فإن اجيالاً عدة من شعراء فلسطين والأردن، قد استيقظت حساسيتهم الشعرية الأولى، مع قراءة فدوى طوقان التي شكلت محطة فارقة وحالة قائمة بذاتها، اذ حققت انتقالاً سلساً من التقليد الى التجديد، كما يشهد على ذلك ديوانها الأول وقصائدها التي نشرت تباعاً في "الآداب اللبنانية منذ منتصف الخمسينات، وفي ما يشبه النمو او التحول "الطبيعي" بغير ضجيج وإعلان، وبالنزر اليسير من المواكبة النقدية لتجربتها، وإن وجدت اعترافاً وتكريساً لريادتها في "اعترافات" محمود درويش وسميح القاسم منذ بواكيرهما، بشاعريتها التي لا يجد الناقد عناء في ملاحظة ان درويش بالذات قد تأثر بها إيما تأثير في بداياته ذات النزوع والملمح الغنائي. وإذا يبدو انتاج الشاعرة قليلاً قياساً الى تجربتها الممتدة زمنياً لنحو ستة عقود، فإن اثرها وتأثيرها قد اقترنا بهذا الإقلال. بتلك الايماضات القوية التي شقت عتمة القصيدة التقليدية وكسرت رتابتها الثقيلة في وقت مبكر. ومن الواضح ان قسوة ظرفها الشخصي مع وطأة الاحتلال، كانا معاً فوق طاقاتها على الاحتمال. وهي في الأصل ذات طاقة رهيفة وهشة تكاد تكون أثيرية، بما يجعلها منذورة للسلام والحب لا مواكبة الحروب وخوض غمارها والعيش تحت سقوفها الواطئة. ولما لم يكن لديها أيضاً ميل مبكر الى النثر، فقد غالبت نفسها طويلاً قبل ان تعمد لتسجيل تجربتها في المذكرات صدرت بجزءين: التجربة الصعبة، والتجربة الأصعب فقد تحالف عليها الصمت وامتناع الرغبة في التعبير الشعري، في الضغط الشديد على ما تبقى من طاقاتها البدنية والروحية. وعليه فإنه ليس من المبالغة في شيء القول، إن كل ما يحفل به شعر الشعراء في فلسطين والأردن وكانت توصف بشاعرة أردنية حتى العام 1967، من رقة وعذوبة وذخيرة جمالية ومن توقيعات غنائية، انما يعود في جانب اساسي منها الى تأثير فدوى طوقان، وقبل ان ينتقل الشعر الى أطوار جديدة من التركيب واستغلال طاقة النثر، فقد شقت قبل سواها طريقاً مبكراً للشعر الصافي، بعد ان استلهمت من شقيقها الراحل ابراهيم، روح العنفوان وكسر القوالب والطاقة على التحليق الجسور. وبغيابها تبدو مدينتها التي احبتها وأخلصت لها وحتى النهاية، وقد حل عليها عتم فجائي، بعد ان انطفأت نجمة في سمائها، كما تنطفئ شمعة طويلة العمر وساهرة لوحدها مع الأيام، وبعد ان بخل الزمن عليها فلم يعطها حباً. اما الشعراء والمتذوقون الكثر، فعليهم ان يبحثوا عن سلوى بعد ان فقدوا "الأم الروحية"، التي انشغلوا عنها في ما انشغلوا به لسنين طويلة، ولعل الموت الأليم، والذي طالما خاطبته وهتفت له، يشملها بالرحمة وبسلام أبدي.