أصبح واضحاً وضوح الشمس ان ادارة الرئيس جورج بوش لم تعد تأبه لما تثيره سياستها في الخارج من حيرة أو سخط أو غضب أو هياج، فهي ماضية قدماً في سبيل تحقيق مآرب ومصالح المؤسسة العسكرية / الصناعية في الولاياتالمتحدة. فهذه الادارة تتراجع عن التزامها بنصوص معاهدة كيتو الخاصة بحماية البيئة في العالم، لأن مصانعها التي تلوث هذه البيئة لا بد من أن تزيد انتاجها لزيادة ارباح اصحابها. وتضرب عرض الحائط بالالتزامات التي تفرضها منظمة التجارة العالمية، فتفرض رسوماً جمركية باهظة على وارداتها من الصلب دفاعاً عن مصالح منتجي الصلب داخل الولاياتالمتحدة، وتعلن اسماء الدول السبع التي يُحتمل أن تستخدم واشنطن اسلحتها النووية ضدها، وتطلب من البنتاغون إعداد الخطط لاستخدام هذا السلاح من دون أن تعبأ بما يسببه هذا الاعلان من حيرة في الصين وروسيا مثلاً، أو تكترث لما سيثيره من الغضب والشكوك لدى دولة كروسيا كانت الولاياتالمتحدة تكرر أنها باتت الآن دولة صديقة. فضلاً عن ذلك فانها تبارك وتؤيد وتناصر كل مذبحة ترتكبها اسرائيل بحق الفلسطينيين من دون أدنى اعتبار لمشاعر العرب، ولا تزال طائراتها تقصف المدنيين في افغانستان من دون تمييز أو انضباط، غير آبهة بغضب المسلمين هناك أو في سائر أنحاء العالم. يحدث كل هذا من دون أن نلمح بادرة لمعارضة قوية من أحد. نعم، قد يحتج بعض الدول على قرار رفع الرسوم على واردات الصلب، غير أن الاحتجاج هنا ناجم عن خشية تلك الدول من تراجع أرباحها هي من صادرات صلبها الى الولاياتالمتحدة، لا من غضب ازاء تلك العجرفة الاميركية الجديدة. ما من أحد غير إسرائيل وبريطانيا يُسعده ما يحدث. غير أن الكل صامت ومتخوّف، ألزم نفسه بالحكمة القائلة "إن الجُبن سيد الأخلاق". فأما استثناؤنا اسرائيل، فلأنها الحليفة الشريكة في جانب كبير من مخططات الولاياتالمتحدة، بل وربما في أحداث 11 أيلول سبتمبر ذاتها من أجل تدشين هذه المخططات. وأما استثناؤنا بريطانيا، فلأن حكومة طوني بلير اقتنعت بأنها، بالتزامها خدمة الأغراض الاميركية ومناصرتها الولاياتالمتحدة في كل خطوة تخطوها، قد تحظى ببعض فتات المائدة، بل قد تستعيد بريطانيا بعض ما فقدته من أمجادها الاستعمارية السالفة. فإن كان الذعر من تحركات الثور الأميركي الهائج طغى على وجدان دول أوروبية قوية، كروسيا والمانيا وفرنسا، فإنه اطار ألباب القادة العرب الذين تعلموا الحكمة من رأس الذئب الطائرة: العراق وفلسطين. وكان العراق وفلسطين محور محادثات نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني مع قادة الاقطار العربية التي رأى أن تشملها زيارته الاخيرة للمنطقة، سعياً منه الى تكييف قرارات قمة الملوك والرؤساء العرب في بيروت، وهي قمة سيكون العراق وفلسطين ايضاً على رأس مشاغلها. والمعروف أن ديك تشيني - لا الرئيس بوش - هو أبرز المسيّرين للسياسة الاميركية والمنفذين لأهداف المؤسسة العسكرية / الصناعية. فقد أصبح للمرة الأولى في تاريخ الولاياتالمتحدة بمثابة رئيس للوزراء، بيده الأمر، يحكم من دون رئيس الجمهورية الذي يبدو دائماً وهو يتلو ما أعد له من خطب وتصريحات، مندهشاً إذ يطلع للمرة الأولى على مضمونها، حتى وإن لم يدرك مراميها. باتت الأنظمة العربية منذ انفراد الولاياتالمتحدة بالهيمنة على مقدرات العالم تحت رحمة الإدارة الاميركية، ورهن اشارتها، وكانت نتيجة ذلك أن صار الشبح الاميركي - بخاصة منذ احداث 11 أيلول واكتساح افغانستان - جاثماً وقائماً دائماً، حتى في ميدان علاقات الدول العربية مع بعضها، وحتى في ما يتعلق بالقرارات التي تخصها وتتعلق بقضاياها المصيرية، كالقضية الفلسطينية. فثمة حدود الآن لا ينبغي لأحد أن يتخطاها، وأهداف لا يجوز لدولة أن تتخلف عن خدمتها، وسقف لا يجرؤ أحد على تجاوزه، ومحظورات تحول بين العرب وحاجتهم الملحة الأكيدة إلى تنسيق مواقفهم للتصدي لنيات اسرائيل ربيبة الولاياتالمتحدة وصديقتها الصدوق، وشريكتها في رسم وتنفيذ المخططات الجديدة، مرحلة اثر أخرى. والمرحلة المقبلة هي ضرب العراق بحجة أن اكتساحه خطوة لازمة في سبيل مكافحة الارهاب، وبدعوى رفضه الامتثال لقرار الأممالمتحدة. ويبدو ان الضربة ستأتي سواء صادفت قبولاً لدى الشعوب العربية أو أثارت حفيظتها وغضبها، فالولاياتالمتحدة - كما ذكرنا - لم يعد يهمها رضا الآخرين أو سخطهم. غير أن سخط الشعوب العربية من فكرة ضرب العراق قد يتطور تطوراً خطيراً يطيح معه أنظمة يهم الولاياتالمتحدة بقاءها في الحكم إلى حين. فلا بد إذن من بعض التدقيق والتعديل الطفيف في رسم الخطة. وارتأت واشنطن ان تستبق القمة العربية في بيروت، لمناقشة موضوعي العراق وفلسطين، بمهمة "وساطة" بين الاسرائيليين والفلسطينيين ينهض بها الجنرال الاميركي انتوني زيني، وجولة في عدد من الدول العربية يقوم بها ديك تشيني - على غرار تلك التي قام بها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد للمنطقة عشية ضرب افغانستان - من أجل التنسيق مع الرؤساء العرب بشأن الموقف الواجب اتخاذه في قمة بيروت من موضوع ضرب العراق، وهو ما يوحي بأنه بات وشيكاً. ويصرح كل من القادة العرب قبل انعقاد القمة بأنه غير سعيد على الإطلاق بفكرة ضرب الشعب العراقي المسكين، وأنه مع ذلك ضد الارهاب الدولي، وأن لديه على رغم ذلك أملاً كبيراً في أن يمتثل العراق لطلب عودة المفتشين، بل وثقة كبيرة في أنه سيفعل. في هذه الاثناء تطلق وزارة الخارجية الاميركية دعوة "حازمة" الى اسرائيل لسحب قواتها سحباً كاملاً من جميع الاراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، فتستجيب لهذا المطلب وكأنما هي كارهة له، مرغمة عليه، آسفة لصدوره عن صديقتها الولاياتالمتحدة، غير أنها راغبة في بذل جهد من أجل إنجاح مهمة زيني. يتنفس الفلسطينيون وسائر العرب الصعداء، ويشعر بعضهم بالامتنان للسياسة الاميركية التي اقتنعت اخيراً بضرورة الالتزام بالموضوعية ازاء القضية الفلسطينية! ثم تنعقد قمة بيروت، فإذا بممثل العراق يعلن فيها ما سبق أن أعلنه مراراً وتكراراً من أنه يرفض دخول المفتشين. وهنا يتظاهر القادة العرب الذين تباحث معهم ديك تشيني بالدهشة والاستياء وخيبة الأمل والحسرة، وبأنه ما من سبيل أمامهم الآن ازاء عناد النظام العراقي وإغفاله لنصحهم ومشورتهم الحكيمة سوى أن يتركوه لمصيره، بعدما بذلوا قصارى جهدهم من أجل انقاذ الشعب العراقي. غير أنه لا بأس مع ذلك، من أن يتضمن أحد قرارات القمة مناشدة اخيرة للعراق بالامتثال، ثم تعقب القمة العربية الضربة الاميركية - البريطانية، في وقت تكون اسرائيل أتمت انسحابها من اراضي السلطة الفلسطينية التي اعادت احتلالها في الآونة الأخيرة، فإذا جانب من الرأي العام العربي وقد استرد بعض الثقة في العدالة والموضوعية الاميركيتين، وإذا به أقل سخطاً على ما يحدث للعراق، وعلى الأنظمة الموالية للولايات المتحدة في العالم العربي، من دون أن يدرك أنه متى فرغت الولاياتالمتحدة من شأن العراق ستلتفت الى "تدبير" ازمة جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فتعود تل ابيب الى احتلال المناطق التي انسحبت منها اثناء جولتي تشيني وزيني، وتشترك اسرائيل والولاياتالمتحدة في تنفيذ المرحلة الثالثة من "الحملة على الارهاب"، وهي توجيه ضربات الى "حماس" ومنظمة التحرير الفلسطينية، وحزب الله في لبنان، ثم لبنان وسورية وايران، ثم ليبيا والسودان والصومال. قد يقبل ديك تشيني من قمة بيروت أن يتضمن بعض قراراتها، إلى جانب الموافقة على المبادرة السعودية، التعبير عن الاستياء البالغ من الفظائع التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية اخيراً في الاراضي الفلسطينية، والاعراب عن التضامن والتكافل والتعاطف والتضافر، إلى آخره، مع الشعب الفلسطيني الباسل في مقاومة الاحتلال، حتى يخيل للأعين أن إرادة القادة العرب في تلك القمة كانت حرة، وحتى تتيح لإسرائيل في ما بعد أن تصف قمة بيروت بأنها كانت عقبة في سبيل السلام و"إعادة بناء الثقة"! أما أن يصدر عن الاجتماع قرار بقطع الدول العربية التي لها علاقات ديبلوماسية مع اسرائيل لهذه العلاقات، فغير جائز البتة. كذلك فإنه لا يجوز النص نصاً قاطعاً على مقاطعة عربية لإسرائيل، وإن جازت - ذراً للرماد في الأعين - "الدعوة الى مؤتمرات دورية يدعو إليها المكتب الرئيسي للمقاطعة بهدف منع التعامل مع اسرائيل"، وهو ما لن يحدث ولن تزيد فرصة تحققه على فرصة وصول "التبرعات العربية السخية" التي يلتزم الرؤساء العرب بتقديمها الى الفلسطينيين. أما بصدد موضوع العراق، فلا بأس من مناشدة الرؤساء له في قراراتهم الامتثال لما يسمى بقرارات الأممالمتحدة - أي للإرادة الاميركية - غير أنه من غير الجائز التشكيك في ضرورة الهجوم الاميركي - البريطاني على العراق. "نعم" لكل ما يشل يد العرب ويبدي عوراتهم، و"لا" لكل ما يضر بالمصالح الاميركية أو يهدد أمن إسرائيل. أما عن الإرادة الشعبية في الاقطار العربية فلا بأس من هدهدتها الى حين، ومن الاستجابة المحدودة لها في صوغ هذا القرار أو ذاك من قرارات القمة. غير أن أغلب الظن لدى الولاياتالمتحدة أن تلك الإرادة سيقتلها في النهاية الوعي بواقع الأحوال، وإدراك من هو السيد الآمر الناهي، ومن عليه أن يُذعن ويطيع. * كاتب مصري