يبدو غالبية العرب في هذا العصر وكأنهم قد قرروا مواصلة تضليل النفس فلا احد يفعل ما يفعله كثير من كتابنا ومفكرينا واعلاميينا من خلط لحقائق الحياة من حولنا ومن تصوير ملون للاحداث. ان أي قارئ او مستمع عربي يطلع على ما نكتبه او يصغي الى ما نقوله لا بد واجد نفسه في حيرة من امره فهو لا يتلقى غالباً الا كلاماً لا يفهمه او كلاماً يصعب عليه حين فهمه ان يصدقه والنتيجة اننا نصنع رأياً عاماً ينقسم بين من لا يفهم ومن لا يصدق فيما تبقى القلة من اصحاب الرأي الحصيف معزولة عمن يحاولون العثور على ما هو قابل للفهم وصالح للتصديق، والواقع ان هذا النشاط الذي تمارسه لخلط الحقائق بالاوهام وتغطية عدم الفهم بشهوة التظاهر بالذكاء ليس كله وليد عدم العلم بالامور بل ان بعضاً منه عائد الى الرغبة الواعية في اخفاء الحقائق وتشويه الاحداث، ولعلنا عندما نتخيل نموذجين ممن يكتبون او يقولون واجدون ان اولها جالس امام الورق او الميكروفون او كاميرا التلفزيون ليكتب او يتحدث في امور السياسة او الدين او الاقتصاد بل وحتى في امور العولمة والنظام العالمي الجديد ووفاضه خال من الحقائق المتعلقة بما يكتب فيه او يقول، لكنه يخوض على رغم ذلك في كل شأن وبلا تردد او ارتباك فيظهر علينا بكثير مما لا يفهم وكثير مما هو غير قابل للتصديق. اما النموذج الثاني فهو صاحب موقف جرى اتخاذه سلفاً من اي شيء، انه قرر وجهة نظر محددة سابقة ازاء ما يريد ان يحدثنا عنه او يكتب لنا فيه انه صاحب موقف من اي شيء من دون علم بما يتصدى له بل انه صاحب موقف حتى من الاخبار قبل ظهورها ولن نجد فيما يقدمه لنا سوى مرافعة للدفاع عن موقف سابق الاتخاذ وغالباً ما يلقي علينا مثل هذا النموذج حصيلة جهود سطحية لا تؤدي الا الى الارتباك وهو لن يتجاوز ان بذل وقتاً وعقلاً من اجل البحث فيما يتصدى له من الامور، نشاط التنقيب عما يعزز وجهة نظره التي قرر او الموقف الذي اتخذ. هكذا، لا يخرج المتلقي لنشاطنا الفكري والاعلامي بغير رؤية مشوشة او ادراك مزيف لما يعرض عليه من امور، وهكذا يتشكل رأينا العام من جماعات لم تفهم واخرى فهمت ما جرى تحريفه من حقائق الحياة، ان مثل ما تحدثنا عنه من نشاط الفكر ليس الا تضليلاً للنفس وبالطبع فإنها لا يمكن ان تكون صائبة تلك القرارات والمواقف التي يتخذها من جرى تضليلهم على قدم وساق. ودعونا نلقي نظرة على ما نقوم به مثلاً من نشاط القول والكتابة في مجال الاحداث الخارجية من حولنا والتي نحتاج بشدة الى فهمها بلا تزييف حتى نتخذ ازاءها من المواقف ما هو صائب ومفيد، متجنبين الخوض، فيما يتعلق بالامور العربية الداخلية لما لها من الخصوصية والتعقيد. اقول، ان المتابع لما نكتبه وما نلقي به من احاديث سيلاحظ اننا نتصدى لموضوعات واحداث عالمية بالغة التعقيد فلا نحاول فهمها بتجرد بل نتلقفها بنصف وعي ثم نشرع في الدعوة الى مواقف منها من دون ان نبذل جهدنا في بحث او في محاولة للاستقصاء، ونحن واجدون كل ذلك واضحاً اذا ما تعرضنا لبعض ما نخوض فيه هذه الايام من موضوعات. نحن نقول مثلاً أن اميركا والغرب يحاربون دين الاسلام ونتصرف على ان هذه مسلمة غير قابلة للنقاش، هكذا من دون فهم ولا تمحيص، ثم نسارع الى البحث في التاريخ بل وفي بعض كتابات الغربيين لندلل على صحة ما افترضناه موقفاً لاعدائنا ضد اسلامنا، الامر الذي يسوقنا الى الدعوة الى اتخاذ موقف مناهض لكل ما هو غربي عازفين عن التساؤل عن سبب معاداة الغرب للاسلام ان صحت تلك العداوة وغافلين عن امرين اولهما ان معاداة الغرب هي في الحقيقة ان وجدت مجرد معاداة لبعض المسلمين اذ ليس في الامر صليبية وانما مصالح لا بد ان تخدمها السياسات، فالعالم الغربي لم يعد حامل لواء دين يرغب في فرضه وانما صاحب مصالح يرغب في حمايتها، وعليه فإنه قد يعادي مسلمين ولكنه لا يمكن ان يعادي الاسلام، هذا اول الامرين، اما ثانيهما فهو ان الغرب لا بد ان يشجع مثلنا على ما نحن فيه من اسلوب فهمنا لديننا الحنيف اذ لا شيء يحقق له مصالحه اكثر من استمرار تخلفنا ولا شيء يكرس ذلك التخلف اكثر من اسلوب الفهم المتخلف للاسلام. نحن نروج ايضاً ومن خلال فهم سطحي لعلاقات السياسة الدولية ان روسيا خصم لاميركا تماماً مثلما كان الاتحاد السوفياتي وان خصومة الروس للاميركان سوتضمن حتماً تأييد الروس لنا، وبقدر ما في هذا الترويج من سذاجة وسطحية بقدر ما فيه من ضرر، اذ يدفعنا الى التعويل على مواقف دولية مفترضة فنعلق قضايانا على الوهم قاعدين عن اي فعل واقعي لحماية مصالحنا. ليس هذا فقط بل ان فينا من يطمئننا على حتمية انتصار سياسي لنا على جميع خصومنا فقط اذا انتظرنا قيام اوروبا قوية وصين اقوى، بل يذهب بعض اولئك الى النبوءة بظهور حلف روسي، صيني، اوروبي سينتزع من الولاياتالمتحدة الاميركية زمام الامور مصدقين بأن ذلك الحلف سيكون عدواً لغيرنا ونصيراً لنا. كل ذلك من دون الالتفات الى ان مستقبل التاريخ فرض لا يصح ان يعتمد عليه العقلاء وليس في المراهنة على الافتراض الا تضليل للنفس وتخدير لمشاعر العجز والانكفاء. شأن آخر ننفخ فيه عن جهل او تجاهل لحقائق الحياة ولعل فيه مثلاً واضحاً على ما نبذله في سبيل تضليل النفس من جهود، انه الحديث عن دول العالم الثالث والدعوة الى التحالف معها لمواجهة تحكم دول الاقوياء في التجارة او السياسة او غيرها من الامور، وذلك من دون بحث في شأن انظمة تلك الدول الثالثة وصدقها وقدرتها على اتخاذ ما نحب من المواقف والسياسات متجنبين تماماً وايضاً عن جهل او تجاهل امر الحديث عن كون ان اكثر تلك النظم ليست الا نظم عصابات وانها اقدر على جرنا الى المشاكل اكثر من قدرتها على ان تفيد، هذا فضلاً عما في الاعتماد عليها من تأييد لها على شعوبها المسحوقة سحق "طالبان" لافغانستان. أمر آخر يصلح مثلاً لسطحية وخطأ بعض ما نكتب او نقول، الا وهو المطالبة بإلغاء حق الاعتراض الفيتو من مجلس الامن نكاية في اميركا التي نحن معها على خلاف بشأن قضية فلسطين. فمعظم الذين ينكرون حق الاعتراض في مجلس الامن على اميركا او على اية دولة كبرى ىغفلون عن سذاجة او جهل أن بقاء مثل ذلك الحق في ايدي عقلاء لا نحبهم خير من وضع رقبة الاممالمتحدة في ايدي حكومات غير مسؤولة، اننا نعرف ان تحكم جملة الدول التي لا يحدث تداول للسلطة فيها الا بين العصابات هو امر محفوف بالمخاطر ولا بد ان يغرق المنظمة الدولية في النهاية في بحر من المغامرات، ويظل تحكم خصوم عقلاء في شؤون العالم اذا ما سلمنا بأن الدول الكبرى هي من الخصوم أسلم للجميع من تحكم جملة من حكومات متخلفة تتسم بعدم المسؤولية ولا تعرف غير التقلب والاضطراب، واضح من كل ما تقدم ان جهد الفكر عند اغلبنا لا ينجز اكثر من التجهيل او التضليل الامر الذي يقسم الرأي العام الى فئة لا تفهم وفئة اخرى فهمت ما لا صدق فيه، ولعل هذا ما يفسر التناقض والتشويش في مواقفنا بشأن كثير من قضايانا وقضايا العصر فنحن نفترض مثلاً ان الغرب لا يتقدم الا وهو يحارب الاعداء، ولما كنا نظن انه بحاجة الى عدو بعد انهيار الشيوعية فقد افترضنا ونحن فرحون انه اختارنا كأعداء مع ان الغرب لن يجد لنفسه اصدقاء يحرصون على تخلفهم خير منا، كذلك تعودنا الدفاع بحماسة عن اقليات مثل الشيشان والالبان في ذات الوقت الذي نتجنى فيه حفاظاً على وحدة الدولة على حقوق الامازيغ في شمال افريقيا وحقوق الاكراد في اي بلاد، هذه مع كثير من المواقف الاخرى التي لا مجال لذكرها في هذا المقال هي بعينها المعايير المزدوجة التي نحن لها كارهون، ولعل في هذا مثلاً آخر على تضليل النفس الذي يفسر ابتعاد القرارات والمواقف عن دائرة الصواب. * رئيس وزراء ليبيا السابق.