ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    تدشين أول مهرجان "للماعز الدهم" في المملكة بمنطقة عسير    كلوب يدعم إلغاء العمل بتقنية «فار» بشكله الحالي    «هيئة النقل» تعلن رفع مستوى الجاهزية لخدمات نقل الحجاج بالحافلات    دول غربية تحذر إسرائيل من اجتياح رفح    «تعليم جدة» يتوج الطلبة الفائزين والفائزات في مسابقة المهارات الثقافية    مفتي المملكة يشيد بالجهود العلمية داخل الحرمين الشريفين    استكمال جرعات التطعيمات لرفع مناعة الحجاج ضد الأمراض المعدية.    المملكة تتسلم رئاسة المؤتمر العام لمنظمة الألكسو حتى 2026    خادم الحرمين الشريفين يصدر أمرًا ملكيًا بترقية 26 قاضيًا بديوان المظالم    أمطار وسيول على أجزاء من 7 مناطق    النفط يرتفع والذهب يلمع بنهاية الأسبوع    ولي العهد يستقبل العلماء والمواطنين بالشرقية    9 جوائز خاصة لطلاب المملكة ب"آيسف"    جوزيه مارتينيز حكماً لديربي النصر والهلال    الإعلام الخارجي يشيد بمبادرة طريق مكة    ‫ وزير الشؤون الإسلامية يفتتح جامعين في عرعر    تشكيل الهلال المتوقع أمام النصر    قرضان سعوديان ب150 مليون دولار للمالديف.. لتطوير مطار فيلانا.. والقطاع الصحي    بوتين: هدفنا إقامة «منطقة عازلة» في خاركيف    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    رئيس الوزراء الإيطالي السابق: ولي العهد السعودي يعزز السلام العالمي    تراحم الباحة " تنظم مبادة حياة بمناسبة اليوم العالمي للأسرة    محافظ الزلفي يلتقي مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    حرس الحدود يحبط تهريب 360 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    «الأقنعة السوداء»    السعودية والأمريكية    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    حلول سعودية في قمة التحديات    فتياتنا من ذهب    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    حراك شامل    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    فوائد صحية للفلفل الأسود    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص عثماني للمفكر القومي لأول مرة بالعربية . الدين أحد العناصر الفاعلة في الأمة تخلى عنه ساطع الحصري عندما نظر للقومية العربية 1 من 2
نشر في الحياة يوم 22 - 11 - 2002

لا تزال "القومية العربية" قائمة لدى مثقفين عرب وإن كانت لم تتطور او تحقق نجاحات بالقدر الذي وعد به المثقفون العرب انفسهم. بل ربما امكن القول ان تراجعاً حصل في هذا المجال على ما شهدنا في العقود الثلاثة الماضية على الأقل.
إن أحدث الدراسات التي ظهرت عن هذا الموضوع هو كتاب الدكتور يوسف الشويري، "القومية العربية: الأمة والدولة في الوطن العربي: نظرة تاريخية" صدر في بيروت عن مركز دراسات الوحدة العربية. وتبحث هذه الدراسة، في ما تبحث، في دور ساطع الحصري 1880 - 1968 في نشره لمفهومه الخاص للقومية العربية الذي اعتبر فيه ان "اللغة والتاريخ يكونان العاملين الأكثر اهمية في تحديد هوية الأمة الثقافية والسياسية". وبهذا، كان تعريفه متلاقياً مع القوميات الألمانية والإيطالية واليونانية والبلغارية والتركية اذ انها، على رغم تباين مساراتها، اشتركت في التأكيد على وحدة اللغة والتاريخ وكان هم الحصري "صوغ مفهوم علماني للقومية العربية قادر على العمل كصفة مشتركة لجماعة حديثة".
غير ان ساطع الحصري العلماني الذي لا يعطي للدين دلالة مهمة في التكوين القومي هو ساطع الحصري المفكر العلماني العربي وليس ساطع الحصري المفكر العثماني الذي كان يؤكد على الرابطة او القومية العثمانية التي يلعب الدين فيها دوراً بارزاً عنده قبل الحرب العالمية الأولى ونهاية الامبراطورية العثمانية، وقبل تحوله بحكم الأحداث الى الفكر القومي العربي.
وهذا لا يعني ان الحصري لم يكن علمانياً عندما كان عثمانياً من الناحية القومية، لكن علمانية الحصري العثمانية كانت توسع مجالاً للهوية الدينية الإسلامية كواحدة من مقومات القومية العثمانية، بينما اقفلت علمانيته العربية، في ما بعد، الباب امام اي دور للهوية الإسلامية. وقد عثرت منذ تسع سنوات - وأنا في زيارة الى اسطنبول - على كتيّب يتضمن محاضرات للأستاذ الحصري ألقاها في مناسبات متعددة ونشرت في اسطنبول في عنوان شامل واحد "في سبيل الوطن" Vatan Icin وقد طبع هذا الكتيّب في مطبعة القدر في سلطان حمام - اسطنبول عام 3291 ه بحسب التقويم المالي العثماني وقتها الموافق لعام 1913 ميلادية.
وقد تكرّم الصديقان سعد عبدالمجيد وأحمد كاليندره بإطلاعي على اهم ما جاء في محاضرات هذا الكتيّب ثم قام الصديق سعد عبدالمجيد بترجمة اهم ما جاء في المحاضرة الأولى التي ألقيت في 22 شباط فبراير 1328ه 1912 المعنونة "فكرة الوطن ومحبة الوطن" من العثمانية الى العربية، وقمت بمراجعة الترجمة وتحقيق النص الذي ضاع بين اوراقي الكثيرة ولم اعثر عليه وأعي ضرورة وضعه بين ايدي المهتمين إلا اخيراً.
ان اهم ما يلفتنا عند قراءة هذا النص ان ساطع الحصري لم يؤكد في 1912 و1913 على عامل بذاته في نشوء "الوطنية" وهو التعبير الذي استخدمه اكثر من تعبير "القومية" في تلك الفترة. وعلى خلاف ما درج عليه كمفكر قومي عربي لاحقاً، فإنه لم يعط الأولوية الأولى للغة وإنما اعتبر ان مفهوم الوطن او الوطنية وهو مفهوم متحرّك وغير ثابت يتغير من مكان الى مكان وبحسب الظروف التاريخية. فالعوامل التي أثرت في نشوء هذا المفهوم في فرنسا كانت غيرها التي اثرت في نشوئه في ألمانيا او في اليابان، الخ...
وعليه، فإن الإطار التاريخي هو الأهم في تحديد المفهوم المشار إليه من ناحية، وفي إثارة المشاعر الوطنية لأمة من الأمم من ناحية اخرى. وبينما لم يعط الحصري الدين اهمية ذات شأن في الفكرة العربية فإنه اعتبره من اهم العناصر التي أسهمت في تقوية الفكرة الوطنية العثمانية. ولا بد من الإشارة الى ان "عثمانية" الحصري كانت مهتمة بالإبقاء على عوامل اللحمة في الامبراطورية العثمانية. وهو لذلك، كان يعتبر ان ايديولوجية حزب "الاتحاد والترقي" كانت ايديولوجية عثمانية، بينما لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لإيديولوجية الأحزاب او الفرق القومية التركية الخالصة التي كان يعبر عن ايديولوجيتها ضياكوك ألب، التي يمكن وصفها ايضاً بالطورانية.
ويبدو ان الحصري تأثر، عند تحديده لمقومات الوطنية او القومية العثمانية بنظرية الفيلسوف الفرنسي ارنست رينان. لذلك، فهو يرفض آراء انصار "التتريك" الذين كانوا يؤمنون بأن إقامة "قومية تركية عصرية" مؤلفة من رعايا الامبراطورية العثمانية المتعددة الأعراق يتوقف على الإيمان بنظرية "الأمة - اللغة" التي قال بها الفيلسوف الألماني فيخته.
وقبل تقديم نص الحصري هنا، لا بد من الإشارة الى النقاط التالية:
اولاً- الحصري يستخدم مفهوم "الوطنية" اكثر من مفهوم "القومية" في نصوص المرحلة العثمانية إلا انه يعتبرهما في النهاية شيئاً واحداً، وإن كان قد عرّفهما بصورة منفصلة. ويمكن الرجوع هنا الى ما قاله في عنوان "الوطنية والقومية" في بغداد في العشرينات: "الوطنية والقومية من اهم النزعات الاجتماعية التي تربط الفرد البشري بالجماعات وتجعله يحبها ويفتخر بها ويعمل من اجلها ويضحي في سبيلها. ومن المعلوم ان الوطنية هي حب الوطن، والشعور بارتباط باطني نحوه، والقومية هي حب الأمة، والشعور بارتباط نحوها. والوطن - من حيث الأساس - إنما هو قطعة من الأرض، والأمة - في حقيقة الأمر - انما هي جماعة من البشر. نستطيع ان نقول - بناء على ذلك - ان الوطنية: هي ارتباط الفرد بقطعة من الأرض تعرف باسم الوطن، والقومية هي ارتباط الفرد بجماعة من البشر تعرف باسم الأمة. ولكن، مما تجب ملاحظته في هذا الصدد ان مفهوم الوطنية لا يختلف - في الحقيقة - عن مفهوم القومية كل هذا الاختلاف ذلك لأن حب الوطن يتضمن - بطبيعته - حب المواطنين الذين ينتمون الى ذلك الوطن، كما ان حب الأمة يتضمن - في الوقت نفسه - حب الأرض التي تعيش عليها تلك الأمة. ولهذا السبب يتقارب مفهوم الوطنية من مفهوم القومية تقارباً كبيراً".
ثانياً: رفض الحصري المفهوم الألماني للقومية القائم على اللغة والأرض في مرحلته العثمانية قائلاً ان العثمانيين ليسوا في مرحلة بناء امة لأن لديهم امة مستقلة قائمة بالفعل.
ثالثاً: اختلف الحصري مع المفكرين العثمانيين الذين كانوا يتفقون مع بعض المفكرين الأوروبيين بأن الإسلام هو سبب تخلف الامبراطورية العثمانية. وكتب ان الإسلام دين ولد في اكثر القبائل بدائية في آسيا وأصبح مدنية عظيمة في فترة تاريخية وجيزة. واعتبر ان سبب تخلف الامبراطورية العثمانية لا يرجع الى الإسلام بل الى نظام التعليم البالي قائلاً: "إن الذين يعتقدون ان الإسلام عقبة امام التقدم يشيرون الى ان الإيمان بالقضاء والقدر متجذراً بالإسلام فقط ولكن في كل الأديان التوحيدية... ان الإسلام يقبل بالقدر، لكنه يأمر المسلمين باستخدام "قوة الإرادة والجهاد"... فالكسل المتفشي بيننا ليس نتيجة للإسلام، بل هو نتيجة للعادات السيئة والجهل".
رابعاً: استخدم الحصري حججاً تاريخية للرد على اولئك الذين كانوا يعتقدون بأن العنصر التركي هو العقبة امام تقدم الامبراطورية العثمانية قائلاً بصورة معادية للعنصرية القائمة على الجنس والدم المشترك: "ان الاعتقاد بأن الأتراك لم يخدموا الحضارة هو خاطئ. فالحضارة الإسلامية ليست حضارة العرب فحسب، فهناك الكثير من الأتراك بين العلماء المسلمين، فابن سينا والفارابي كانا تركيين. كما كانت بخارى مركزاً للحضارة الإسلامية في وقت من الأوقات. والهنغاريون والأتراك هم من نفس الجنس ولا نستطيع ان نعتبر ان الهنغار متخلفون عن الأوروبيين".
خامساً: شدد الحصري على اهمية التربية الوطنية. ففي خطاب ألقاه في دار الفنون أو جامعة اسطنبول في 25 شباط 1328ه. مالية 1912 ميلادية ذكر ان الوطن يتكون من عنصرين: الجسم والروح. وهنا يقترح ان يجرى تعميق حب الوطن في نفوس اطفاله وأول شرط للحب هو المعرفة. "فمن اجل ان نحب الوطن علينا معرفته. اما العلم الذي يُعرّف الجسم، وهو الإطار الجسدي للوطن، فهو الجغرافيا بينما يشكل التاريخ العلم الذي يُعرف الإطار الروحي للوطن. لذلك يتوجب الاعتراف بهذين العلمين كأهم وسائل التربية الوطنية".
سادساً: في خطاب القاه الحصري في جامع اسطنبول في 8 مارت 1329ه مالية 1913 ميلادية تحدث عن اثر خطب فيخته الى الأمة الألمانية وكيف أسهمت هذه الخطب في يقظة الروح الوطنية الألمانية. كما يكرر اهمية دور التعليم في انقاذ الشعب الألماني من وضعه البائس بعد احتلال فرنسا لدويلاتها في بداية القرن التاسع عشر. ويقول: "كما ترون، فإن افكار فيخته عن الشعب الألماني قبل اكثر من قرن يمكن تطبيقها اليوم على العثمانيين". وينهي الحصري كلامه حول هذه النقطة مشيراً الى "ان فيخته كان يقول انه إذا سقط الشعب الألماني، فإن كل الإنسانية تسقط". وهذا ليس صحيحاً بالطبع... ولكن إذا سقطنا نحن العثمانيون، فإن كل العالم الشرقي والعالم الإسلامي سيقضى عليه معنا... لهذا السبب، فإنني أقول مُدخلاً بعض التغيير الى عبارة فيخته: إن كلّ العالم الشرقي وكل العالم الإسلامي بالإضافة الى اجدادنا القدماء، كل هؤلاء يتوسلون إلينا اليوم قائلين: "هيا، استيقظوا وأنقذونا!".
في ما يلي النص الكامل لكلمة ساطع الحصري "في سبيل الوطن" مترجمة عن التركية، وكان ألقاها في دار الفنون في اسطنبول عام 1912:
إن الاحداث والنواكب الأليمة والمفجعة التي مرت علينا منذ زمن بلغت حالة ودرجة من البديهية لا تسمح بوجود اي شبهة عن حقيقتها، حيث أظهرت لكل شخص، ونحن ايضاً، الى أي مدى هناك ضعف وتخاذل في حب الوطن، وان التفكير في الوطن أصبح أمراً غير واضح.
لذا، فنحن اليوم امام حالة تستوجب على كل عثماني ان يضع في أولوياته - دون أدنى شك - التفكير في الوطن وحب الوطن الموجود في عقله وفي ذهنه، ثم العمل على توضيح هذا الحب، وترسيخه ونشره بين اصدقائه، وإخوانه، ومواطنيه، وأولاده ورفاقه، وزوجاته، بدرجة قوية وواضحة.
من أجل تحقيق هذا الهدف، أي فهم الوطن وتفهيمه، حبه وتحبيبه، يلزم القيام بهذا الجهد وقت الأزمات والكوارث، وليس في أوقات اخرى، ذلك ان المصائب تولد نوعاً من حالة اليقظة والاستنفار العظيم، وتتوفر معها قيم تربوية على درجة كبيرة من الاهمية. تلك القيم تخاطب مشاعر الانسان وقلبه، وتظهر الميول العاطفية القوية الموجودة لديه، وتسهّل مسألة إلهاب وإشعال تلك الأحاسيس والمشاعر، وتعطي لها القوة والحركة والحيوية.
هذا الامر يشدّ انتباهنا جميعاً، خصوصاً مع وجوده وتوفره - دون شك - في محيط حب العائلة، حيث يمكن ملاحظة هذا، وكيف يزيد ويتجلى في شكل كبير وقت الازمات الصحية حين يتعرض احد أفراد العائلة، وبتعبير أكثر وضوحاً، حين يكون الامر متعلقاً بالأم أو الأب. فنجد ان هؤلاء الذين قد اعتادوا على عدم الحس أو الشعور بما يدور حولهم من امراض ومرضى ومصائب فإنهم حين يرون مصائبنا تتأثر قلوبهم. في مثل تلك الاحوال والاثناء يكون من السهل على هؤلاء ان يتذكروا ويدركوا بحيث نجدهم يتأثرون بسهولة في ما يتعلق بواجباتهم. فهؤلاء الذين اعتادوا عدم الاصغاء لنصائح الامهات والآباء ويسببون لهم التكدير والازعاج، فإنهم يعودون الى رشدهم حين يرون المرض، ويتأثرون في شكل عميق - نسبياً - أمام المخاطر والمهالك التي تقع امامهم وتسبب الآلام والقلق والاضطراب.
أما عن حب الوطن فإنه يكون على هذا النحو الكامل: ان تزداد قوة محبته امام اي مخاطر يتعرّض لها الوطن، وان يشعر هؤلاء الذين تعوّدوا على السلبية في الاوقات العادية، بحمية وغليان في المشاعر - قليلة أو كثيرة - في مثل تلك الاوقات، وان يتأثروا بسرعة امام اي تلقين وحث سيقدم لهم متعلقاً بحب الوطن والوطنية.
هكذا، يلزم الاستفادة السريعة من هذا التأثير وتلك المشاعر المقوية الناتجة عن المخاطر والنواكب، كما يلزم علينا ان نسعى الى توطيد وترسيخ مفهوم الوطنية من حولنا.
اذاً، ما الذي يجب عمله، وكيف تكون الوسيلة اللازمة لتحقيق هذا؟ وما هي الوسائل التربوية أو أنواعها التي يجب ان تستخدم في تعزيز وتقوية مفاهيم حب الوطن والوطنية؟
من جهتي، فإنني أعمل على ايضاح وشرح ما يتعلق بدراسة ومراجعة مثل هذه الأمور والمسائل. كما تعلمون، اذاً أريد تحديد أصول وطرق زراعة نبات معيّن، يلزم في البداية، وكما يقتضي الامر، ان يدرس ويفهم هذا النبات. هكذا يسرى الأمر كذلك في الوطنية حيث يستلزم الأمر تحديد ودراسة أصول وقواعد ترسيخ وتنمية الوطنية، ايضاً في سبيل تحديد ودراسة هذا الحب يلزم إلقاء الضوء على هذا الشيء وشرح كيفية تنمية وتوسيع جوانبه.
لأجل هذا، فإنني اليوم، سألقي الضوء متحدثاً عن معنى ومنشأ حب الوطن. ان الوطنية من كلمة تعني الحس والسجية. ومن السهل تعريف معنى الحس والسجية هذين، فالوطنية هي ان يظل المرء مرتبطاً ومتأثراً بحب وطنه، وان يعمل على رفعة وإعلاء شأن هذا الوطن مادياً ومعنوياً، وان يتأثر بنجاحات وإخفاقات الوطن ويكون لديه درجة من هذا الاحاس، حيث لو كان هناك شيء ناقص أو غائب عن كليات وحيثيات ذاك الوطن يقع اضطراب لديه والعكس صحيح كذلك. فلو أضيف شيء الى كليات وحيثيات ذاك الوطن يعيش حالة من السرور والغبطة. اخيراً، فإنه من أجل الدفاع وزيادة قيمة الوطن والحفاظ على ترابه، يجب العمل باخلاص وبذلك العطاء والتضحية في سبيله.
ولكن ما هو المعنى المقصود من كلمة الوطن التي سبق ذكرها في التعريف السابق؟ ما هو معنى الوطن؟ ان الإجابة القاطعة والشافية على هذا السؤال ليست بهذا القدر من السهولة، بخاصة وانه حين يتم دراسة وتحديد هذا الامر، نرى ان المعاني التي تعطى لكلمة الوطن والعناصر التي أدخلت على مفهوم الوطن، تتغير وتتبدل من دولة الى دولة أخرى وحتى داخل الدولة الواحدة بعينها، ومن عصر الى عصر آخر.
اما من جهة المفهوم، فهناك كلمتان أخريان أكثر دقة وعلاقة بمفهوم كلمة الوطن، هما "الشعب والدولة"، فإذا نظرنا الى المفاهيم أو الكلمات الثلاث التي سبق عرضها، نلاحظ انها تتخذ معاني مختلفة في الدول وعبر العصور والأزمنة، بخاصة ما يتعلق بحدودها ومفاهيمها. ففي أوروبا - قبل حوالى قرن ونصف من الزمان - كان مفهوم الدولة والوطن، كما سبق وذكرنا، هو ان الدولة تعني الحاكم، ولذا فقد كانت الوطنية هي الدفاع عن ملك وشأن وشرف الحاكم، وان تقدم الاموال والأرواح فداء للدفاع عن اي اعتداء يقع على الملك وشأن وشرف الحاكم،. ولم يكن هناك آنذاك شيء غير ذلك. ومن ثم، نجد ان الأمة التابعة لحاكم مستقل لو انتقلت مقاليد الحكم والسلطان الى شخص وحاكم آخر بعد فترة زمنية بموجب الإرث نجد انه كان يعد من مقتضيات الوطنية ان تخدم وتتبع ذلك الحاكم.
لقد كان شأن وأمر الحكام في الماضي أنهم "وكلاء وظل الله على الأرض". هذه القناعة قد زالت وحل محلها "ان الشعب هو مصدر السلطة والحكم" ومع وجود هذا الفكر وهذه القناعة، فإن هذا النوع من التلقين والحث قد زال هو الآخر وجاءت مكانه مجموعة أخرى من القناعات والتلقين الفكري.
ففي ألمانيا ومنذ بدايات القرن التاسع عشر، ظهر نوع جديد من التلقين الفكري يتمثل في ان الوطن والأرض والجنس هم عبارة عن مجموعة وهيئة واحدة، اما العرق فهو اللغة. ومن هنا فقد اعتبر كل من يتحدث ويتكلم الألمانية هو مواطن ألماني. وحتى لو كانت المناطق نائية وتخلو من البشر كانت تعدّ ]جزءاً من[ الوطن.
في اطار هذا التوجه، قال الألمان بأن منطقة "الألزاس" الواقعة خلف نهر الراين هي جزء من الأصل وعضو مكمل له. هذا التوجه أدى الى جعل هذا المكان "بعيداً عن سيطرة فرنسا"، رغم كونه تحت الاحتلال، وكانوا قد اعتبروا ان الجزء أو القسم الذي كان تحت الإدارة والحكم الفرنسيين يعدّ وطناً ألمانياً.
بموجب هذا المفهوم الألماني، تستطيعون أيها السادة، ان تخمنوا ما هي النتيجة المنتظرة في ما يتعلق ب"الألزاس". لكن أسلوب وطريقة تلقين الفرنسيين نفس الموضوع كان على درجة كبيرة من التباين والاختلاف حيث كان مفهوم الوطن عند هؤلاء، ينحصر أولاً في التاريخ والارادة والهدف، والرغبة في العيش، والتواجد معاً، وان المواطنة أهم كثيراً من عاملي الدم واللغة، وان منطقة الألزاس هي جزء من فرنسا تاريخياً، وسكانها قد شاركوا - رغم تحدثهم اللغة الألمانية - في الانتصارات التاريخية لفرنسا، كما ان ضم الألزاس لألمانيا ليس نوعاً من التحرير لها، وإنما هو غصب واحتلال.
أيها السادة، بإمكانكم إدراك وتأمل الفوارق المعاكسة والصريحة والاختلافات البينة بين وجهات نظر كل من الألمان والفرنسيين في ما يتعلق بمفهوم الوطن.
حين ظهور مفهوم الوطنية الجديد في ألمانيا، لم تكن هناك دولة متماسكة وقوية كما هو معروف الآن، وإنما الموقف كان عبارة عن وجود أكثر من مئة دولة صغيرة دويلات، ولم يكن هناك آنذاك أي رابطة بين السكان غير اللغة، ولهذا السبب فإن أفكار ومفاهيم الوطنية لدى الألمان... كانت ستعتمد وتستند على تلك الرابطة وحدها دون غيرها. أما بالنسبة لفرنسا، ففي ذلك الوقت، كانت هناك دولة كبيرة وعظيمة لها تاريخ واعتبار طويل الأمد، تلك الدولة قد وقعت كثيراً تحت أيادي العديد من المحتلين والغرباء. لهذا السبب، نجد ان مفاهيم الوطنية لدى الفرنسيين بالتأكيد، كانت ستعتمد وتستند بالدرجة الأولى على التاريخ القديم والحديث في سبيل دوام وإعلاء هذه الدولة.
على هذا الشكل، في الوقت الذي كان الألمان يسعون الى إنشاء دولة جديدة، بغض النظر عن الحدود التاريخية، كان الفرنسيون على العكس من ذلك، يستندون على تلك الحدود التاريخية التي أقيمت من قبل غيرهم، في سبيل اعادة ظهور تلك الدولة ورفع شأنها واستمرارها. ويمكن القول، بأنه في فرنسا تسبب عاملا الدولة والتاريخ في ظهور شعب، أما في المانيا فقد صنع الشعب الدولة والتاريخ. وبناءً على ذلك، يمكن القول بأن الشعب الفرنسي قد اعتمد واستند كثيراً على مفهوم التاريخ والدولة، بينما استند الألمان على مفهوم اللغة والشعب.
حين نلقي النظر على دولة سويسرا، وهي جارة لكل من الفرنسيين والألمان، نجد أنها تعتمد مفهوماً آخر مغايراً في ما يتعلق بالوطن. ففي سويسرا يوجد عدد من الدويلات الصغيرة يتراوح عددها في حدود 25 دويلة ذات حكم ذاتي. هذه الدويلات والتجمعات البشرية الصغيرة لا يوجد بين سكانها أي نوع من الوحدة اللهم إلا الجنس واللغة المشتركة. ففي الوقت الذي توجد في سويسرا لغات مثل الفرنسية والألمانية والايطالية، هناك أيضاً لغات أخرى مختلفة في داخل الدويلات المختلطة بالعناصر البشرية. ومع مراعاة عدم وجود أي عامل مشترك عام من ناحية التاريخ في ما بين تلك الدويلات، وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن معظم السويسريين يعيشون حالة قوية من شعور وحس المواطنة. وأن لكل سويسري وطنين: أح هذين الوطنين يرجع الى الدويلة والآخر يرتبط بالدولة السويسرية. في البداية تأتي درجة الدويلة لدى كل سويسري، ثم يأتي حب الاتحاد وهيئته والذي هو موجود داخل الدويلة وكل دويلة. وما يسري على الدويلة من حب ورفعة شأن وشرف يسري أيضاً على الدولة السويسرية. ولا يوجد أي فرق بين العمل لأجل بقاء وإعلاء الدويلة أو سويسرا ذاتها.
وإذا خرجنا من إطار أوروبا واتجهنا نحو اليابان، فإننا نرى نوعاً آخر من المواطنة. وكما هو معروف لديكم، فإن اليابانيين قد أظهروا نوعاً قوياً من الوطنية ولأقصى الدرجات خلال معركة "مانجوري". وقبل وقوع المعركة المذكورة فإن كثيراً من الضباط ذوي الرتب الصغيرة والكبيرة - لكي يصلوا الى كفاءة الجيش الروسي - كانوا قد قضوا سنوات عديدة في الخدمة والتدريب، ولذا فإنهم خلال الحرب كانوا قد أظهروا نوعاً من الفداء والتضحية بالنفس، سواء عند الضباط أو عند الجنود، من الصعب رؤية مثيله حتى في أوروبا. كما انهم قدموا كل ما يملكون من ثروة وقوة، وكان الشعب أولهم بالطبع، في سبيل تقوية وإعلاء الجيش والأسطول.
هكذا، كما رأينا ما قام به اليابانيون من اظهار نوع من الوطنية العالية والفريدة، فإن هذا أيضاً يبين أن هناك نوعاً خاصاً من أسلوب التلقين اللافت للنظر بخصوص فكرة الوطن.
فطبقاً لأسس التلقين والاعتقاد الموجودة عند الشعب، فإنه يرى نفسه عبارة عن مجموعة أفراد تنتمي الى عائلة كبيرة واحدة، وأن الميكادو هو رئيس هذه العائلة. وأن أرواح الأجداد هي من المقدسات ذات الاحترام. كما أن الحاكم أو رئيس العائلة قد جاء من نسل وسلالة إلهية، وأن تعليمات وأوامر الميكادو الحاكم تستند وتعتمد بالدرجة الأولى على وصايا ولوائح تركها الأجداد العظام. من هنا، فهي واجبة الاتباع. وكأنها مثل كتب التاريخ المقدسة. وأن الامبراطور مقدس لأنه من نسل الأجداد المقدسين، وأنه مع غيره، يقومون بتنفيذ الأوامر والإرشادات والنصائح بشكل فعلي.
طبقاً لما ورد في اللائحة التي نشرت من أجل تحديد وتعيين أسس التربية العامة، وهي لائحة أعدت من قبل الميكادو: "إذا اقتضت الضرورة والأحوال ذات يوم عليك أن تقدم حياتك بكل شجاعة من أجل الدولة، وفي سبيل إعلاء ورفعة شأن عرش الامبراطور والدفاع عنه". وفي نفس اللائحة أو الوصية عبارة تقول: "هذه هي الوصية التي تركها لنا أجدادنا، ومن الضرورة اتباع الامبراطور وأحفاده". وبهذه العبارة الأخيرة تختتم فقرات الوصية المشار اليها. أي أن أساس الوطنية عند اليابانيين: الارتباط وحب أفراد العائلة واحترامهم، وبخاصة الارتباط والإخلاص للعرش وللحاكم الذي يعدّ من المقدسات.
في الواقع، ومن البديهي، فإن مثل هذه الوطنية لا تعد نوعاً من الهوس، بل ان اليابانيين يعطون للوطنية قدراً من الشعور والفكر الروحي الخاص. في اليابان فإن كل منطقة الشرق الأقصى وكل آسيا هي عبارة عن وطن، وأن كل الأسيويين وكل الشعوب الصفراء يعدون مواطنين، ومن مقتضيات الوطنية أن يتم الدفاع عن آسيا وعن كل النوع الأصفر البشري من عدوان الجنس الأبيض. وقبل عامين، تم تعميم منشور من قبل وزارة التعليم اليابانية على جميع المكتبات العامة، مفاده: "ضرورة الاحترام والاعتناء الكامل بالمعابد والمحافل القديمة الخاصة بالأجداد، في سبيل تعزيز وتقوية مشاعر الحب والارتباط بالعائلة وبالحاكم". وفي هذه السنة، وفي اليوم الذي ستجرى فيه مراسم جنازة الميكادو، حيث كان البطل القومي "نوكو" قد انتحر في معركة بيرل هاربور الشهيرة معركة حدثت قبل الحرب العالمية الأولى، وليس المعركة الشهيرة في الحرب العالمية الثانية - المحرر. ومع انتحار نوكو، فإنه قد أظهر الى أي مدى كان مرتبطاً بالميكادو من ناحية، وبالتضحية لأجل استمرارية العرف الخاص ب"الارتباط واحترام عرش الامبراطور" من ناحية أخرى...
أما حين نتجه نحو بلاد أخرى غير اليابان، بخاصة، حين تكون أميركا في طرف وروسيا في الطرف الآخر، فإننا نطالع مجموعة أخرى من المفاهيم والخصائص المتعلقة بالوطنية. إلا أنني أظن بأنه لم يعد هناك حاجة الى عرض أمثلة أخرى في هذا الصدد. ذلك أن النماذج أو الأمثلة الأربعة المشار اليها قد أظهرت الى أي مدى يتغير شكل ومعنى الوطنية بشكل واضح من دولة الى دولة أخرى.
هذه الحقيقة اللافتة للنظر، تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لنا، وما دام هناك معنىً مطلق للوطن، إلا انه ليس هناك معنى أو شكل ثابت للوطنية. وما دام هذا المعنى وهذا الشكل يتغيران من دولة الى دولة أخرى ومن عصر الى عصر آخر، فإنه في هذه الحالة، يلزم علينا عدم الالتزام باتخاذ أو الامتثال لنموذج دولة أياً كانت، دون أن نمعن الفكر في هذا الأمر من كل جانب، بل ما يجب علينا عمله، هو عدم الإسراع في قبول معنى ومفهوم أعطي للوطن في دولة ما، دون التأمل والتفكير فيه، وألا نعمل على جلب هذا النموذج لواقعنا طبقاً للمعنى الذي أعطي للوطنية هناك، لأن هذا يكون خطأً كبيراً، وربما يكون خطراً كذلك على الوطن. إن الأمر يتطلب عدم الوقوع في هذا الخطأ، ولكي يمكن تجنب الوقوع فيه، علينا أن نفكر وندرس كل الجوانب جيداً. فيلزم، أولاً، التفكير في نوع العناصر التي يتكون منها مفهوم الوطن وفكر الوطنية، ونقوم بدراسة عميقة محيطة بكل العناصر ونحدد أيّهم أكثر أهمية وضرورة، ثم نفكر في أي العناصر اللازمة لتكوين وتشكيل هذا الفكر وهذا الحس والتي تتوافق وتتطابق مع أحوالنا وظروفنا. بعد ذلك نستطيع ان نحدد ونكون وطنيين.
* أستاذ التاريخ العربي الحديث في جامعة البلمند-لبنان
غداً حلقة ثانية أخيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.