تشهد الساحة النقدية منذ سنوات عدة محاولات نشطة لإعادة اكتشاف التراث النثري بعد أن احتل الشعر دائماً مقدم المشهد التراثي. ولعل أقدم جملة في أدبياتنا النقدية هي تلك الجملة الشهيرة "الشعر ديوان العرب". قد يكون السبب الواضح هو قوة الشفاهية المعروفة في الثقافة العربية. إلا أن تثمين النثر - أو بالأحرى عدم تثمينه - يظل إحدى علامات الاستفهام المهمة في التراث النقدي لم يتم فقط اعتبار النثر الفني أدباً من الدرجة الثانية، بل لم يتم اعتباره أدباً على الإطلاق في أحوال كثيرة. والأسوأ أنه كان شبه ملعون كنشاط إنساني. ولعل ما يزيدنا دهشة هو تذكر آيات القرآن التي تنزه الرسول عليه الصلاة والسلام عن قول الشعر: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" والساخرة من الشعراء: "ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون". وفي المقابل كان القصص القرآني الثري: "نحن نقص عليك أحسن القصص". لماذا إذاً نقرأ أن "الرسول عليه السلام كان يرى القصة علماً لا يضر الجهل به، ويتردد صدى المقولة نفسها عند الخلفاء الراشدين حتى إن علياً بن أبي طالب طرد من المسجد الجامع بالبصرة كل القاصين؟ وبتهمة الكذب كانت تتم مطاردة القاصين من الأسواق والمساجد مصحوبين بلعنات الفقهاء، بينما قيل دائماً "إن أعذب الشعر أكذبه"! هكذا ترعرعت القصة في الأدب الشعبي بينما انكمشت في الأدب الرسمي الى حد الخبر والحكاية التاريخية التي لا تستدعي مواكبة نقدية. ويعود التساؤل عن سبب هذا الإهمال المتعمد بل والمحاربة المعلنة للنثر القصصي عبر التراث. ان تقويم أدب المكاتبات والرسائل يؤكد أن المسألة ليست تقديساً للشعر وكراهية للنثر - ولا ننسى أن أجزاء كثيرة من السير الشعبية التي أهملها النقاد كانت تتلى شعراً على المستمعين. وهو ما يشير ايضاً الى أن شفاهية الثقافة كانت فاعلة حتى في ثنايا النثر. لكن اذا حاولنا استحضار هؤلاء العقلاء الذين قاوموا القصص وعايشنا عصرهم ربما وجدنا لهم العذر! ليس فقط لأن الثقافة النقدية وقتها كانت تلتمس جلال اللغة كشرط أولي للأدب - وهو شرط أهملته القصة مكتفية بلغة البسطاء، ولكن لأن هؤلاء الفقهاء والنقاد في محاولاتهم المبكرة لتمييز ما هو علم وما هو دين وما هو تاريخ وما هو خرافة رأوا في النثر القصصي - ألف ليلة وليلة مثلاً - منافساً خطراً على عقول الجماهير التي يتطلعون الى تنويرها - بما يرونه نوراً - بينما تحب هي اللهو مع الجن والعفاريت وبحار الظلمات وجبل المغناطيس. إن إلحاح الفقهاء في إعلان "كذب" هذه القصص انما يعني ببساطة انها كانت تستقبل من جمهور السامعين على أنها أحداث "حقيقية"، أي أن القصة وقتها - في ذهن العامة على الأقل - لم تكن مجرد وسيلة ترفيه بل وسيلة معرفة وهي حقيقة واضحة لو تذكرنا أن روايات التاريخ وحكايات الانبياء وقتها كانت أيضاً قصصاً. إزاء هذا التنافس القصصي على العقل كانت تتم مهاجمة هذه القصص التي تخلب العقل وتجذبه الى ساحات الخيال. بينما كان الشعر دائماً واضحاً ككيان فني بحكم الوزن على الأقل وكانت خرافاته وأكاذيبه من الوضوح بحيث لا يحتاج الأمر الى إعلان كذبه. فضلاً عن ذلك كان الشاعر هناك - حياً أو ميتاً - تنسب اليه القصيدة وينقد عليها. أما القصة، تلك الحكاية المجهولة المصدر التي تبدأ بأنه كان في قديم الزمان أو في بلاد التركستان فلا يمكن أبداً القطع بحدوثها أو عدم حدوثها. وفي عصرنا الجاري ما زال المثقفون يعلنون سخطهم على الدراما التلفزيونية التي تشغل عقل البسطاء وما زال بعض الممثلين يتعرض لمضايقات من الجمهور إذا قام بأدوار الشر. فوهم القصة يفرض نفسه ويخترق الوعي عبر الخيال. ولم تكن فرجينيا وولف تبالغ حين قالت إننا نتألم مع شخصيات تولستوي أكثر من تألمنا لخبر وفاة أشخاص حقيقيين نقرأ عنهم في الصحف. ذلك أن شخصيات تولستوي هي في الواقع أكثر حقيقة لنا، فنحن نعرف عنها كل شيء تقريباً. ذلك الحضور الطاغي للقصة كجزء أساس من بنية الوعي الانساني هو إذاً سر مشكلة التراث النقدي مع القصة. نحن نحيا في عالم من القصص المتقاطعة التي تحتوي حكايات أصغر فأصغر - تماماً مثل ألف ليلة وليلة - وكل حدث صغير يمر بنا هو جزء من قصة أكبر. وكل هذه الصراعات حولنا من اجل لعب دور أهم داخل قصة التاريخ. وإذا كان الفقهاء والنقاد من أجدادنا أرادوا قصر القصة على ما حدث فعلاً، فإن أجدادنا البسطاء كانوا أكثر عمقاً وحصافة حين تمسكوا بعنصر الخيال في مواجهة واقع شعبي قاتم. والقصة لا تزال مستمرة.