درجت العادة أن يُطلق بعض صحافيي العالم العربي اسماء العواصم على دورياتهم. لذلك لم يجد السياسي البيروتي محيي الدين النصولي أنسب من "بيروت" اسماً لجريدته التي أصدرها في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. وكذلك فعل الدمشقي الشهير أحمد عزت العابد عندما سمّى الجريدة التي أصدرها في العام 1878 باسم عاصمة الأمويين. وكان سليم ابن أحمد فارس الشدياق أول صحافيي القاهرة الذين أطلقوا اسم "القاهرة" على دورياتهم، عندما أصدر قاهرته في 23 تشرين الثاني نوفمبر 1885. وقد لا نبالغ إذا قلنا ان اسم كل عاصمة عربية غدا اسماً لصحيفة منذ ان شهدت عواصم العالم العربي ظهور الدوريات، وبعضها ما زال يصدر حتى اللحظة كما هو حال صحيفة "الرياض" في المملكة العربية السعودية. بل ان الكثير من الدوريات سمّيت بأسماء غير العواصم من مدن وبلدات وقرى كما هو حال مجلة "قب الياس" التي أصدرها رزق الله حلبي عام 1936 في قب الياس وهي قرية صغيرة في محافظة البقاع في لبنان. ولكن اسم عاصمة فلسطين "القدس" توّج ترويسة اكثر من صحيفة فلسطينية مقدسية بدءاً من "القدس الشريف" الرسمية التي أصدرتها الحكومة العثمانية في العام 1876 وتولّى تحرير القسم العربي فيها الشيخ علي الريماوي، ثم كرّت السبّحة... فأصدر بندلي مشحور "بيت المقدس" في 1919، وحسن صدقي الدجاني "القدس الشريف" في 1920، والقس كاتلنغ "القدس الجديدة" في 1922، وهيئة الإذاعة الفلسطينية "هنا القدس" في 1940. وإذا كان لكل دورية نكهتها، فإن جريدة "القدس" لصاحبها جرجي حنانيا، التي ظهر عددها الأول في القدس في 5 أيلول سبتمبر 1908، تتميّز بنكهة كواكبيّة إذ تعيد افتتاحية عددها الأول الى الأذهان ما كتبه عبدالرحمن الكواكبي، خصوصاً في افتتاحية العدد الثالث من جريدته "الشهباء" حول معاناته من حكومة الاستبداد قبل حصوله على رخصة اصدار جريدته. فلنتوقف طويلاً أمام افتتاحية العدد الأول من "القدس" التي احتلت كامل الصفحة الأولى ونصف الصفحة الثانية حيث يخبرنا وقائع رحلته الشاقة الماراتونية التي يمكن تلخيصها بأن "القدس" كانت بقيت حلماً لو لم يأفل نجم السلطان عبدالحميد في صيف 1908، ويعاد الاعتبار للدستور العثماني. استهل الكاتب الافتتاحية بحمدالله "على تداركه الأمة بعنايته ولطفه قبل أن يستعزّ الداء ويعزّ الدواء". ودعا الى الانحناء أمام الوطنيين المجاهدين الذين مهّدوا لانتفاضة الأمة وبزوغ فجر "حريتها ومساواتها وإخائها" التي هي شعارات الثورة الفرنسية. أضاف بما يمكن اعتباره بيت القصيد: "لما كانت بلدتنا القدس متعطشة الى العلوم والمعارف التي نضب معينها منذ أجيال طوال، وكانت هذه لا تنشر وتعمم إلا بواسطة المطابع، وكانت كل مطابع القدس دينية محضة تشتغل كل واحدة لطائفتها، مست الحاجة الى تأسيس مطبعة تزرع بذار الاخاء وتعامل الجميع على السواء، غايتها خدمة الوطن. ولكن الأمر كان صعباً لما كان يحول دونه الاستبداد". وبعد سنوات من الخبرة الطباعية في المطابع المتوافرة، "أحضرت آلة صغيرة تحرك بالرجل لطبع الأشياء الصغيرة، وطلبت من أوروبا آلة كبيرة للطبع تدار بالغاز، وأنا أمنّي نفسي بالحصول على امتياز جريدة القدس". متى بدأ صاحبنا في المعاملات الرسمية للحصول على امتياز الجريدة التي أصدرها في صيف 1908؟ "منذ ابتداء 1899 استأذنت من الحكومة المحلية في القدس وطلبت نشر جريدة عربية لأخدم بها الدولة والبلاد لأن لفظة وطن كانت كالصاعقة في مسامع الحكومة الاستبدادية. وإذ فُقد الاستدعاء الأول قدمتُ الثاني ثم الثالث والرابع. وأخيراً دخلت الى مجلس الإدارة قبل التئام بقية أعضائه وقلت لأحد ممثلي الأمة: إذا كانت استدعاءاتنا لا يُعمل بها، وصوتُنا لا تريد الحكومة ان تسمعه، فلماذا فضيلتكم تجلسون في هذا المجلس. وكان هذا العضو ممن يكرهون الاستبداد، فتأثر وقال: اكتب استدعاء آخر... ولكن أبا العلاء المعري أجابني من قبره: لقد اسمعت لو ناديت حياً... ولما رُفع الاستبداد، أكدتُ طلبي للصدارة العظمى ونظارة الداخلية تلغرافياً مستنداً على أوراق معاملتي الملقاة في زوايا النسيان منذ ثمانية أعوام. وإذا بالرخصة قد وردت". وذيّل حنانيا الافتتاحية بكلمتين حول خطة الجريدة وقال ان القدس "عثمانية محضة لا تنتصر الا للحق ولا تتوخى الا خدمة البلاد وخدمة صادقة، ستتعقب آثار الاستبداد وتبحث عن مواطن الضعف وتفتش عن الأدواء". طبعاً، لم يدرك صاحب الجريدة ورئيس تحريرها، أسوة بمعظم زملائه في الولايات العربية التابعة للسلطنة العثمانية، انه قد هرب من الدّب ليقع في الجب. ذلك ان جماعة الاتحاد والترقي لم يكونوا أقل استبداداً من عبدالحميد. من هنا سرّ توقف "القدس" عن الصدور بعد سنوات قليلة. ولم يتمكن حنانيا من اعادة اصدارها الا بعد انتقال فلسطين من النفوذ العثماني الى الانتداب البريطاني. وهو استأنف الاصدار في 26 كانون الأول ديسمبر 1919 ولكن بعد ان اصبح اسم الصحيفة "بيت المقدس". كاتب لبناني *