المستكشف الشهير السير ولفرد ثيسيجر، الذي عبر الربع الخالي مرتين، لا يزال على قيد الحياة ويسكن في جنوب غرب لندن. ملتقاه المفضل كان "نادي الرحالة" في وسط المدينة، وهو عضو ممتاز فيه، لكنه لا يزوره الآن الا نادرا. في 1964 أصدر كتابا بعنوان "عرب الأهوار" كان له تأثير كبير على "المستعربين" في بريطانيا. واعطى الكتاب وصفا متعاطفا رائعا لعرب أهوار جنوبالعراق، مدعوما بصور فوتوغرافية أخّاذة التقطها هناك. من بين ما أثار الاهتمام في الكتاب كان مناقضته للانطباع الشائع عن العرب وتنقلهم الدائم بالجمال عبر الصحاري ذات الجفاف المهلك. وقال ثيسيجر في ذلك الكتاب الشهير: "تاريخ البشرية في العراق بدأ على ضفاف الأهوار". بعد ذلك كان هناك المؤلف غافن يونغ، الذي عاش فترة بين عرب الأهوار، بعدما عرفهم أولا عندما رافق ثيسيجر. وقال: "لم اعد بعدها الى عملي في مكتب الشحن البحري في البصرة". فقد أذهله جمال تلك القرى ببيوتها المصنوعة من القصب المطلي بالطين، القابعة على جزر اصطناعية وسط الممرات المائية المتشابكة المحفوفة بالبردي، حيث انواع لا حصر لها من الطيور - كل ذلك تحت شمس جنوبالعراق الحارقة. وكتب مقالة بعنوان "من هم عرب الأهوار؟" وكان جوابه "انهم يتحدرون من السومريين والبابليين القدماء، وربما كانوا البشر الأقدم في العالم - أبكر بكثير من قدماء المصريين ... وقد اخترعوا الكتابة". نتجت هذه المساحات المائية الشاسعة عن التقاء دجلة والفرات. ولم تكن عادة مناطق مأمونة، لأنها كانت ملجأ للعصاة والخارجين على القانون. ويذكر غافن يونغ أن الملك الآشوري سنحاريب، وهو واحد من الطغاة الذين حفل بهم تاريخ العراق، جال على رأسه جيشه في ارجاء الأهوار مدة خمسة أيام في محاولة فاشلة للعثور على قائد اعلن الثورة عليه. ويضيف يونغ: "في مراحل لاحقة حاولت جيوش أخرى التعامل مع سكان الأهوار، الذين كانوا يغيرون على المناطق المجاورة للنهب ثم يعودون الى الاختفاء في غابات القصب الكثيفة كلما ضاق عليهم الخناق. وتعلم الأتراك ثم الانكليز بعدهم أن الأفضل بكثير ترك الأهوار لشأنها". أثناء الحرب الطويلة بين العراقوايران كان عدد سكان الأهوار ما بين 50 ألف الى 100 ألف نسمة، وبقوا على ولائهم الى العراق. ودار الكثير من القتال في المناطق المائية القريبة من البصرة حيث اختار جنرالات آية الله الخميني خطهم للهجوم. ورغم ان سكان الأهوار كانوا من الشيعة في بلد يسيطر عليه السنة فقد برهنت رابطة الدم على انها اقوى من الرابطة الدينية. ولا شك ان سكان الأهوار تذكروا وقتها الانتصارات العربية السابقة على "العدو الفارسي". ولو كانوا اتخذوا موقفا مغايرا ربما كانت البصرة بيد الايرانيين اليوم! بعد انتصار الحلفاء في حرب الكويت في 1991 انفجرت في الجنوب الشيعي الثورة على سلطة بغداد - وهناك من يلقي بعض المسؤولية عن ذلك على الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش. ورغم انتهاء القتال بعد أسابيع قليلة فقد استمرت عمليات على مستوى منخفض في منطقة الأهوار. وبدأ صدام حسين مشروعه المنظم لتجفيف الأهوار عن طريق تحويل الأنهار وشق القنوات، وتم سحق العصيان تماما أواخر 1994 . لم أكتب في هذا العمود عن عرب الأهوار منذ 1992 . وما دعاني للكتابة الآن كان تقرير صدر في أيار مايو الماضي وأكد اعتمادا على صور فضائية اختفاء نحو 90 في المئة من الأهوار، اذ لم تتجاوز المساحة المتبقية ما بين 1500 الى 2000 كلم مربع. وقال خبراء الأممالمتحدة أن حضارة تعود الى خمسة الاف سنة وبيئة فريدة من الحياة الفطرية على وشك الاندثار. قارن علماء الاممالمتحدة في تقريرهم بين مجموعتين من الصور الفضائية تفصل بينهما عشر سنوات، وجاء في استنتاجهم المحزن ان "السبب المباشر لجفاف الأهوار هو مشاريع التصريف الكبرى ... ورغم ان الهدف من قسم من هذه المشاريع كان معالجة تملح التربة، المشكلة الرئيسية تاريخيا في بيئة العراق، لكن المشاريع توسعت لتصبح نظام تجفيف شامل للأهوار". وقال العلماء أن "الصور الفضائية تقدم أدلة ملموسة على أن أراضي الاهوار الشاسعة سابقا قد جفت وعادت الى التصحر، وهناك مناطق واسعة منها تغطيها قشرة ملحية. وتبين الصور الفضائية ان مناطق محدودة فقط تم استصلاحها للزراعة". ويرى العلماء أن لهذا الوضع نتائج خطيرة على الحياة الفطرية في انحاء العالم، من سيبيريا الى جنوب افريقيا، وان نحو 40 نوعا من الطيور المائية مهدد بالانقراض. وتعاني مصايد الاسماك على الساحل الشمالي للخليج من الآثار السلبية لتجفيف الأهوار. ويعتقد ان كثيرين من سكان الأهوار اضطروا الى المغادرة، وان قسما منهم يسكن في مخيمات للاجئين في ايران، فيما تفرق غيرهم في انحاء العراق. عملية تجفيف الأهوار تمت تحت انظار العالم. لكن القضية لم تنل الكثير من الاهتمام، فقد كانت هناك أولويات اخرى. وها هو الوقت قد فات لوقف أو ارجاع هذه الكارثة التاريخية التي يمكن مقارنتها بجفاف بحر أرال. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو