} للعالم العربي محل في مذكرات الفرنسي هيرفيه بورغ، عبر حضور القضية الفلسطينية في حوارات الفكر والسياسة، ومشاركة عرب فرنكوفونيين في تقريب القضية والنضال من أجل دولة فلسطينية، والإشارة الخاصة هنا الى المصريين بهجت النادي وعادل رفعت اللذين كتبا باسم مستعار هو محمود حسين. نشر هيرفيه بورغ مذكراته اخيراً تحت عنوان "ذاكرة فيل". وبورغ لمن لا يعرفه، كان رئيس المجلس الاعلى للصوتيات والمرئيات في فرنسا، وهو ما يعني في الدول العربية، أو في مصر خصوصاً، اتحاد الاذاعة والتلفزيون، مع فارق مهم، هو أنه في مصر تابع لوزارة الاعلام، أما في فرنسا فهو مجلس مستقل، يصدر بتعيين رئيسه واعضائه قرار من رئيس الجمهورية. قبل ذلك شغل بورغ مناصب: رئيس القناتين الثانية والثالثة في التلفزيون الفرنسي، ورئيس راديو فرنسا الدولي، ومندوب فرنسا في منظمة اليونيسكو، وكان قريباً من الرئيس الفرنسي الراحل الاشتراكي فرانسوا ميتران. لكن بورغ معروف في فرنسا بما هو أهم بالنسبة إلينا، وهو أنه مؤيد للعرب، لذلك اتاح التلفزيون الفرنسي في عهده الفرصة لعرض كثير من البرامج عن العالم العربي وقضاياه من زوايا إيجابية. اعني بالتحديد القنوات الثانية والثالثة والخامسة، لذلك لم يكن غريباً أن يهدي بورغ مذكراته الى اربعة من اصدقائه منهم الكاتب الجزائري كاتب ياسين. عرفت هيرفيه، كما يناديه اصدقاءه، منذ عشر سنوات من طريق صديقيَّ الكاتبين المصريين المقيمين في باريس، بهجت النادي وعادل رفعت، واللذين يشكلان ظاهرة فريدة في عالم الكتابة، إذ أنهما يكتبان معاً باسم مشترك مستعار هو: محمود حسين، وهيرفيه صديق لهما قبلي بسنوات. شكلت مدينة الاسماعيلية، على منتصف قناة السويس، فرصة لتعميق صداقتي ب"هيرفيه"، إذ دعوته ليترأس لجنة تحكيم مهرجان الاسماعيلية الدولي للسينما التسجيلية والقصيرة في إحدى دوراته التي نظمها صندوق التنمية الثقافية عندما كنت اديره، وسعدت بشخصيته المتميزة: محب للحياة، في اعماقه ممثل ساخر، دافئ المشاعر، ومخلص لاصدقائه، لن انسى عندما دعاني لحضور حفلة توديعه في كانون الثاني يناير الماضي لمناسبة انتهاء عمله كرئيس للمجلس الاعلى للاذاعة والتلفزيون في فرنسا. اقيمت الحفلة في الطابق الاخير من مبنى المجلس المطل على نهر السين، وصعد هيرفيه على المنصة ليلقي خطبة الوداع وسط نحو سبعمئة مدعو بينهم وزراء سابقون وحاليون وكثير من نجوم الإعلام الفرنسي، شعرت أنني في عرض مسرحي تمتزج فيه الدموع بالضحكات. وبعدما انهى خطبته المؤثرة الطويلة ظل يطوف بين الحاضرين يتبادل معهم "القفشات" وكلما أتى إلي يسألني: ما رأيك في البوفيه؟ موضحاً أن هذا الطعام من أغلى مكان في باريس، ثم يمد يده الى أي شيء ويقدمه لي، مضيفاً سؤالين آخرين: ما رأيك في المنظر، وما رأيك في نهر السين؟ ونضحك. المهم، يروي هيرفيه بورغ في مذكراته احداث نصف قرن من تاريخ فرنسا، هو النصف الثاني من القرن العشرين كله، عبر المواقع التي شغلها، والاماكن التي عاش فيها، والاحداث التي مرت به، والعلاقات التي اقامها، والناس الذين عرفهم أو صادقهم: من المدرسة العليا للصحافة في مدينة ليل الفرنسية، الى الجزائر وافريقيا، إلى منظمة اليونيسكو، ثم وسائل الإعلام الفرنسية، والمجلس الأعلى للاذاعة والتلفزيون، ويروي أيضاً ذكرياته الخاصة منذ ولد في 2 ايار مايو 1933 في مدينة رين من إقليم بريتاني الفرنسي، وسط عائلة كاثوليكية برجوازية تقليدية. التوآمان محمود حسين لكنني سأترك كل هذا موقتاً لأقف عند الفصل الذي خصصه للكتابة عن الصديقين المشتركين: بهجت النادي وعادل رفعت، والذي عنوانه: "التوأمان محمود حسين" وبذلك اضرب عصفورين بحجر واحد: أن اتحدث مرة واحدة عن الاصدقاء الثلاثة. قبل أن أتناول هذا الفصل، لي ثلاث ملاحظات: 1- لا يملك المرء إلا الدهشة الممزوجة بالإعجاب لظاهرة انسانية استثنائية يشكلها الصديقان المصريان العزيزان ودعت هذه الظاهرة بورغ الى ان يطلق عليهما صفة "التوأمين" على رغم أنهما ليسا شقيقين. فهما لا يعملان إلا معاً ولا يكتبان إلا معا ويوقعان ما يكتبانه باسم واحد، وإذا كان المثل يقول "رب أخ لك لم تلده أمك" فهما اثبتا ايضاً أنه يمكن أن يكون لك توأم "لم تلده أمك". 2- ان بورغ يتحدث عنهما كما لو كان يكتب مذكراتهما وليس مذكراته، وهذا يدل على عمق الصداقة بينهم، ويدعوني ايضاً الى ان ادعوهما لكتابة مذكراتهما بالتفصيل، واعتبار ما كتبه بورغ ترويج للمذكرات الكاملة الآتية. 3- ان بورغ يكشف في هذه المذكرات عن سر المقالة التي كتبها الفيلسوف الفرنسي المعروف جان بول سارتر عن الصراع العربي - الإسرائيلي، ولم تنشر حتى اليوم، لكنه لم يصل الى حد إعادة نشر المقالة أو حتى تلخيصها ربما لم تتوافر لديه، لكنني هنا ادعوهم هو والصديقين الى البحث عنها ونشرها او ترجمتها الى اللغة العربية على الاقل، وذلك لاهميتها بلا شك في دراسة سارتر من جهة وفي ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي من جهة اخرى. انضم بهجت النادي وعادل رفعت، وهما في مقتبل حياتهما الجامعية إلى أحد التنظيمات الماركسية الصغيرة في القاهرة، فاعتقلا في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، وظلا في المعتقلات حتى افرج عنهما نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد زيارة خروتشوف الشهيرة الى مصر العام 1964. فغادرا مصر قاصدين بيكين، لكنهما استقرا في باريس! هناك استقبلهما بيني ليفي الاخ الاصغر لعادل، خريج مدرسة المعلمين العليا، والذي اسس مع سيرج جولي، اصبح في ما بعد رئيس تحرير جريدة "ليبراسيون" الفرنسية الشابة، وآلان غايسمر وآخرين، حركة يسارية بروليتارية باسم مستعار "بيار فيكتور". مرت السنوات والعقود سريعة. نشط بهجت النادي وعادل رفعت بغزارة في ما بين حربين بين العرب وإسرائيل 1967 و1973 درسا في جامعة السوربون ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، وحصلا على الدكتوراه معاً، بالطبع، ونشرا كتابهما الاول، وناضلا مؤيدين لياسر عرفات ومنظمة "فتح". ينشر هيرفيه في مذكراته قصة لم يتحدث بهجت النادي وعادل رفعت عنها أبدا من قبل، حكياها له في مطعمهما اللبناني المفضل في الحي الخامس عشر في باريس، المطعم ذاته الذي يدعوانني إليه كلما ذهبت الى باريس: في بداية السبعينات من القرن العشرين ظهر اتجاه في قلب حركة "فتح" الفلسطينية يميل الى العمل الارهابي في اوروبا، في الوقت نفسه، بدأت حركة "اليسار البروليتاري" منعطفاً نحو العنف على غرار الحركات اليسارية الايطالية والألمانية. اتصل اعضاء في المنظمة الفلسطينية بالصديقين بهجت النادي وعادل رفعت، آملين أن يساعدانهم في ترتيب تعاون مع اليسار الفرنسي، لكنهما اعترضا تماماً، وبعد حادثة ميونيخ تدخلا، حتى في بعض اوساط المثقفين الفرنسيين المعجبين بالارهاب، لتفكيك آليات الأعمال الانتحارية. تواصلت المناقشات بحرارة، فهما لا يفرقان في رفضهما للعنف الاعمى، حتى مع قادة اليسار البروليتاري الذين انتهوا الى ادانة مبدأ العمل الارهابي في فرنسا، فهما يريان ان خروج معركة الفلسطينيين من الاراضي الفلسطينية الى اوروبا هو انحراف لها، لا يعني أي نضال شعبي أو شرعي ضد الاحتلال، وإنما مجرد افعال فردية تقع بين غرباء عن هذا النضال. كان أول كتاب لهما نشراه في باريس في نهاية الستينات من القرن العشرين دراسة مهمة عنوانها "صراع الطبقات في مصر". بسبب هذا الكتاب تعرفا على عدد كبير من المثقفين الفرنسيين، من شارل بتلهايم الى جان بول سارتر، ومن ميشيل فوكو إلى ادغار موران، ومن ريجيس دوبريه إلي الكساندر ادلر. التقى بهجت النادي وعادل رفعت الفيلسوف الوجودي المشهور جان بول سارتر غير مرة. دبر "بيني" الاخ الاصغر لعادل النادي، وكانت علاقته قوية بسارتر، اللقاء الاول لهم العام 1972. يورد هيرفيه بعض ما دار في هذا اللقاء فيقول إنهما تحدثا مع سارتر عن الاوضاع في منطقة الشرق الاوسط، وهما يعلمان مدى تعاطفه مع إسرائيل، وسألاه سؤالاً مباشراً: "إسرائيل تحتل منذ حرب 1967 الجولان وسيناء والضفة الغربية. ورفضت الانسحاب منها، فهل تعتقد أن من حق العرب استرداد حقوقهم بالقوة وتحرير اراضيهم المحتلة حتى لو ادى الامر الى قيام حرب جديدة؟ هل سيكون ذلك مشروعاً لهم؟". على رغم أن السؤال بدا مستفزاً لسارتر الا ان اجابته كانت واضحة وقاطعة: "نعم، للعرب الحق في استرداد اراضيهم المحتلة، نعم لهم الحق في استخدام القوة حتى ولو أدى ذلك الى قيام حرب". ويعلق بورغ على اجابة سارتر متسائلاً: "هل كان يعتقد مثل آخرين كثيرين خلال هذه الفترة، أن العرب ليسوا في حال تجعلهم يشنون حرباً؟" لكن المفاجأة وقعت بعد عام فقط من هذا الحديث، وشن العرب الحرب على إسرائيل، وعبرت الجيوش المصرية سيناء، ونشر سارتر مقالاً في جريدة "ليبراسيون" يدين فيه بشدة الهجوم العربي! وأثار ذلك دهشة بهجت النادي وعادل رفعت، فها هو الذي اقر لهما بحق العرب يدينهم. يضيف هيرفيه ان اسباب هذا التغير المحبط ظلت مجهولة للصديقين، ولم يبذل الصديق بورغ محاولة تذكر لتوضيح السبب أو الاسباب، على رغم مداخلاته الكثيرة على مواقف وافكار الصديقين والاحداث التي مرت بهما، ولم يقل هيرفيه صراحة ان سارتر كان في احد مكوناته ظاهرة اعلامية، وان هذا الجانب كان سيخسر كثيراً لو دان إسرائيل أو أيد العرب علناً. مقالة سارتر الضائعة هيرفيه يؤكد هذا بشكل غير مباشر، عندما يقص بعد ذلك مباشرة قصة المقالة التي لم تنشر لسارتر حتى اليوم: زار سارتر وبيني إسرائيل، وتجولا في الاراضي الفلسطينية المحتلة وتحدثا مع فلسطينيين، بعدما عادا كتب سارتر مقالة اراد أن يرسلها للنشر في مجلة "لا نوفيل اوبزرفاتور"، لكن بيني عرض المقالة على بهجت النادي وعادل رفعت قبل النشر وكانا يجلسان في احد مقاهي حي مونبرناس، لم تكن المقالة في مصلحة العرب ولا ضد اسرإئيل، كانت دفاعاً ضعيفاً عن "الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني". عندما ألح بيني في معرفة رأيهما سألاه ما إذا كان يعتقد أن لهذه المقالة اية فرصة للنشر، ولم يشك بيني في ذلك مندهشاً: كيف ترفض "لا نوفيل او بزرفاتور" نشر مقالة لسارتر؟ ومع ذلك لم تنشر هذه المقالة ابداً. يفسر هيرفيه ذلك بتدخل مقربين لسارتر، منهم رفيقته سيمون دو بوفوار، لكي لا تنشر. ولقد انقلبت الاخيرة على بيني بعد ذلك، وهي تعلم مدى إجلاله لسارتر، واستمتاعه بمساعدته دائماً على تحمل ضعف بصره الشديد، بل اتهمت بيني بسرقة وعي. وقدر الصديقان موقف بيني في عدم الرد عليها احتراماً للفيلسوف. ضعف موقف سارتر في ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي لم يخف امام الصديقين الابعاد الاخرى للفيلسوف، ودوره العالمي الذي لعبه على مدى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة. ويشيد بورغ بدور سارتر في مقاومة الاستعمار في كل مكان، ولكن ليس في فلسطين!. وبقدر الإحباط الذي أصاب الصديقين من موقف سارتر تجاه الفلسطينيين، وجدا تشجيعاً في علاقتهما بفيلسوف آخر هو ميشال فوكو مقدرين عقلانيته ودقته وحكمته. حكى الصديقان لهيرفيه انهما ذهبا الى فوكو بعد ان اصدر الرئيس الراحل انور السادات أمراً بالقبض على عدد من الكتاب المصريين. اصر بهجت النادي وعادل رفعت على كتابة نداء للرئيس السادات للإفراج عن هؤلاء الكتاب يوقع عليه كبار المفكرين والكتاب الفرنسيين، وفعلاً كان من بين الموقعين على هذا النداء: سارتر، ريمون آرون ورولان بارت. وعندما ذهبا الى ميشال فوكو ليوقع عليه، قرأه، وفكر للحظات، هز كتفيه ثم قال لهما: "لقد وقعت على كثير من النداءات المماثلة، ولم اقتنع بتأثيرها، واعتقد ان الإكثار من هذه التوقيعات يقلل من قوة تأثيرها، إن هذا النداء لن يجبر الرئيس السادات على فتح أبواب السجون والإفراج عن المسجونين". لكن الصدى الوحيد لهذه التواقيع وهذا النداء هو مجرد عزاء من المفكرين الفرنسيين يصل الى قلوب المساجين، ويعطي لهم الشعور بأنهم ليسوا وحدهم، وأن هناك من يحاول الدفاع عنهم، إنه بمثابة شعاع شمس يصل لينير ظلام زنازينهم "ثم اقترب فوكو من الورقة وامسك بالقلم، ووقع النداء". شهدت تلك الفترة علاقة وثيقة بين الصديقين وميشال فوكو، مثلما شهدت قيام ثورة الخميني في ايران، وكان للثلاثة موقف مشترك متعاطف مع هذه الثورة! مستند الى شعبيتها و"روحها السياسية الجديدة". حاولوا فهم هذه الثورة وتفسيرها، وقاموا من أجل ذلك بتسجيل آرائهم صوتياً على مدى عشر ساعات، اين هذه التسجيلات؟ ولماذا لم يقوموا بتفريغها ونشرها؟ اعتقد أن ذلك سيكون عملاً مفيداً، خصوصاً لمكانة فوكو وبهجت وعادل الفكرية والثقافية. يقول هيرفيه إن "بهجت وعادل تبنيا فرنسا كنموذج لنشر الحرية وفي الوقت نفسه تبنت فرنسا "التوأمين"، لقد حصلا على الجنسية الفرنسية بمساعدة جاك لانغ الذي اصبح وزيراً للثقافة، وهو الذي فتح الباب امام كوكبة من المفكرين والعلماء والفنانين والكتاب المقيمين على أرض فرنسا للحصول على الجنسية الفرنسية". ويتذكر هيرفيه بورغ في الفصل الذي كرسه لصديقيه المصريين في مذكراته اصدقاء مشتركين يجمع بينهم كذلك انهم عملوا في مقر اليونيسكو في باريس، مثل الكاتب الهاييتي رينيه ديبيستر الذي حصل ايضاً على الجنسية الفرنسية بعد ماضٍ مملوء بالكفاح والنضال، وحضر الى فرنسا بناء على اقتراح مختار امبو المدير العام السابق لليونيسكو، ألحقه بالعمل فيها. وتذكر بورغ الشاعر ادوار مونيك ويصفه بأن خياله تفوق على الجميع، إذ تخطى خياله المجنح الواقعية، ويعطي لأحاديثنا معه بعداً مختلفاً يقرب الى السوريالية، ويتذكر الشاعر اليوناني المتأثر بالسوريالية ايضا اوديسيوس اليتيس الحاصل على جائزة نوبل في الآداب مثلما يتذكر المفكر الفرنسي ادغار موران. لكن بورغ ربما لم يلتفت في كل هذه الذكريات الى أنه يكتب عن "عالم مضى" عالم كان افضل، ومختلف عن عالم فرنسا الفكري والثقافي الحالي، الذي احتل فيه كتاب ناقدة الفن التشكيلي كاترين ميليه عن تفاصيل حياتها الجنسية الحقيقية مرتبة الكتب الاكثر مبيعاً. * رئيس مجلس ادارة دار الكتب المصرية.