مع تحول باريس الى مدينة أغنياء، أخذت الأحياء الشعبية بالاختفاء واحداً تلو الآخر وتغيرت البنية السكانية للمدينة مع انتقال غالبية ذوي الدخل المحدود الى الضواحي وتمركز أصحاب الدخول المرتفعة فيها. رافقت هذا التحول تغييرات كبيرة في نمط الحياة والاستهلاك وحتى النمط العمراني، إذ انقرضت المساكن الشعبية أو هي في طور الانقراض وكذلك الأمر بالنسبة الى الأسواق والمطاعم والمقاهي. أصبحت مدينة المقاهي، حيث يوجد بين المقهى والمقهى، مقهى، لا تضم تقريباً إلا تلك الفخمة منها والمرتفعة الأسعار، وهي اما ان تكون جزءاً من شبكة دولية Indiana Cafژ, Haagendas, Hard Rock cafژ أو فرنسية "أصيلة" وفاخرة. في مواجهة هذا الواقع، ازدهرت ظاهرة المقاهي البديلة. يقول جان بول، وهو مدير مقهى "السهم الذهبي"، "ما نفتقده هو بكل بساطة حياة الحي في ظل "الغربة المعاصرة"، وهي من أعلى درجات العزلة الموحشة والاستلاب، نحن بحاجة الى ان نستعيد علاقات الجيرة وفضاءات العلاقات الاجتماعية الحميمة مثل مقاهي الحي أو النادي الثقافي الاجتماعي...". قاعة المقهى كانت في الأساس مستودعاً استأجرته مجموعة من الشباب وقاموا بالإصلاحات اللازمة ببساطة لا تلغي الطابع الخاص للمكان وأجوائه المتميزة في أكثر من مجال. وهو إضافة الى كونه مقهى ومطعماً منخفض الأسعار، يعتبر مركزاً لنشاطات فنية وثقافية واجتماعية، فيمكن استعماله كقاعة عرض لوحات ومنحوتات لمختلف الفنانين وكذلك لاستعراض الفرق الموسيقية. ويقول ماتياس 22 عاماً "منذ سنتين تقريباً، تعرفت إلى صاحب محل قهوة "الشمس الحمراء" وطلبت منه في حينه اذناً كي أعزف على القيثارة فوافق وأعجب كثيراً بعزفي وطلب مني أن أحيي سهرة موسيقية واحدة في الشهر، ما ساعدني على اكتساب تجربة وساعدني الأجر الذي كنت أحصل عليه على شراء بعض الآلات الموسيقية التي احتاج اليها في دراستي بالكونسرفاتوار الوطني". وتقوم المقاهي البديلة بتنظيم الندوات حول قضايا فكرية وسياسية متعددة. والانتشار الواسع للظاهرة يؤكد الحاجة الى نقل الحوار حول هذه القضايا الى الحيّز العام. فغالبية هذه المقاهي تذيع موسيقى أفريقية وأخرى من أميركا اللاتينية، وليس من المستغرب ان يستمع المرء الى أغنية لأم كلثوم تليها أخرى لسيزاريا ايفورا المغنية الأفريقية أو لمغنية هندية أو الفادو البرتغالي. ثم ان لديكور هذه المقاهي التنوع نفسه، فبعضها اعتمد ديكوراً أفريقياً أو مغاربياً، وبعضها اعتمد ديكوراً لاتينياً. وتقول فيرجيني وهي حاصلة على ماجستير فلسفة: "تعرفت إلى المقاهي البديلة عندما كنت في سنتي الجامعية الأولى في كلية الطب. اكتشفت حينها عالماً كنت أجهله تماماً. لقد تعرفت هناك إلى الفلسفة وأعجبت بهذا المجال ما جعلني التحق بالجامعة - سنة أولى فلسفة. وخلال فترة دراستي الجامعية كنت أتردد عليها كثيراً. لذا كان طبيعياً بالنسبة إلي ان أقرر، بعد نهاية دراستي، ان أفتح مقهى فلسفة حيث انظم كل شهر نقاشاً حول موضوع فلسفي. ولكن إذا اقتضى الأمر، نكرس النقاش لموضوع من مواضيع الساعة". ورداً على سؤال حول الديكور الذي اختارته تقول: "أقام أهلي في المغرب عشرين عاماً. وأنا أحب هذا البلد كثيراً وأحس انه موطني الثاني، لذا اخترت ديكوراً مغربياً، ولكنني زرت الكثير من البلدان الأفريقية، وخلال كل رحلة كنت أشتري تحفة فنية كالسجاد المغربي واللوحات السنغالية. وسنة 2000، زرت لبنان وسورية فاشتريت نراجيل". ورُوَّاد هذه المقاهي منسجمون مع أجوائها ومتنوعون، لذا تكيفت الأجواء مع اللهجات واللغات المختلفة، الفرنسية والاسبانية والبرتغالية والسنغالية الخ. وتجذب المقاهي البديلة الكثير من الفنانين الشباب مما يدفع محترفي الفن الى اعتبارها منجماً للمواهب الجديدة. وجاءت ظاهرة المقاهي البديلة لتحاكي حاجة الشباب الى علاقات اجتماعية أكثر دفئاً وانسانية، وتعتبر بديلة أولاً لأنها لا تكتفي بتقديم القهوة ولكن أيضاً الأفكار، والموسيقى، وتتيح للشباب فرصة للتعبير عن مواهبهم.