هذه ليست دراسة، كما أنها ليست تحقيقاً صحافياً. إنما هي انطباعات كوّنتها إثر زيارة غير منتظرة، لبيئة غير متوقعة، غمرتني بالدهشة والحيرة. المكان: مصر، محيط جبل المقطم. كان لي موعد مع مسؤول في "لجنة حماية البيئة من التلوث"، حادثته هاتفياً بخصوص دراسة أدبية أعمل على إعدادها، بعدما ذكرت إحدى الصديقات أن "جمعية جامعي القمامة" في المقطم أنجزت قبل سنوات مسرحية تتناول موضوع دراستي، عرضت في بيجينغ بكين أثناء عقد مؤتمر المرأة وحازت جائزة. وأعطتني صديقتي رقم هاتف أحد مسؤولي اللجنة كي يفيدني عن نص المسرحية. وحين اتصلت به، نبهني مسبقاً إلى صعوبة الوصول إلى مركز اللجنة بعد أن أعطاني العنوان. ولكن لم يخطر ببالي مطلقاً أن ما ينتظرني في الغد هو انتقال رتب القدر ظروفه ليضعني في قاع مجتمع يعيش أناسه في حدقتين مطفأتين من الصمت والتجاهل، أوضاعاً لا يمكن إلا أن تصدم إنسانية المرء وتؤذيها. هو عنوان ليس ككل العناوين! بدأتُ رحلة البحث عن مقر اللجنة برفقة "سيّد"، سائق السيارة الذي أقلّني من محيط قلعة صلاح الدين. وصلنا إلى مفترق في مواجهة جبل المقطم يقود إلى درب متعرج صعوداً، حيث الطرقات ضيقة، محفرة، عسيرة المسلك على السيارات والدواب والبشر على السواء. أثناء صعودنا، بدأنا نشتمّ روائح قمامة كريهة ذكرتني، إنما بشكل أشد إيلاماً، برائحة مكب برج حمود السيئ الذكر في بيروت. لم أكترث للأمر بداية، وظننت أن الهواء ينقل رائحة النفايات من مكان قريب في ذاك اليوم الصيفي الحار. وفرضت صعوبة المسلك على السائق التمهل حفاظاً على "البنية التحتية" للسيارة. وكنا كلما توغلنا في الطريق ازدادت الروائح نفاذاً، حتى اضطررت أن أرفع ياقة قميصي وأكمّ بها أنفي بعدما أحسست بالرائحة تنفذ من مسام جلدي لتستقر في عظامي. ما هذا يا سيّد؟ ما هذه الروائح القاتلة؟ قال: "لست أدري". وبدأت تظهر أمامنا معالم تلال من النفايات على جانبي الطريق. واذا بنا داخل قرية حقيقية، قابعة في مكب ضخم للنفايات. حياة نابضة وسط القمامة لم أصدق للوهلة الأولى ما تراه عيناي، لو لم تتواطأ حاستا الشم والنظر لدي على تأكيد الواقع. فأنا بالدرجة الأولى فوق الأرض ولست تحتها. وأنا مشدوهة، بل مصدومة، لهذا التفاوت الهائل في نمط العيش وظروفه بين "أهل فوق" و"أهل تحت". نعم، فالقرية بكاملها، بحسب ما علمت لاحقاً، تعتاش من جمع القمامة وفرزها، لبيعها إلى معامل تعيد تصنيعها بحسب الاختصاص، أو تحويلها إلى أسمدة عضوية في معامل أخرى. إن ما يحصل هو طريقة حضارية للتخلص من النفايات عبر فرزها وإعادة تصنيعها، بيد أنها تتم في ظروف غير إنسانية. هنا، في هذا القمقم الموبوء، لمحت داخل الأكواخ والبيوت المتواضعة أناساً مثلنا، يأكلون ويشربون ويتنفسون ويشقون. أناس مثلنا، إلا أنهم يعيشون والقمامة أمام مصاطبهم وفوق سطوح بيوتهم، وداخلها أيضاً. أكوام عالية، تلال من المخلفات البشرية والصناعية يتكدس بعضها فوق بعض، ويتناثر البعض الآخر في الزوايا والحواري الضيقة، حيث الحياة، ويا للدهشة، تنبض طبيعية مئة في المئة. لا شيء غير طبيعي في هذا المكب المأهول، إذ يتساوى البشر وغير البشر في كسب الرزق الحلال. فالقطط لن تموت جوعاً حكماً، لان النعيم المنبسط أمامها يكفي أبناء جلدتها عشرات السنين. وقس على ذلك بالنسبة إلى القوارض. أما الحمير، هذه الحيوانات الصبورة التي تشقى يومياً في جر القمامة مسافات بعيدة على عربات ترتكز أثقالها إلى ظهورها المنهكة، فلن تعدم بقايا خضار مهترئة ترد العافية إلى أبدانها آخر النهار وتعوضها بعض شقاء يومها الطويل. وأما الأطفال وهنا بيت القصيد الذين هم مثل أطفالنا تماماً، فلن يحرمهم المكب من مخلفات ألعاب رماها أولاد الأغنياء بطراً ومللاً. وسيتلذذون ولا شك بفتح المعلبات التي انتهت صلاحيتها ليلتهموا محتوياتها بنهم. وسيلبسون حللاً هي أفضل حالاً، في أسوأ الأحوال، من أطمارهم البالية والمبقعة بمزيج سحري من مخلفات عضوية وصناعية لا تقتصر على ملابسهم فقط، بل تطاول بتلوثها أكفهم الصغيرة وأقدامهم الحافية، كما تطاول أقدارهم ومصائرهم المشدودة كوتر إلى مستقبل مبهم المعالم. لا يبدو على الأطفال الذين شهدتهم بأم عيني يتراكضون، ويقفزون، ويلعبون في الأزقة وفوق أكوام النفايات، أي أثر من آثار الكارثة. بدوا كأنما يلهون في روضة أطفال نموذجية. فقد ولدوا في هذه البيئة، وأخشى أن تطول إقامتهم فيها. لا ريب أن مناعة ما قد اكتسبها هؤلاء الناس فلم يصابوا بآفات وأوبئة. ربما لكل شيء نقيضه، وقدرة الانسان على التكيّف مع ظروف حياته بأسوأ شروطها نعمة إلهية بكل معنى الكلمة. عش رجباً ترَ عجباً كنا كلما توغلنا في قرية المكب، كما أسميتها، أفتح عيني اندهاشاً بمظاهر الحياة الروتينية اللامبالية تجاه الواقع البيئي. وفي حين كنت أحرص على كمّ أنفي من الروائح، رأيت نفسي مشدودة إلى متابعة المشهد حتى نهايته. هنا على يمين الشارع جزار يعرض شقة لحم ضخمة أمام دكانه، معلقة بسقف المصطبة بخطاف، ومعروضة في الهواء الطلق، من دون أن يكلف نفسه عناء تغطيتها بأي شيء يقيها من الحشرات الطائرة أو الفيروسات "الخارقة جدار الصوت" التي يحملها الهواء. وبتقدمنا في المسير البطيء طالعتنا مقاه شعبية متفرقة، صغيرة ومتواضعة، تجمّع داخلها وأمامها عدد من رجال القرية، بلباسهم التقليدي الذي يتكون من الجلابية والعمامة، وبعضهم يحتسي أقداح الشاي ويدخن "الشيشة" أو يلعب النرد مع رفيق أو أكثر. وفي مكان آخر تجد مطعماً صغيراً متخصصاً بالطعمية والكشري، وهما من المآكل التقليدية، يعتمد عليهما أبناء الطبقة الشعبية ويستحبهما أبناء الطبقة "الراقية" أيضاً، ولعل هذا هو القاسم المشترك الوحيد بين أبناء الطبقتين. يقول المثل: "عش رجباً، ترَ عجباً". ما خطر ببالي في يوم من الأيام أن على وجه الأرض، وقريباً منا إلى هذه الدرجة، إهمالاً معيباً للانسان والبيئة كالذي رأيت. أسئلة كثيرة تواردت إلى خاطري. واستغربت كيف أن وسائل الاعلام تتجاهل قضايا اجتماعية وبيئية وإنسانية على هذا المستوى من الخطورة وتتوانى عن حض المسؤولين على وضع الحلول الناجعة لها. نويت أن أطرح هذه الهواجس على لجنة حماية البيئة، التي ما زال السائق يستوقف المارة سائلاً عن مقرها. تباطأنا أكثر مع وصولنا إلى زقاق اتسعت فيه الحفر وامتلأت بمياه المجارير الآسنة التي تنبع من فجوات في الأرض. يا الله! وكأن ما فوق الأرض لا يكفي حتى يتواطأ ما في باطنها على تلويث معالم الحياة. كوكتيل الروائح لم يعد يطاق. توقف سيّد مرات عدة قبل أن يجتاز هذه المحلة. كان يقيس بنظره عمق كل حفرة مقدراً إذا كان في الامكان اجتيازها من دون أن تنتقع السيارة في إحداها ويقع المحظور، حيث لا مفر من التخويض في محيط من الوحل الأسود الموبوء. قوارض تسرح وتمرح هنا وهناك. شيء لا يصدق! احتملت قهري والواقع الذي صفعني، أنا الغريبة التي باستطاعتها أن تنظر من غير أن ترى، وأن تكم أنفها حتى لا تشم، وأن تدير ظهرها حالما ينتهي الكابوس. فما دخلي بمسرح اللامعقول هذا؟ بالطفولة المشوهة؟ بالناس الغلابة كما يقول المصريون؟ بالبيئة المنحورة التي يراق دمها في الأزقة؟ "بصّي يا بنتي" أخيراً أتى الفرج، ولاح أمام ناظرينا مقر "لجنة حماية البيئة" من التلوث. مبنى مؤلف من طابقين، تحيط به ساحة واسعة نظيفة مزروعة ببعض النباتات والأشجار. أمام المركز، ترجلت من السيارة. وأول ما طالعتني غرفة وجدت فيها صبيتين وعدداً من الأطفال. علمت في ما بعد أنه مركز حضانة لتعليم أطفال الناشطات في لجنة البيئة. سلمت على الفتاتين وسألت عن مسؤول اللجنة، فدلتني إحداهما إلى مكتبه في الطابق الأعلى. صعدت الدرج الذي قادني إلى المكتب المقصود، حيث استقبلني المسؤول بترحاب. بدأنا الحديث بدردشة حول موضوع الدراسة الجامعية التي بصدد تحضيرها، وإمكان تزويدي المادة الأدبية التي أبحث عنها. وبانتهاء الحديث عن موضوعي الأصلي، وانطلاقاً من مشاهداتي الحية في الطريق، معطوفة على اهتمامي العفوي بقضايا الانسان والبيئة، سألته عن نوع النشاط الذي تقوم به اللجنة في مثل الظروف البيئية والانسانية غير المحتملة في المحلة. فقال إن وجودهم هناك جزء من خطة مواجهة تلك الظروف. وقد قامت اللجنة، بإمكاناتها المتواضعة جداً، بإنشاء معمل صغير لتحويل القمامة إلى أسمدة، إضافة إلى حضانة للأطفال. وهي تتعاون مع لجان أهلية في المنطقة لمواكبة مشروع حكومي يرمي إلى نقل مكب النفايات إلى مكان بعيد غير مأهول، حتى يتسنى للعاملين في فرز القمامة من أهالي المحلة الانتقال يومياً إلى المكب الجديد لممارسة عملهم والعودة إلى بيوتهم في بيئة صحية نظيفة. وذكر لي أن هذا المشروع، على رغم إقراره من الدولة، لم يوضع بعد موضع التنفيذ، نتيجة "اكتشافها" أن الأرض التي وقع الاختيار عليها لتكون موقعاً للمكب هي مصنفة محمية طبيعية محمية وادي دجلة، "وما زلنا نتابع الأمر مع الدولة ومع المحافظ لاختيار قطعة أرض بديلة، عسى أن يتحقق المشروع قريباً". السؤال الآخر الذي دار في ذهني هو عن سر تشكّل القرية في محيط من القمامة، وكيف يتعايش الأهالي مع هذا الواقع البيئي. وتطوّع للإجابة أحد أبناء القرية الذي كان قصد اللجنة للمراجعة في شأن خاص وسمع جزءاً من الحوار. وبحشرية ابن البلد وعفويته، وجّه حديثه قائلاً: "بصّي يا بنتي، نحن هنا حوالى 1300 عائلة تعتاش من جمع القمامة وفرزها"، وتجمع العائلة يومياً ما لا يقل عن طن من النفايات، أي ما معدله 1300 طن كحصيلة. تأتي كل عائلة بالقمامة التي تجمعها من القاهرة وضواحيها إلى هنا، وتعمل على فرزها بين مواد عضوية تتغذى منها الحيوانات والدواب التي تعيش في زرائب ملحقة بالبيوت، ومواد قابلة للتدوير مثل الورق والكرتون والبلاستيك والزجاج والتنك وغيرها، تباع إلى معامل خاصة لإعادة تدويرها. ويبقى بعد الفرز 15 في المئة من النفايات تقريباً، أي حوالى 200 طن، غير قابلة للتدوير أو البيع. هذه الكميات يتم تجميعها على مقربة من البيوت، فتتراكم يوماً بعد يوم، إلى حين تحصّل العائلة ثمن نقلها بالجملة إلى مكب عمومي. إن ضيق الأحوال المادية هو الذي يحول دون تنظيف المحيط يومياً من فضلات القمامة، وهذا هو السبب وراء عمارة النفايات المنتشرة هنا وهناك في المحلة. وأضاف ابن البلد: "كما تعلمين يا بنتي، ده أكل العيش مر، زي ما انتِ شايفة". هنا تحولت إلى مسؤول لجنة البيئة مستفهمة: إذا كان العمل في جمع القمامة وفرزها يتم بجهود العائلة مجتمعة، صغارها وكبارها، فكيف يتأتى للأطفال أن يحصلوا على نصيبهم من العلم؟ وهل في المحلة مدارس؟ فأجاب أن هناك حالياً مدرستين، قامت "الأخت ايمانويل" بتأسيس إحداهما منذ سنوات بعد عودتها من فرنسا، إذ عملت على إنشاء مدرسة خاصة ابتدائية ما لبث أن أضيف إليها قسم إعدادي، فثانوي. وهناك مدرسة السيدة سوزان مبارك، وهي حكومية ابتدائية. وعلى رغم الظروف المعيشية والبيئية الصعبة، تراوح نسبة المتعلمين من الجنسين اليوم بين 40 و45 في المئة من الأهالي، بعدما كانت لا تجاوز 10 في المئة منذ نحو عشر سنوات. وتحاول جمعيات أهلية في المحلة، بإمكاناتها المتواضعة، أن ترفع من كفاية الأهالي ولا سيما النساء، بتنظيم نشاطات مختلفة لهن، مثل دورات تدريبية على إعادة تدوير المواد المستعملة. ومعلوم أن هذا القطاع، اذا ما أحسنت الافادة منه وتم تحسين شروط الحياة والانتاج والبيئة بدعم من الدولة، من شأنه أن يوفر فرص عمل لكثيرين، كما يرفع عبئاً عن عاتق البلديات، اضافة إلى تنمية الاقتصاد المحلي. انهيار الجبل عن تشكُّل هذه القرية حدثني أحد السكان بعد مغادرتي مقر اللجنة. فقد أصررت على سيّد أن يقلّه معنا اذ رأيته يؤشر بيده صعوداً ونزولاً محاولاً بإلحاح إيقاف السيارة لتقله إلى الضيعة المجاورة. وفي دردشة معنا ذكر أن الموقع كان في الأصل مقلع حجارة بموجب رخص استثمار خاصة، وذلك في السبعينات من القرن الماضي. كان منطقة صخرية جرداء لا بيوت فيها. وبدأ توافد عمال القمامة وعائلاتهم إلى المحلة بناء على قرار من محافظ القاهرة آنذاك. واتخذوا مساكن متواضعة على رغم وعورة المنطقة، وعملوا مذذاك على جمع قمامة المدينة ونقلها إلى حيث يقطنون لفرزها. ومع الأيام استوطنوا وازدادت أعدادهم، كما ازدادت أعباء القمامة على بيئتهم ومحيطهم. وبعضها تسبب بكارثة بيئية قبل سنوات، عندما انهار جزء من جبل المقطم المواجه للمنطقة مودياً بحياة أناس كثيرين. وعندما سألته عن السبب، ذكر لي أنه كان يتم تجميع النفايات في ناحية من نواحي الجبل، ومن ثم إحراقها. ومع الأيام عملت الغازات المنبعثة من تحلل النفايات واحتراقها عملها في باطن الأرض، ما أدى إلى حدوث احتقان في الطبقات الجوفية، فانهار جزء من الجبل. ذهلت مما سمعت. مؤلم جداً أن يركع جبل مثل المقطم، ولو على ركبة واحدة، بفعل الاستهتار البيئي. ان إهمال أصحاب المسؤولية قضايا المجتمع والبيئة والانسان وهي في النهاية وحدة لا تتجزأ يعوق نمو المجتمعات وتطورها. على قدر ما استثار هذا الموضوع حسّ المؤازرة لأبناء مجتمع متروك لقدره في هذه الرقعة، أكبرت جهود جنود مجهولين، كناشطي "لجنة حماية البيئة" و"جمعية جامعي القمامة" وغيرهم ممن يعملون بصمت ومثابرة وفي ظروف بائسة وإمكانات متواضعة، في سبيل النهوض ما أمكن بمجتمعهم ثقافياً واجتماعياً وإنمائياً. ... عسى ألاّ تكون صرخة في واد. * ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية"، عدد كانون الثاني يناير 2002.