هل يمكن القول إن ديكتاتور تشيلي في ذلك الحين، الجنرال اوغستو بينوشيه "حفر قبره" بيده اعتباراً من ذلك اليوم، أم أنه كان يتصرف تبعاً للمقولة العربية القائلة مكره أخاك لا بطل. وما سمح به بينوشيه في ذلك اليوم، هل يمكن النظر إليه الآن على أنه زيادة تقدير من الديكتاتور لقوته الذاتية واتكاله على مؤيديه باعتبارهم الشعب كله أو غالبيته، أم على أنه دليل ضعف في وقت كانت فيه سنوات مرت منذ انتصر انقلابه العسكري بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وذبح - بالمعنى الحرفي للكلمة - قادة البلاد اليساريين وكل أنصارهم؟ مهما كان من أمر الجواب على هذا السؤال يبقى أن يوم 2 أيلول يوليو 1988 كان اليوم الذي شهد ما يمكننا تسميته "بداية النهاية" لحكم بينوشيه، و"بداية سنوات" سوف تقوده لاحقاً الى "بهدلة" ما بعدها من "بهدلة" حين سيقبض عليه الإنكليز بناء على طلب قضاة إسبان. ولئن كانت هذه الحكاية الأخيرة حكاية أخرى ليس هنا مجالها، فإن المجال هنا يتسع للإشارة الى "الخطأ" الجسيم الذي اقترفه بينوشيه ونظامه، في حق انفسهما في مثل هذا اليوم من ذلك العام. والحكاية يمكن اختصارها في ما يلي: في ذلك اليوم تولت ايزابيل اللندي، ابنة زعيم تشيلي السابق الذي كان جنود بينوشيه الانقلابيون أجهزوا عليه قبل ذلك بعقد ونصف العقد من السنين، مجموعة من المنفيين، من مثقفين ومناضلين سياسيين في طريق عودتهم الى سانتياغو، عاصمة تشيلي. ولقد حدث ذلك بعد ساعات قليلة من صدور قرار عن الديكتاتور التشيلي بينوشيه ينص على إلغاء الحظر الذي كان قائماً دون عودتهم الى الوطن. كان الحدث كبيراً، طبعاً، بالنسبة الى ألوف التشيليين من الذين كانوا هربوا من المذابح والمحاكمات وعاشوا موزعين بين فرنسا وإسبانيا والمكسيك وبلدان أخرى. وكان أولئك المنفيون يشكلون زبدة العقل التشيلي، فكرياً وسياسياً واجتماعياً. ومن هنا كان ذلك الخواء الكبير الذي حل على الحياة الفكرية في تشيلي غداة سقوط الجبهة الشعبية واستيلاء العسكر على الحكم. ولنذكر هنا أن واحداً من كبار الزعماء الشيوعيين التشيليين وهو الوزير السابق خوسيه اويارشي كان على متن الطائرة نفسها التي كانت تقل ايزابيل اللندي ورفاقها. وكانت تلك أول طائرة تقوم برحلة العودة، إذ ستتبعها في الأيام والشهور التالية طائرات أخرى. عندما وصلت الطائرة الى مطار العاصمة التشيلية كان في استقبالها جمهور غفير، لاحظ بسرعة الدموع منهمرة على وجنات العائدين، وعلى رأسهم ايزابيل التي كانت تستعيد في تلك اللحظات بالذات صورة اللندي، الأب والزعيم، ممتشقاً سلاحه يحاول أن يقاوم الفاشيين في اللحظات الأخيرة قبل سقوطه. بالنسبة الى بينوشيه، كانا لسماح للمنفيين بالعودة جزءاً من "خطة مصالحة وطنية شاملة" كما قال أنصاره، استعداداً لإجراء استفتاء في الشهر التالي سيسأل الشعب خلاله عما إذا كان يريد للجنرال الديكتاتور ولاية جديدة. وكان بينوشيه يتصور أن الإجراء الذي اتخذه سوف يرفع شعبيته، لكن ما حدث كان العكس، إذ إن الشعب التشيلي، ما أن وجد في السادس من تشرين الأول اكتوبر التالي، أن القيود قد رفعت عن عنقه بعض الشيء، وما أن استأنس بوجود المنفيين بين أحضانه، وأحس أن في إمكانه أن يقول رأيه بكل صراحة ووضوح حتى صرخ "لا" في وجه بينوشيه، إذ أسفر الاستفتاء عن نسبة 3،53 في المئة من الأصوات قالت "لا" لعودة الديكتاتور. وأتى ذلك وسط تظاهرات غاضبة صاخبة كان المنفيون أنفسهم في مقدم المشاركين فيها. ومنذ تلك اللحظة ادرك بينوشيه أنه إنما خادع نفسه وظلمها حين سمح للمعارضين بالعودة الصور: تظاهرات ضد الديكتاتور في سانتياغو.