لو بقي في انكلترا كان الكاتب الأشقر، الأزرق العينين، يتمتع بسمعة طيبة في كندا وخارجها عندما كتب روايته الثالثة "المريض الانكليزي" في 1992. نال عليها جائزة بوكر البريطانية، ثم حولت الى فيلم حصد تسعة أوسكارات. كان في غواتيمالا يجري بحثاً على جمعية لحقوق الانسان عندما دعي الى هوليوود لحضور الحفل. ارتدى التوكسيدو وشرب الشمبانيا ثم عاد الى الغابة يبحث عن القبور الجماعية مع أعضاء الجمعية. محظوظ في المرة الثالثة؟ ربما توقع الناس من مايكل اونداتجي، 58 عاماً، الكتابة عن الحب مجدداً بعد "المريض الانكليزي"، لكن "الشهرة منحتني حرية الكتابة عن أي موضوع أريده. النجاح يجعلك أكثر تقديراً لموهبة الكتابة لذلك علي أن أكتب ما أعتقد أنّه تجب كتابته بدلاً من أن أكتب ما يتوقعه الناس مني". روايته الجديدة "شبح أنيل" الصادرة عن دار بلومزبري تتناول عالمة انسان قضائية ترسلها منظمة لحقوق الانسان الى وطنها سريلانكا لتحقق في مخالفات الحكم في هذا المجال. تحاول أنيل، خلال الزيارة، استعادة هويتها وأسرتها ولغتها الأصلية تماماً كالمؤلف الذي يتحدر من أصول هولندية وسنهالية وتاميلية. ولد أونداتجي في سريلانكا وتركها في الحادية عشرة الى انكلترا، ثم كندا حيث يعيش اليوم، وفي عقده الثالث عاد الى مسقط رأسه وتكررت زياراته الى ما أصبح "هاجساً"، ربما ليتخلص من الشعور بأن خلفيته "سَلَطة حقيقية، ومن الصعب معرفة من أنا". عمل على روايته الجديدة سبعة أعوام قضى وقتاً كبيراً منها في الأبحاث، ولئن تخطى كالعادة الحدود بين الشعر والنثر فيها، تفتقر "شبح أنيل" الى العاطفة الملحمية التي أحبها الكثيرون في "المريض الانكليزي". لا يركز اونداتجي على عقدة ما بل يركب رواياته من الأصوات المتعددة ولمحات من الذاكرة وأفعالاً لا تكتمل دفعة واحدة. يستعير عبارة يحبها من جون برغر: "لن تروى بعد اليوم قصة بعينها كما لو كانت القصة الوحيدة". لا يمكن أن يكون للرواية صوت واحد يرويها، يقول، وليس مهتماً بالرواية التي يقوم فيها المؤلف بدور الدليل. "أنا دليل على نحو ما، ولكنني أسمح لأصوات عدة بالكلام". "مئة عام من العزلة" خطرت لغابرييل غارسيا ماركيز في ومضة قوية واحدة أثناء توقفه أمام اشارة السير، لكن اونداتجي لا يبدأ بشخص أو حدث كامل التكون، وكتابته عملية متدرجة يكتشف فيها الأبطال والعقدة. أبطاله مجروحون يتورطون في علاقات مدمرة، وهو يعطي الحق للشاعرة آن كارسون عندما تقول: "أردت العثور على قانون واحد يغطي كل مجالات العيش ووجدت الخوف". يشك دائماً في أن يستطيع كتابة كتاب جديد، ويحس بالامتنان عندما يفعل. ولو بقي في انكلترا ما كان أصبح كاتباً: "أحسست بالاغتراب وما كنت رأيت ربطة عنق من قبل". طلّق والداه وهو طفل وهو تزوج مرتين وبات جداً. أمه منحته حب الكتب والمسرح، وكان أفراد أسرته يجلسون معاً ويقرأ كل منهم كتاباً "في أكثر التصرفات لا اجتماعية" ومن دون الإحساس بأي ذنب. من دون تحفظ كان مارسيل بروست في العشرين عندما رسمه جاك اميل بلانش، ولاحظ أنه طفل ومراهق وبالغ في وقت واحد. كان الكاتب بدأ يرتاد الصالونات وراود احدى سيداتها على نفسها مع انها، أو لأنها، كانت في عمر أمه. في الوقت نفسه، كانت والدته تقرأ رسائله وتمزقها اذا لم يعجبها خطه أو نظافة الكتابة. كتابان عن بروست 1871 - 1922 دفعة واحدة، "مارسيل بروست: سيرة" لوليم كارتر عن دار يال، و"طريق بروست: دليل ميداني الى متى البحث عن الزمن الضائع" لروجر شاتوك عن دار آلن لين. يقول كارتر ان الكاتب كان مجموعة غير عادية من التناقضات، بالغ اللطف والكرم والبراءة والأنانية والتحذلق والوسوسة في آن. حطم يوماً آنية زهور ثمينة لأن والدته اشترت له قفازين رماديين لا صفراوين كما أوصاها. وتوقع منها ومن أصدقائه ان يتركوا كل شيء ليخدموه، أو يدبروا وظائف للشباب الذين ارتبط بهم، أو يسهروا طوال الليل ليساعدوه في ترجمة نص ما. كان ساخراً من دون لؤم، وذواقة للانحراف الجنسي مع تفضيله كأساً باردة من البيرة على الجنس، ومع انه لم يكن مسيّساً كان من أوائل المثقفين الفرنسيين الذين وقفوا مع الضابط اليهودي ألفرد دريفوس عندما اتهم زوراً بالخيانة. كان يمكن أن يحرره موت والدته، حبه الأول والكبير، من رعايتها التي أبقته طفلاً، لكنه كان أضعف وأكثر دلالاً من أن يكبر. وفي العقد الأخير من حياته أنهكه الربو الى درجة امتنع معها عن الخروج من البيت لكي لا يتعرض للشمس أو ضرر النبات. نام نهاراً واستفاق ليلاً وخسر معظم ماله في استثمارات فاشلة، لكن ذلك لم يمنعه من محاولة اغراء سائقه وعشيقه بشراء رولز رويس أو طائرة له اذا عاد إليه. أدرك بروست ان طريقة حياته انتحارية، لكن خوفه من الموت لم يمنعه من تذوق الحياة من دون تحفظ، أمر لم يفعله أي كاتب قبله. اختلطت حياته وفنه، وإذا كان لم يبلغ السعادة مثل راوي "البحث عن الزمن الضائع" فإنه حاول ذلك باشباع كل رغباته، البسيطة والغالية. بدأ كتابة رائعته بعد جدال مع الناقد سانت بوف الذي رأى ان حياة الفنان في أهمية عمله. يشدّد شاتوك على بنية الكتاب المحكمة ويقول ان نقاد بروست في زمنه تناولوا الكتاب مجلداً بعد مجلد، ولم يتبينوا انه أكثر من مجرد تداع للذكريات، حرص بروست على التأكيد انه تغير ولم يعد ذلك الشاب غير الناضج الذي يكتب بحبر ذهبي على ورق بنفسجي، وصعق عندما خلط الآخرون بين مراحل حياته واعتبروه الشخص نفسه بصرف النظر عن العمر. تلك الحياة القصيرة يسهل على النسويات ان يثرن العداء، والأمر لا يختلف بالنسبة الى ماري وولستونكرافت حتى بعد مئتي عام على موتها. في كتاب جديد عنها، تبدو رائدة الحقوق النسائية البريطانية، امرأة مشاكسة متسلطة لا تطاق ولا تبالي بتدمير حياة أقرب الناس إليها. في 1792 نشرت مقالها الشهير "دفاعاً عن حقوق النساء" الذي رأى المرأة كائناً بشرياً يعامل كعبد للمجتمع وظيفته الحفاظ على النسل. كان حظها من العلم ضئيلاً، ولم يبرزها المقال كأديبة ذات أسلوب مميز بل كامرأة متحمسة لقضية المساواة بين الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء. ترجمت وكتبت قصصاً للأطفال ورواية، لكن جانيت تود تكتب سيرة الرائدة النسائية في "ماري وولستونكرافت: حياة ثورية" وتركز على الصفات السيئة فتثير غضب الصحافيات لتجاهلها شجاعة وولستونكرافت وكرمها. عاشت وولستونكرافت الحياة العصرية كما يعرفها الغرب اليوم. لاحقت رساماً متزوجاً لم يتجاوب معها فسافرت الى باريس في أوج عهد الارهاب في 1792، وتعرفت الى اميركي هجرها بعد أن حملت منه. نشرت رسائلها اليه ولم تأبه بكرامتها أو سمعتها وحاولت الانتحار برمي نفسها في النهر بعدما عادت الى لندن من دون أن تفكر بطفلتها. ارتبطت بعلاقة مع المفكر وليم غودوين، وانجبت طفلة أسمتها ماري ستتزوج الشاعر برسي بيش شيلي وتكتب "فرانكنستاين" وهي في التاسعة عشرة. تعقيدات الولادة أدت الى وفاتها في 1797 عن ثمانية وثلاثين عاماً، وكانت تزوجت غودوين قبل ذلك بخمسة أشهر. كانت حياتها القصيرة حافلة شخصياً لكنها لم تمنحها الفرصة كامرأة تفوقت في التزامها على معاصرتها الكاتبة جون اوستن التي حصرت اهتمامها بايجاد ازواج اغنياء ووسيمين اذا كان ممكناً لبنات الطبقة الوسطى، واستمدت قيمة المرأة من قيمة الرجال في أسرتها. دو ساد المفكر لم تعد عضلات ارنولد شوارزنغر وزملائه كافية لجذب الربح الكبير الى صناعة السينما، ويبرز الميل اليوم الى تحقيق أفلام تصور مشاهد جنس حقيقية كما في "رومانس"، وتستمد قوة جذب جديدة من العلاقات السادية المازوشية. فيلم "أكاذيب" منع في كوريا حيث حقق وسجن كاتب روايته، لكنه عرض في لندن على نطاق محدود في مراكز ثقافية وحصر بالأعضاء فقط، وهو يتناول علاقة فتاة في عشرة وعشيقها الأكبر سناً ومتعتهما بضرب أحدهما الآخر بوسائل تزداد تسبباً بالألم مع تطور العلاقة بينهما. الفيلم الاسترالي "باشن" كان يمكن أن يصور قصة حياة للمؤلف الموسيقي برسي غرينغر لو لم تخرج بطلتاه بربارة هرشي واملي ووف مخططتين بالجروح من كل حفلة ضرب تجمعهما. وفي الخريف المقبل تطلق فرنسا "ساد" من بطولة دانييل أوتيه، وهوليوود "كويلز" الذي يجمع جفري راش وكيت ونزليت وكلاهما عن المركيز دو ساد. صدر سبعة وعشرون كتاباً عن دو ساد في الأعوام الخمسة الأخيرة بعد ركود تلا انتعاش اسمه في الستينات والسبعينات. صحيفة "التايمز" البريطانية دعت يومها الى منع اصدار روايته "جولييت" التي كتبها في 1797 بحجة اخلالها بالآداب العامة لكنها لم تمنع ولا تزال متوافرة مع كتابيه الرئيسيين الآخرين "جوستين" و"120 يوماً من السدومية". كان رجلاً سميناً قصيراً سجن ثماني مرات وحكم عليه بالاعدام مرتين. ساءه صعود الطبقة البرجوازية الثرية على حساب طبقته ورحب بالثورة وشجع الفقراء القائمين بها من نافذة زنزانته في الباستيل. جفري غورر الذي كتب سيرته قال انه كان أكبر نقاد السلطة، سواء كانت بشرية أو لا، ولأنه رفض أن يقيد المجتمع رغباته أمضى ثلث حياته 1740 - 1814 في السجن. عاش دو ساد في عصر التنوير الذي آمن ان العقل البشري يستطيع أن يحيط بالعالم. ولئن اعتقد روسو ان ذلك يسمح برفع المظالم والعودة الى الطبيعة الخير، رأى فولتير صراعاً لا بد منه بين غرائزنا الطبيعية الشريرة والمدنية. لم ير دو ساد في الطبيعة الا القنص واستغلال القوي للضعيف، وقال ان الشر، لا الخير، هو الذي صنع العالم. سبق نيتشه في رؤية الدمار الناتج عن حكم العقل، ورأى ان الانسان ليس خيّراً ما يكفي في تعامله مع العقلانية. لكننا لا نعرف غالباً الا سيد الانحراف الجنسي في ساد الذي اقتبست منه مادونا فعلاً جنسياً أدته على المسرح برمز ديني وأثارت الاستنكار. وتصعب معرفة ردود الفعل على الفيلمين "ساد" و"كويلز" اذا شاءا القاء نظرة جادة على الجوانب الأخرى منه.