إسرائيل منقسمة بين من يريد الانسحاب من لبنان ومن يريد... الانسحاب! البعض يريده الآن وفوراً ومن طرف واحد. البعض الآخر يريده متأخراً لبضعة اسابيع ويفضّله باتفاق. والملاحظ ان الصحف الاسرائيلية تعدّ الأيام عدّاً عن الموعد الفاصل في تموز يوليو المقبل. ومع ان الرأي العام الاسرائيلي تساوره شكوك في أن ينفّذ ايهود باراك وعده فإن هذه الشكوك تبدو مثل مخاوف من أن يتبدد الحلم. أي ان رافضي التصديق يفعلون ذلك خشية الشعور بالاحباط اذا صدقت مخاوفهم! لم يعد ثمة شك، اذاً، ان العدّ العكسي بدأ. والوقت الذي تمضيه قوات الاحتلال في ارض لبنان هو وقت ضائع. أو، على الاقل، هذا هو رأي عدد كبير من الجنود الذي يؤدون الخدمة هناك والذين باتوا يدركون، في اكثريتهم، انهم لم يعودوا يقومون بمهمة أمنية بل سياسية. يبقى أن الفرق موجود بين انسحاب وانسحاب. فالإنكفاء الأحادي والمستعجل يعني اليأس من احتمال التوصل الى تسوية مع سورية في ما تبقى من وقت. وهو يعني ان باراك حاسم في عدم نيّته تحقيق السلام مع دمشق وتجديد التفاوض معها على قاعدة ترسيم الحدود انطلاقاً من خط الرابع من حزيران يونيو 1967. وتأخير الانسحاب يفيد ان رئيس الوزراء الاسرائيلي يريد أن يعطي فرصة للمساعي من اجل استكشاف امكان التسوية قبل ان يتخذ قراره. فإذا نجحت أمكن له ان يخرج في ظل ترتيبات شاملة وإذا فشلت يستطيع الادعاء انه حاول ما في وسعه مع ما يعنيه ذلك من كسب لتغطية دولية في حال اضطراره الى اعتداءات لاحقة يقوم بها من وراء الحدود الدولية. ما العمل في ظل توافر هذا اليقين بأن الأرض اللبنانية ستكون حرة في القريب العاجل؟ هناك من يعتبر أن السؤال مطروح على لبنان والمقاومة، في حين أنه مطروح، في الحقيقة، على اسرائيل وميليشيا "جيش لبنان الجنوبي". فلبنان والمقاومة لا يستطيعان من الآن الى انقضاء الأمر سوى التمسك ب"تفاهم نيسان" بما يتضمنه من حقوق وما يمليه من واجبات على الأطراف المعنية كلها. و"التفاهم" ينظم العمل العسكري ضد الاحتلال بصفته ذراعاً لمقاومة متعددة المستويات، سياسية وديبلوماسية وثقافية، لا يمكن اختصارها بالبعد العسكري. غير ان شطب هذا البعد غير مفيد. اذ انه بالقدر الذي تبدو اسرائيل مضطرة، تحت الضغط، للانسحاب بالقدر الذي يستطيع لبنان الاستقواء لاحقاً للاحتفاظ بعناصر المناعة ضد الأرجحية التي تريد اسرائيل تحقيقها في المنطقة. اما القول بأن الاحتفاظ بالبعد العسكري مكلف جداً فمردود. كلفته يضبطها "التفاهم". اما التسليم الطوعي والسريع والنزق ب"حق" اسرائيل في خرق "التفاهم" فيفتح باباً مشرّعاً على احتمالات تبدو معها هذه الكلفة ممكنة الاحتمال على صعوبتها. ان السؤال نفسه يصبح اشد وطأة اذا طرح على اسرائيل. فهي عندما تحسم امر الانسحاب وتبقى تصبح مطالبة بجواب تقدّمه لجنودها اذا استمر الوضع على حاله. اما اذا ارادت تغيير هذا الوضع فان عليها ان تتحمل ردود فعل قاسية لا تحميها منها واشنطن إلا بشكل جزئي. غير ان السؤال يصبح كارثياً متى خطر في بال ضابط او جندي في الميليشيا المتعاملة مع اسرائيل. فالإجماع على الانسحاب هو، عملياً، قرار بالتسريح سواء كان الانسحاب من طرف واحد ام باتفاق. ففي الحالة الاولى ستواجه الميليشيا الجنوبية وضعاً مأسوياً ترحيل، تهجير، استيطان في اسرائيل، سجون.... ولن يمكن الآن ولم يكن ممكناً قبل ذلك ان يسفر اي اتفاق على الانسحاب عن حلٍ ما للذين اوغلوا في العمالة ولعبوا ادواراً في خدمة الكابوس الاسرائيلي الذي خيّم على لبنان نحو ربع قرن. والملفت ان الالتفات الاسرائيلي الى هؤلاء يتراجع بقدر ما يتقدم الحديث عن "حتمية" الانسحاب. ولا شك ان الايام المقبلة ستشهد تحولاً مريعاً في المشهد لجهة تظهير العملاء الصغار بصورة من تزين له النفس استرهان قرار "السيد" وفرض اعباء عليه لا يريدها. ستبدي اسرائيل ضيقاً بهم خصوصاً انها تعتبر، باتخاذها قرار الانسحاب، انها أعطتهم الانذار الذي يفترض فيه ان يسبق اي عملية تسريح جماعي.