ليس مانيفستو كارل ماركس وفردريك أنغلز الشهير ما نتحدث عنه. انه مانيفستو توني بلير وغيرهارد شرودر. وهو، الى حد بعيد، مانيفستو نقيض للاول. اسمه "أوروبا: الطريق الثالث" وحجمه 18 صفحة. فالزعيمان الاوروبيان اصدرا، قبل ايام، هذا البيان الذي اعتُبر علامة على تحالفهما الوثيق بعد سقوط اوسكار لافونتين، وفي سياق شراكة كوسوفو، وبموازاة الضغط على ليونيل جوسبان وجرّه الى موقعيهما. صحيح ان رئيس حكومة فرنسا قطع نصف الطريق، الا ان حزبه لا يزال يخوض الانتخابات الاوروبية في ظل شعار: الاولوية لمكافحة البطالة. وهو، من جهته، رد ب"أننا" في فرنسا "سوف نستخدم كلماتنا ومفاهيمنا" في بلوغ الاصلاح الاقتصادي. لكن هذه النبرة شبه القومية هي ما يخطط بلير لقصف احد مرتكزاتها: اقامة اوروبا على قاعدة فرنسية - المانية. فهو يهندس تحالفين يعيدان صوغ القوة الاوروبية برمتها: تحالف اقتصادي مع المانيا، وآخر عسكري مع فرنسا، والاثنان مفتوحان على الولاياتالمتحدة التي باتت ذراعها اطول بما لا يقاس في ما خص "الأمن الأوروبي". وداعاً للديغولية على الأرجح. وليتول جوسبان الذي استعار لغتها قلع شوكه بيديه، هو الذي تضغط عليه كتلة يسارية وقيم قومية لا يعاني مثلها شودر وبلير. فالعرض الذي يقدمه لها الاخير، هو، في النهاية، ما لن تستطيع باريس ان ترفضه في ظل تجربة البلقان، وتحولات الاطلسي، ونتائج القمة الاوروبية، بل في ظل نوع الاجندة الجديدة التي غدت مطروحة على الاوروبيين: حقوق الانسان. وفي الخطة البريطانية ايضاً ان التحالف الاقتصادي مع الالمان، قاطرة صالحة للاستخدام لحظة تحزم لندن امرها في صدد دخول اليورو. وهذا معطوفاً على الدور القيادي لبريطانيا من خلال رئيس حكومتها، يبهّت معارضة المعارضين المحافظين في رفضهم اليورو، والتي اشتدت عشية الانتخابات الاوروبية، ومع تراجع قيمة العملة الجديدة. هكذا يُقرأ شعار بلير الجديد: قيادة اوروبا او مغادرتها. لكن المانيفستو يقطع، ايضاً، بانحياز شرودر وحزبه الى البليرية وما بدأته، منذ اوائل التسعينات، في حزب العمال البريطاني. فالاشتراكيون - الديموقراطيون الالمان، بعد استقالة لافونتين، صاروا بدورهم حزباً مؤيداً للبيزنس: نصر آخر للنجم الصاعد في حرب البلقان: قائد حزب العمال الذي كال عليه شرودر نعوتاً من النوع الذي يكيله النصير للقائد. ايديولوجياً، المانيفستو لا يضيف كثيراً الى ما نصت عليه "تعاليم" انتوني غيدنز، غورو بلير ونظري "الطريق الثالث". "فما نحتاجه اليوم"، بحسب المستشار الالماني، "هو موازنة جديدة بين الدينامية الاقتصادية والعدالة. نود ان نعيد الاعتبار الى بعض التنافس الاقتصادي". ويعقّب رئيس حكومة بريطانيا بقوله ان حكومات يسار الوسط الاوروبي لن تنجح في تعميم العدالة والفرص "إن لم تعزز طاقة التجديد والمشاريع، بما يولّد نمواً جديداً وفرص عمل اكثر. اننا بحاجة لأن نكون اكثر مرونة، لا اقل". "ما نحن في حاجة اليه" لازمة وعظية تكثر هذه الايام. والعبارة انما هي موضوع استطراد المانيفستو. فهو يتضمن اشارات عريضة اكثر منها وصفات تفصيلية. فالحكومات الاوروبية في حاجة الى اعتماد "أجندة تقوم على أولوية اقتصاد الامداد او العرض" لكي تستجيب للعولمة ولطلبات اسواق الرساميل والتغيرات التقنية. دعوات لخفض الضرائب على الشركات، ولكن ايضا على العمال ذوي الاجور المتدنية اذ ان "الاصلاح الضريبي والخفض الضريبي يمكن ان يلعبا دورا حاسما في تلبية الحاجات الاجتماعية الاعرض". كذلك اصلاحات في الرفاه ترشّح وحدات العمل لأن تكون اكثر استفادة من التقديمات التي تُقدّم راهناً للعاطلين عنه. بكلمة، فان اكثر ما يرسخ من المانيفستو كونه دعوة موجهة الى حكومات يسار الوسط في اوروبا لخفض الضرائب، واعادة النظر بالرفاه ودولته، وتشجيع المشاريع واصحابها. الاسئلة النظرية كثيرة، وسبق لكثيرين طرحها. لكن ربما كان المحك المباشر ألمانيا: اقتصادها الذي سجّل مؤخرا نمواً وتوسعاً جزئيين، انما مفاجئين!