300 يوم، كان هو عدد الأيام التي عاشت خلالها مدينة برلين تحت الحصار. ولم يكن ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، ومحاصرة الحلفاء لعاصمة هتلر في سنوات الحرب الأخيرة، بل بعد انتهاء الحرب بسنوات. كان قدر برلين، إذن، أن تعيش حالة الحصار مرة أخرى، وهي في حماية الحلفاء، أو بالتحديد من كانوا خلال الحرب العالمية الثانية حلفاء، وحرروها معاً على ذلك الأساس. 300 يوم عانت خلالها المدينة ما عانت. أو لنكن أكثر تحديداً: عانى خلالها القسم الخاضع لسلطة الحلفاء الغربيين ما عانى. فالقسم الآخر الخاضع لسلطة السوفيات عرف كيف ينفذ بجلده من ذلك الحصار، وبكل بساطة لأن السلطة السوفياتية هي التي حاصرت برلين، في خطوة اعتبرت رداً قاسياً من ستالين على استفزازات لندنوواشنطن له. عند بداية الحصار، خلال شهر حزيران يونيو 1948، كان ستالين أمر بسد الطرق البرية المؤدية إلى المدينة، عاملاً بذلك على فصل هذه المدينة عن بقية أنحاء العالم. وهنا لا بأس من التذكير بأن مدينة برلين كانت أضحت، ومنذ هزيمة هتلر، أشبه بجزيرة يتقاسم الحلفاء الأربعة الكبار حكمها، غير أن مشكلتها كانت في وقوعها بأكملها داخل منطقة النفوذ الألمانية السوفياتية، حيث تبعد نحو 200 كلم عن أقرب نقطة نفوذ غربية. ومن هنا كان تحكم السوفيات بحدود المدينة، متناقضاً مع وجود مناطق نفوذ في داخلها خاضعة للحلفاء الغربيين. بالنسبة إلى ستالين كانت برلين تشكل رهينة مثالية. وخلال النصف الأول من ذلك العام 1948، كانت الأوضاع بدأت تسوء بشكل جدي بين ستالين وحلفاء الأمس، أي ان الحرب الباردة كانت بدأت بالفعل، ولا سيما بعد الانقلاب الشيوعي في براغ، الذي أوصل إلى السلطة حلفاء ستالين ما أغضب الغرب بشكل عام. فإذا اضفنا إلى هذا ان الوقيعة كانت قد وقعت بين ستالين وتيتو، زعيم يوغوسلافيا، رغم شيوعية هذا الأخير، وان ستالين أخذ يتهم واشنطنولندن ببذر تلك الوقيعة، يمكننا أن نفهم حالة الحذر المتبادل التي سادت بين موسكو وعواصم الغرب، وجعلت ستالين يسارع إلى استخدام المدينة - الرهينة، في واحدة من أقصى لحظات التوتر في ذلك الزمن. طبعاً في تلك الأيام لم يعط ستالين الحصار اسمه ولم يعترف بوجوده، قال - فقط - إن ثمة اشغالاً ضرورية على الطرقات العديدة التي تصل المدينة بالعالم الخارجي، وان تلك الأشغال تستدعي سد الطرقات. لكن الحقيقة كانت واضحة في تلك اللحظة بالذات كان سيد الكرملين يفرض على المدينة ذلك الحصار الذي سوف يدوم 300 يوم، وينتهي يوم 12 أيار مايو من العام التالي 1949. قال المعلقون يوم انتهى الحصار إن الوقائع أثبتت فشل محاولة ستالين لتجويع المدينة. فالحال ان برلين لم تجع رغم الحصار. وذلك بكل بساطة لأن الغربيين لم يأبهوا بالتحذيرات السوفياتية، بل عمدوا على الفور إلى إقامة جسر جوي يومي راح ينقل المؤن والاحتياجات الضرورية إلى سكان المدينة. ولم يكن بإمكان السلطات السوفياتية التصدي لذلك الجسر الجوي. وكذلك لم يتمكن ستالين من أن يتصدى للسبب الأساسي والمباشر الذي جعله يفرض الحصار، وهو إصدار عملة قوية في المانيا الغربية، مما يتنافى مع الوضع الاقتصادي السيئ في المانياالشرقية ويشكل إغراء لمواطنين قد يفكرون يوماً بالانتقال من جانب إلى آخر... وهو ما سيحدث بالفعل لاحقاً. إذن. بعد 300 يوم، انتهى الحصار ب... الفشل، حتى وان كان الاعلام السوفياتي لم يعتبره فاشلاً ولم يسمّه حصاراً في الأصل. المهم، في صباح 12/5/1949، وصلت إلى بوابات برلين، لتمثل أمام المخافر السوفياتية أولى القوافل البرية المحملة بالمؤن والتي كان الاتفاق جرى على السماح لها بالمرور، "بعدما انجزت اشغال الطرق وبات الوصول إلى المدينة ممكناً" حسب الرواية السوفياتية. أما ستالين فإنه، إذ غض طرفه عن الفرح الغامر الذي أبداه سكان برلين، شرقاً وغرباً، لمرأى القوافل الغربية، أسّر للمقربين منه بأنه في الحقيقة لم يتخيل أن تصميم الأميركيين والبريطانيين سيسمح لهم بإقامة ذلك الجسر الجوي فيزودون المدينة بالوقود والمؤن. علماً بأن الضباب الذي تكاثر خلال الخريف والشتاء كان منع الطائرات في بعض الوقت من الوصول بشكل أوصل أهل برلين في شهر كانون الثاني يناير إلى حالة الرعب، إذ ادركوا انهم لا يملكون وقوداً ومؤناً لأكثر من عشرين يوماً. وبشكل اجمالي ستقول الأرقام لاحقاً ان الطائرات كانت تنقل كل يوم ما زنته 8000 طن إلى برلين، وان مجموع ما نقل بلغ 000.300.2 طن. أما الحوادث الناتجة عن ذلك فأدت إلى مقتل 54 شخصاً. في النتيجة، من الناحية السياسية، تواكب انتهاء الحصار مع اعلان مندوب الاتحاد السوفياتي في الأممالمتحدة عن تخلي بلاده عن مطلب سابق لها بتعميم عملة موحدة على شطري المانيا. وكان هذا الاعلان في حد ذاته يعني اعترافاً مضمناً بفشل الحصار أولى القوافل تصل إلى برلين.