لئن كانت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي بدأت ما ان حطت الحرب العالمية الثانية اوزارها، وبالتحديد ما ان كشف الاميركيون عن امتلاكهم للقنبلة النووية بالقاء القنبلة على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان، فإن الشكل العنيف والعلني الذي اتخذته تلك الحرب التي تدوم طويلاً بعد ذلك، وصل الى ذروته حول قضية برلين، تلك المدينة التي عمد ستالين الى محاصرتها آملاً في ان يتخذ منها رهينة يركع من خلالها الغرب. وبالفعل حاصر ستالين المدينة التي اذا كان صحيحاً ان الحكم فيها كان مقسماً بين دول الحلفاء الاربع: الولاياتالمتحدة، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا وفرنسا، فإن واقع وقوعها ضمن الاراضي الالمانية التابعة للاتحاد السوفياتي، على بعد مئتي كيلومتر من ألمانيا التابعة للحلفاء الغربيين، جعل منها الحلقة الاضعف وسهّل على موسكو لعب ورقتها. وكانت الورقة في يد ستالين شديدة البساطة: للضغط على الغرب يكفيه ان يحاصر المدينة ويجمع سكانها، هم الذين لسنوات طويلة بعد الحرب كانوا يعتمدون في حصولهم على الاغذية والوقود على قوافل تأتي من الغرب محملة بحاجتهم. وفي ربيع العام 1948 لم تعد تلك القوافل البرية قادرة على الوصول على برلين. فستالين أمر سلطاته بأن تقوم بأشغال حفر وتطوير على الطرقات البرية المؤدية الى المدينة. واذ قطعت تلك الطرقات على ذلك النحو، في وقت اوجدت فيه حجج اخرى لقطع الطرق النهرية، كان لا بد ان يسقط في يد الحلفاء. لكنهم صمدوا بكل بساطة حين قرروا ان يخرقوا الحصار الستاليني بإقامة جسر جوي متواصل، يؤمن لسكان مدينة برلين احتياجاتهم. وبالفعل في صباح يوم الخامس والعشرين من حزيران يونيو 1948 وصلت اولى الطائرات الاميركية الصورة الى برلين وحطت مفرغة حمولتها من الوقود والاغذية امام انظار سكان كانوا ينتظرونها بكل لهفة وخوف، وأمام ابصار جنود سوفيات لم يكن بإمكانهم ان يفعلوا اي شيء لمنعها من تنفيذ مهمتها. وهكذا حوّلت طائرات الحلفاء برلين من جزيرة الى شبه جزيرة. وبدا الحصار السوفياتي من دون جدوى. كل ما في الامر انه صعّب على الحلفاء مدّ المدينة بما تحتاجه، بينما كانت غايته اول الامر ان يحرم المدينة من ذلك ويقيم شرخاً بينها وبين الحلفاء. من الناحية السياسية كان السبب المباشر الذي حرّك ستالين، عزم الحلفاء على مدّ ألمانيا الغربية بعملة قوية تقيم اقتصادها من سباته وتحركها كقوة اقتصادية، ولم تكن موسكو راغبة في ذلك، لأنه سيجعل من وجودها في ألمانياالشرقية عبئاً اقتصادياً كبيراً عليها. وكان هذا الامر نقطة انطلاق تلك المعركة الباردة العنيفة التي اندلعت بالتحديد في آذار مارس السابق خلال اجتماع عقدته حكومات الحلفاء بما فيها الحكومة السوفياتية في برلين وأعلنت فيه قرارات لندن الشهيرة التي اغضبت السوفيات انهم لم يستشاروا مسبقاً بشأنها فغادروا، يومها، الاجتماع غاضبين. المهم ان الحصار الرسمي لبرلين استمر 300 يوم. والجسر الجوي الغربي تواصل خلال ذلك. وهكذا ما ان حلّ شهر أيار مايو من العام التالي حتى وجدت موسكو نفسها مرغمة على وقف الحصار. لأنه لم يعد يجدي شيئاً، بل انه عزل موسكو عن العالم كله في وقت كانت في حاجة الى تعاطف ما، لكي تنتصر في معركتها ضد تيتو، ولكي تساند الصين التي كان ماو في طريقه للانتصار فيها. بالنسبة الى موسكو كانت معركة برلين باتت خاسرة. وهكذا، في اليوم الثاني عشر من أيار 1949، وصلت اولى القوافل البرية الى مداخل المراكز السوفياتية محملة بالوقود والمؤن، ففتح لها الجنود السوفيات الابواب لتمر بكل بساطة. معلنين بهذا، عزم حكومتهم على انهاء الحصار. والحال ان ستالين لم يكن قد تصور ابداً ان عناد الغربيين وصمود اهل برلين سوف يسمح بإيجاد ذلك الجسر الجوي الفريد من نوعه والذي موّن المدينة طوال ما يقرب من عام. والحال ان الطائرات - التي لم يجابهها خلال عملها سوى الضباب الذي اشتد في فصل الشتاء - كانت تحمل الى برلين في كل يوم ما زنته 800 طن، وعلى هذا تكون طائرات الشحن نقلت الى المدينة خلال فترة الحصار ما مجموعه 000.300.2 طن من الاغذية والوقود. ولم يخل الامر بالطبع من حوادث خلال الحصار والجسر الجوي اوقعت 54 ضحية. من الناحية السياسية كان من نتيجة ذلك ان اعلن المندوب السوفياتي في الاممالمتحدة ان بلاده تخلت عن رغبتها في فرض عملة موحدة على برلين، وكذلك عن معارضتها لقيام دولة مستقلة في ألمانيا الغربية. وهكذا طوى جسر جوي عنيد صفحة اولى من صفحات الحرب الباردة