اليوم يبدأ عام هجري جديد، 1420ه، ولم نعد بعيدين عن بداية قرن حضاري جديد مع نهاية عام 1999 ودخول عام 2000م. والتشابه ليس فقط في انتهاء العام بالصفر ولا في توقع الكثير من المستجدات غير المنتظرة. العام الصغير والقرن الشاسع لا يختلفان في أن كليهما مليء بتحديات الغيب... ومحاولة قراءة ما سيحمله أي منهما لا تأتي إلا من قبيل التكهنات التي تظل تكهنات مهما قاربت الحقيقة أو استندت الى جذور علمية مثقفة. ولا تقارب الممكن إلا ان حاولنا استقراء ما يمكن أن تكون عليه مجريات الأمور من خلال إعادة التأمل في معطيات الحاضر وانجازات الماضي. السؤال الأهم: هل نستطيع أن نتحكم في عنان المستقبل؟ نحن لا نملك القوة العسكرية ولا حتى الاقتصادية بما يكفي لذلك. وفي هذه المرحلة التاريخية المضطربة من تاريخنا العربي الاسلامي الحديث وواقعنا العلمي الحضاري المتخلف عن الريادة، ربما نحتاج الى القاء نظرة على تاريخنا العربي الاسلامي القديم وفي البال منطلق مصيري: كيف قدر العرب المسلمون، وهم أولئك القادمون من بيئة بدوية شحيحة على ممارسة سيادتهم عبر دولة اتسعت وامتدت حتى وصلت الصين شرقاً والأندلس غرباً؟ وكيف أمكنهم التحكم في عنان الريادة العلمية والحضارية؟ لم يكن ذلك عبر تحكيم السيف والخطط العسكرية الا في البدء... ثم ثبّت العرب سيادتهم بالعلم والتطور الحضاري والوشائج الاسلامية الراقية عبر ثلاث قارات تحتشد فيها قوميات وعنصريات وخلفيات تاريخية مختلفة. حافظ العرب والمسلمون على موقع الصدارة في العالم الذي عرفوه بروح القيادة التي تتقبل الآخرين، واتاحة الفرصة لهم لعضوية فاعلة تشترك في صنع الحضارة الاسلامية وتساهم بالفعل في الاضافة اليها. نعم، لقد كان الدين الاسلامي رسمياً قوة توحّد المجموع... وضاعف تلك القوة ان الكتابي والقادم من مجتمع بأصول غير عربية، والمنتمي الى الطبقة الدنيا اجتماعياً لم يوصموا بالدونية وعدم استحقاق المواطنة الكاملة. بل اتيحت لهم الفرصة - عبر اتقان اللغة العربية وممارسة العطاء العلمي والمهني - للمساهمة في بناء الأمة ومجدها الأعلى. هكذا كان للخوارزمي وابن ميمون، وابن خلدون، والفارابي، والخراساني، والرومي، والفارسي ان يعتزوا بانتمائهم للمركز الحضاري الجديد ولا يعانوا القهر الداعي لمحاربته في الخفاء والانقسام الى عرقيات وأقليات تأكل بعضها بعضاً وتنخر في دعائم الأمة حتى يسقط الهيكل على رؤوس الجميع. وحين تهتكت العلاقات بين فئات المجتمع الى معاناة التحيزات العرقية كان هذا التهتك أهم أسباب تشقق الدولة الى دويلات زائلة. في كل فترة من فترات المد والازدهار الاسلامي حكم العرب والمسلمون العالم عبر تقدمهم العلمي والحضاري ووعيهم بقيمة الاستقرار الاجتماعي عبر استقرار الأقليات نفسياً ومادياً... ثم فقدوا سيادتهم حين أفلتوا عنان الريادة الحضارية العلمية الواقعية من أيديهم فانشغلوا عن الحفاظ على الريادة العالمية والتقدم الاقتصادي بالصراعات الداخلية... وتركوا للغير السيطرة على زمام التقدم الحضاري في العالم الواقعي. اليوم آلاف العلماء العرب والمسلمين يهاجرون الى الغرب... ثم يفقدون هويتهم. اننا لو احتويناهم وتعهدنا براعم قدراتهم دعمنا قدرتنا على الريادة العلمية... وهي ما يتطلبه المستقبل. ان كثافة وجودنا في العالم قادرة ان تكون قوة شد لتثبيت قواعد ريادة وسيادة في حضارة متفوقة روحياً ومادياً تسيّر العالم من حولها... لو ان تلك الصلات ارتكزت على نظرة واقعية منطقية منتجة... ولم تتآكل في صراعات اثبات هوية الأقليات... أو محاولة الهرب من الجذور والتجرد من التراث... أو الانشغال الهامشي بالمصالح أو قسر الآخرين على اثبات الانتماء بقشور المظاهر السطحية... بينما تنتهي الضغوط المتحاملة الى تنفير المنتمين من انتمائهم.