"جاء رجلنا!"، هذه اللازمة هي التي سنشهد من الاوروبيين ومن طرابلس ومن الفرنسيين على حد سواء عند سماع خبر عودة رئيس الحزب الوطني فينيتش أدامي الفائز بالانتخابات الوطنية. فالجميع مستفيد بقدر من المقادير من عودته بعد 3 سنوات من حكم مثير ومتقلب لحزب العمل المالطي. خيار الناخب المالطي في الخامس من الشهر الجاري، ليس التخلي عن حزب العمل وحكومة الفريد سانت والتصويت للحزب الوطني بقيادة رئيس الوزراء السابق، مفاجئة مطبقة، بقدر ما هي دلالة الى دور الآليات الديموقراطية وحرية انسياب المعلومات والمعارف، حتى في مجتمعات لم ترتق بعد الى مصاف الدول الغربية التقليدية. فالحملة التي اراد منها الحزب الوطني، بشروطه وصياغاته المحلية، تفويضاً لادارة الصراع داخل حلقة النخب السياسية الضيقة، انتهت الى نتيجة مخالفة كان الفيصل فيها سياسات الحزب الحاكم تجاه الاتحاد الاوروبي والعرب والشراكة المتوسطية. المراقبون السياسيون وصفوا سقوط برنامج حزب العمل بمثابة تصويت بنعم لأوروبا وبسياسات تنبذ النزعة الانعزالية والانتهازية التي لجأ اليها الفريد سانت، كما تعكس المخاوف من توسيع الدور الاميركي في الجزيرة، او في الاقل رفض الطريقة المثيرة للشكوك التي قدمها حول هذا الدور. ومع ان الخطوط العامة للتوجهات الاقتصادية للحزبين ليست متباعدة بقدر اختلافها في التكتيك، الا البعد المحلي التنافسي للحدث الذي يحصل سنتين قبل اوانه ينطوي على اثارة كبيرة. "الحياة" زارت الجزيرة عشية الانتخابات وتابعت الجدل حول المحاور الرئيسية والقضايا التي تستحوذ على اذهان صانعي تلك السياسة في مالطا. الآمال العجولة تشكل حال مالطا كبلد صغير يعيش على اعتاب نطاقين سياسيين مختلفين، هما المتوسط واوروبا، ويتأثر بهما، نموذجاً على ما تشكله النزعة الارادوية في بيئة غير محصنة اجتماعياً واقتصادياً. فهذا البلد الصغير يبدو، بتعبيراته السياسية والمفاهيم التي تقف خلفها، وكأنه مأخوذ بغرائبية من نوع يستعصي ادراكها واستيعاب مغازيها من خارج. ولعل في مناسبة كالانتخابات الوطنية خير دليل على المدى الذي تبلغه تلك الغرائبية اذ ان السبب الرئيسي الكامن وراء اجرائها لا يتصل بتغير موازين القوى السياسية بل بسبب تمرد فرد واحد من اعضاء البرلمان هو دوم منتوف الذي ترأس الحزب وحكومته طوال 12 عاماً من 1950 الى 1955، ومن 1971 حتى 1981. لكن لتلك الغرائبية، التي هي سمة من سمات الجزر، عناوين كثيرة تصدم المراقب السياسي وتشي بروح التقلب غير المدروس على اكثر من صعيد. نورد منها تراجع حكومة حزب العمل عن الانضمام الى الاتحاد الاوروبي عام 1996 والانسحاب من معاهدة "الشراكة من اجل السلام" التي اطلقها حلف شمالي الاطلسي الناتو عشية التحولات التي اعقبت سقوط الكتلة السوفياتية، بعد سنتين من انضمامه اليها، والبقاء على مسافة من مشروع الشراكة الاوروبية - المتوسطية المعروفة بميثاق برشلونة بعد ان كانت جزءاً منها. وأبرز السياسات الارتجالية التي لجأ اليها حزب العمل لاجتذاب ارباب العمل في المجالات الفاعلة كانت الغاء ضريبة الفات VAT المعروفة على نطاق العالم، التي تجبى للخزائن المحلية ما بين 18 و22 في المئة كضرائب على السلع والمشتريات، على سبيل النكاية بالحزب الوطني المعارض التي كان شرعها اثناء حكمه البلاد وقبل هزيمته عام 1996 وصولاً الى ارضاء 150 الفاً من اصحاب المتاجر والحوانيت والعمال. الا ان ذلك القرار حرم الخزينة الضعيفة اساساً من واردات كبيرة تدرها عليها حركة السياحة التي تصل الى 350 الف سائح سنوياً وهو ما يعادل عدد سكان البلاد تقريباً. وكان على حكومة حزب العمل لتلافي عواقب النقص في الواردات فرض عشرات من الضرائب الفردية تأخذ باليسار ما كانت منحته باليمين. غلطة الشاطر تلجأ القوى السياسية في البرلمانات الغربية عادة الى حل الحكومة والدعوة الى انتخابات وطنية عامة في حالات محددة عندما تطرأ حقائق جديدة تخل بالتوازن السياسي او الاقتصادي في البلاد ما يعيق تسيير امر الدولة والادارات ويصيبها بالشلل والجمود. الا ان الامر مع حزب العمل مختلف، حين ارتكب خطيئة كبيرة عندما ركز جهده على حسم الصراعات الداخلية للحزب وهزيمة اتباعها غير المنضبطين ولا سيما زعيم الحزب التاريخي دوم منتوف، واهمل، بذلك، الاعتناء بالملفات الكبرى. ويجد المراقب ان حزب العمل الحاكم عموماً تحول وتغير على نحو ملتبس. فهو الذي بدأ يسارياً، على النحو الذي كانته اليسارية الاوروبية خلال عقود الستينات والسبعينات وحتى مطلع الثمانينات، تحول منذ العام 1996 الى حزب محافظ اقرب الى التسلط والغطرسة المميزة للريغانية، او "الثاتشرية" بعزلتها الصاخبة المعروفة. وفيما الحزب المعارض، اي الحزب الوطني، الى درجة كبيرة من اللغة المتلعثمة لخصومه واعاد تنظيم صفوفه مستفيداً اي فائدة من اخطائهم. وهو اعتبر نفسه مرشحاً لتنفيذ برنامج انفتاح على الاتحاد الاوروبي والعرب، وصولاً لتحديث المجتمع المالطي الفتي. واكتسى ملف العلاقات الاميركية - المالطية بحساسية كبيرة حديثاً، الى القدر الذي يوحي بالمبالغة. حتى ان دوم منتوف وسياسيين اوروبيين عديدين وصموا رئيس حزب العمل الجديد ألفريد سانت بالعمالة للولايات المتحدة. دوم منتوف عراب ومهندس علاقات مالطا العربية خصوصاً مع ليبيا والمعادي بقوة لدخول الولاياتالمتحدة الى الجزيرة، يشير بتلك التهمة الى عدد من المشاريع التي توشك ان تنفذها شركات اميركية في البلاد ومن شأنها تأمين فرص عمل لغالبية العاطلين عن العمل في البلاد والبالغ عددهم 7000 عامل. المشاريع الاميركية خلقت جاذبية كبيرة لدى الاوساط التجارية والمالية اذ سيجري تعمير واحياء جزيرة مارين شبه المهجورة وتحويلها الى مرفأ حديث لاصلاح وتجهيز السفن وربطها بالعاصمة فاليتا عبر اسطول من سفن "الهوفر كرافت" السريعة وانشاء نفق عملاق يخترق الجزيرة من طرفها الشمالي الى الجهة الاخرى تتوسطه محطات توقف بتكنولوجيات متقدمة للغاية وجسور الكترونية تلهي مخيلة المالطيين. المشروع بحد ذاته لا يثير اي شكوك، الا ان الاصوات المعارضة داخل حزب العمل وخارجه تعتقد ان هذا الاستثمار الكبير يمهد لتحويل مالطا الى مرتكز تجاري اميركي، بما في ذلك استخدامها كقاعدة عسكرية متقدمة عبرت عن الحاجة الماسة اليها تجنبها الاحراج الذي واجهته في السابق عندما رفضت فرنسا ودول اخرى السماح لطيرانها بالعبور في اجوائها او الهبوط في قواعدها. وبمعزل عن صحة الاطروحة الا انها تتسبب لا شك، بالكثير من القلق سواء لليبيا القذافي او لفرنسا واليونان وبقية دول المتوسط. ويذكر ان موقع مالطا الاستراتيجي كعقدة التقاء للطرق البحرية وخطوط التموين والامداد التجاري او العسكري جلب لها الكثير من المتاعب مع القوى الكبرى الطامحة بالاستيلاء على حوض المتوسط. ومنذ 870 ميلادية افتتح العرب المسلمون مالطا وبقوا فيها ما يقارب 200 سنة، وفيها بنوا مدناً ومواقع اكثر مما بنى اي وافد آخر، ولا تزال الاسماء واللغة العربية غالبة، منها عاصمتهم القديمة "المدينة" و"الرباط" و"سليمة" و"المرسى". كما استقتل نابليون بونابرت عشية غزوه مصر في العام 1798 لابقاء الجزيرة المتمردة ومرافئها تحت سيطرة فرنسا، وكقاعدة للاستراحة واعادة التمون ومركز قريب لمعالجة جنوده الجرحى ونقاهتهم، وتعرض فيها لثلاث محاولات للاغتيال على يد المالطيين. واثناء الحرب العالمية الثانية لعبت مالطا دوراً كبيراً، اذا لم نقل حاسماً، في وقف تقدم دول المحور للسيطرة على مياه المتوسط. وحولت بريطانيا، لتحقيق هذا الغرض، الجزيرة الصغيرة التي تبلغ ثلث مساحة لبنان فقط، الى قاعدة جوية ضمت في اوج نشاطها 230 طائرة حربية اجهزت على 65 في المئة من التموينات الموجهة لجيوش المحور المقاتلة في الحبشة وفي البر الليبي حين شن الجنرال رومل حملته المثيرة الهادفة الى احتلال مصر، بما كان سينطوي عليه ذلك من انقلاب لموازين القوى العسكرية في مرحلة حرجة للغاية من الحرب العالمية الثانية. دوم منتوف الذي طرد من الحزب لرفضه التصويت الى جانب بقية اعضاء الحزب الحاكم على اقرار الاتفاقات المنتظرة مع الاميركيين، عمد الى افتتاح صفحة جديدة على الإنترنت تحمل رسائله التحذيرية من سياسة خريج هارفرد الفريد سانت. خطاب منتوف على الشبكة لا يعدو التشهير السياسي ولا ينطوي، في الواقع، على اي جدل اصيل او معلومات موثقة تسند اتهاماته. ولكن الخطاب المعارض لحزب العمل بدوره، لا يخرج عن هذه الدائرة، فلكل اطروحاته وارقامه واحصاءاته العشوائية التي تتناقض مع الآخر على نحو كبير. ولا يكاد الصحافي او المراقب يفرغ من تصحيح او مراجعة معلومة الا ويفاجأ بجديد يدحض استخلاصاته. اوهام كبيرة لبلد صغير يعكس تمرد الزعيم السابق للحزب، دوم منتوف، الشخصية التاريخة الكارزمية، الذي وصل الى حد تأييد وتهنئة الحزب المعارض على فوزه، اثر البعد العربي في السياسة المحلية اكثر من اي شيء آخر، من دون ان يعني ذلك وجود سياسات متناقضة بالضرورة. فالعقلية التي تتحكم في خيارات السياسيين تركز على المكاسب الدانية من هذه السياسة او تلك. وهي محكومة بالخوف من الوجهة التي ستتخذها عقلية اصحاب الفنادق والحوانيت والفلاحين. البعد العربي يتمثل بالعلاقات الخاصة مع ليبيا وتونس والجزائر والعراق، اذ بنت مالطا معها، الى جانب غيرها من البلدان العربية شبكة علاقات تجارية معقدة ومتشعبة. ويكفي البقاء بضعة ايام في الجزيرة لاكتشاف المدى الذي اخترقت فيه المؤسسات الليبية التجارية السوق المالطية لتصل الى مستوى للشراكات يبدأ بالدولة ومصارفها وينتهي عند اصحاب المطاعم والفنادق والمحلات التجارية. ومع ان العلاقات مع طرابلس تعرضت بشكل مستديم الى صدمات بسبب التساهل او "المونة" الليبية الكبيرة على السلطة المالطية الا ان الصلة المميزة بين البلدين بقيت على حالها. ففي اكثر من مناسبة لم تتردد ليبيا في ارسال ضباط من الامن والبوليس لتعقب مطلوبين على الارض المالطية من دون استئذان اصحاب البلد. كما شهدت الجزيرة حالات اخرى لمطاردات وملاحقات ذات طابع سياسي هدفت الى "اقتياد" معارضين ليبيين من مالطا. لكن الوضع الخاص للجزيرة، وان كان يتيح لطرابلس ايجابيات منها حرية التحرك، الا انه يعطي خصومها الافضلية ذاتها. وهذا ما دللت عليه عملية اسرائيل الارهابية في 26 تشرين الاول اكتوبر عام 1995 باغتيال فتحي الشقاقي زعيم حركة الجهاد الفلسطينية، ونفذته قوة من 40 عميلاً للموساد وسمتها "العملية القيصرية". وتشير وثائق نشرها "الموساد" على الإنترنت، امعاناً في الترهيب، الى ان اسرائيل نجحت في اقتفاء اثر المسؤول الفلسطيني قبل مغادرته طرابلس وتابعته منها عبر عملاء مزروعين في مالطا، قبل توجهه الى فاليتا وكان في انتظاره فريق اسرائيلي متأهب امام فندقه ونفذ العملية قبل الهرب عبر صقلية الى تل ابيب. الطموح المالطي لابقاء الجسور ممدودة الى جيرانهم العرب يهدف، على المدى البعيد، الى تحويل مالطا الى "سويسرا متوسطية"، اي دولة محايدة، شبه منزوعة السلاح، ترتبط بعلاقات مع الجميع. وهي تأمل من ذلك ان تتحول الى مركز انتقالي للتكنولوجيا الغربية الاوروبية خصوصاً، الموجهة الى الدول العربية المنضوية في الشراكة المتوسطية وممراً للمنتجات والسلع الواردة من الضفة الثانية للمتوسط. كما تأمل ان تعتمد، على الاقل خلال المرحلة الاولى من تنفيذ برامج التعاون العربي - الاوروبي، الى مركز اقليمي للتدريب والتأهيل طالما بقيت العلاقات العربية - الاسرائيلية على حالها. وشجعها على ذلك عقد المؤتمر الوزاري المتوسطي في نيسان ابريل من عام 1997 في مالطا بعد ان رفضت اي دولة عربية فكرة عقده على اراضيها بحضور اسرائيل. وتسابق مالطا الزمن لتطوير مؤسساتها التجارية والمصرفية وعلاقاتها بالمعلوماتية كذراع للتوصيل والتفاعل المعاصر لتعزز ارجحيتها واستعدادها لهذه المهمة، ومنها بناء جامعة للعلوم المتوسطية ومباشرتها عقد ندوات للحوار المتوسطي المفتوح على اكثر من مستوى. ولعل بعض النجاحات الاقتصادية مستقبلاً، ولا سيما تحقيق حلمها بالعثور على النفط ستتيح لها ان تلعب دورها بثقة اكبر. هذا الحلم لا يزال يداعب مخيلة المالطيين منذ منتصف القرن الجاري اذ واضبت مالطا على منح 16 شركة عالمية تراخيص للتنقيب. وفي حالات محددة بدى ان ثمة احتياطاً في مناطق الجرف القاري المحاذي لليبيا وتونس. لكن ليبيا تقول ان ذلك الجرف ارض ليبية وذهبت مع مالطا الى محكمة العدل للتحكيم. فهل يقرب النفط القاري مالطا الى الضفاف العربية والافريقية بعد فوز المعارضة ام ستظل تسبح في مياه غير مسبورة الأغوار؟