يكثر الحديث هذه الأيام حول القمة العربية، وتتراشق خلف الكواليس اوساط فلسطينية وعربية رسمية التهم حول تعطيل انعقادها. والواضح ان حديث القمة سيتواصل خصوصاً ان هناك اطرافاً عربية لها مصلحة في انعقاده في هذه الفترة، بل هي مصممة على متابعة الجهود الأولية التي بذلها في الأسابيع الماضية اقطاب الدول العربية الرئيسية. في حينه كانت حصيلة النشاطات والتحركات: اجماع نظري عربي على اهمية وضرورة عقدها، وتفجر خلافات عربية دفينة حول هدفها وجدول اعمالها، وحول النتائج التي يجب ان يخرج بها المجتمعون اذا اجتمعوا، وأدلى اكثر من طرف اقليمي ودولي برأيه في الموضوع. كان الأبرز والأهم هو ما قاله مستشار رئيس الوزراء الاسرائيلي: "دعوة عرفات للقمة دعوة لتدخل خارجي في المفاوضات، وبحث مؤتمر القمة في حالة عملية السلام على مسارها الفلسطيني - الاسرائيلي خرق لاتفاق اوسلو". ولم يبق امامه الا ان يطالب العرب بالاطلاع على بيانهم الختامي قبل نشره بعدما حاول تحديد جدول الاعمال! فهل تنعقد القمة ومتى؟ وهل هناك ضرورة لقمة عربية في هذه الفترة؟ وماذا يمكن ان تقول وان تفعل؟ وهل استراتيجية السلام التي تبناها العرب كانت ولا تزال صحيحة من حيث المبدأ ام انها لم تعد صالحة؟ وهل المطلوب قمة لانقاذ عملية السلام ام للاعلان عن وفاتها وتشييعها الى مثواها الاخير؟ وهل لدى الزعماء العرب بدائل سياسية عن المفاوضات؟ اسئلة كثيرة تركتها في الشارع العربي تطورات عملية السلام، والتحركات والتصريحات العربية المتناقضة التي صدرت حول القمة. اما فشل الزعماء العرب في الاتفاق، حتى الآن، على عقد قمة فساهم في توسيع حال اليأس والاحباط في الشارع الفلسطيني، وعمّق انعدام الثقة الشعبية بالنظام الرسمي العربي، وزاد شكوك ابناء الضفة والقطاع في جدوى مناشدة الاشقاء. والواضح ان استمرار هذا الفشل يغري الآخرين بمواصلة التطاول والتدخل في شؤون العرب الداخلية، والتدخل الاسرائيلي الفج في الذي سمعناه وشاهدناه نموذج لذلك. حاول بعض العرب التستير على الفشل بالحديث تارة عن ضرورة التحضير الجيد للقمة، واخرى باتهام الادارة الاميركية بالضغط لتعطيل انعقادها. وهذا الحديث هروب مكشوف من مواجهة الذات ومن مصارحة الشعوب العربية بالحقائق. فاتهام الادارة الاميركية بالتعطيل ينطبق عليه، اذا صحت التهمة، المثل القائل "عذر اقبح من ذنب". والتحقيق الموضوعي في التهمة يبرئ المتهم منها. فادارة كلينتون - اولبرايت، في الوقت الذي لم ولن تتخلى عن تفردها في رعاية عملية السلام، بحاجة الآن لارتفاع اصوات عربية وأوروبية ضد مواقف نتانياهو المتطرفة والمحرجة والمهينة لها. ومثل هذه الاصوات تساعدها داخلياً في مواجهة الاصوات الاميركية القوية، وبخاصة داخل الكونغرس، الداعية الى نصرة نتانياهو ظالماً او مظلوماً. وهي تعرف بأن القمة العربية اذا عقدت لن تعلن الحرب ضد اسرائيل، ولن تتراجع عن عملية السلام وإنما تسعى الى دعم جهود انقاذ عملية السلام. اما الحديث العربي الذي سمعناه وما زلنا نسمعه عن ضرورة التحضير الجيد للقمة، فالواضح انه حديث تضليلي يحاول ستر عورة الحكام العرب، ويكشف بوضوح طبيعة الازمة التي يعانيها النظام السياسي العربي وعمقها في هذه المرحلة، ويبرز حاجته الماسة الى القطب القوي او الزعيم القادر على التجميع والتوحيد، ويؤكد عدم قدرة "الحكماء" منهم على معالجة الخلافات العربية العميقة. لقد تعطلت القمة بسبب استمرار الفكر السياسي العربي في التخبط بين الواقعية والمثالية والخيال، وبين الذاتية والموضوعية. وغياب المفهوم العلمي الواقعي للعمل العربي المشترك وعدم القدرة على تحديد الأولويات وعدم القدرة على الاتفاق على سبل النهوض بها. وأيضاً بسبب استمرار تغليب المصالح القطرية الضيقة للأنظمة على المصالح القومية الواسعة للشعوب العربية، وإصرار بعضهم على فرض موقفه على الآخرين، ورفض البعض الآخر اعتماد مبدأ البحث عن القواسم مشتركة توحد المواقف حول القضايا المشتركة. وإذا كان التحرك العربي لعقد القمة ليس جديداً، وسبق للفلسطينيين ان طالبوا قبل شهور بعقدها، ولم يستجب طلبهم. فالواضح انها كانت ولا تزال ضرورية وملحة. فالعلاقات العربية - العربية بحاجة الى اعادة صياغة وإعادة تنظيم على اسس جديدة تتناسب وتطور العلاقات الدولية على ابواب القرن الحادي والعشرين، خصوصاً ان النظام العربي اصبح في نظر معظم القوى الدولية "بمثابة الرجل المريض" يتربص الكل بامكاناته وأرضه. والواضح ان تأخير انعقاد القمة لا تعالج مشاكل الدول العربية بل تزيدها تدهوراً، وتزيد من مطامع الآخرين وتطاولهم. وينطبق الشيء نفسه على ترك الفلسطينيين وحدهم يواجهون ضغوط كلينتون وابتزاز نتانياهو. فمصير عملية السلام على المسار الفلسطيني شأن اقليمي يمسّ العرب جميعاً، وانهيارها ينعكس سلباً على اوضاعهم الداخلية وعلى علاقاتهم الخارجية شاؤوا أم أبوا. وإذا كان الاجماع العربي على ضرورة عقدها ليس معزولاً عن خيبات الأمل في مستقبل عملية السلام على كل مساراتها، بعدما ثبت بالملموس ان نتانياهو لا يريد سلاماً ولا يريد ان يفاوض، وإنما يريد ان يفرض عليهم شروطه المذلة، فبعد سبع سنوات من المفاوضات عليهم ان يتفقوا على نهج موحد في التعامل مع اسرائيل، وتحديد سبل وقف الاهانات اليومية التي يوجهها نتانياهو لهم جميعاً. وأكدت وقائع حياة عملية السلام وتؤكد يومياً عدم رغبة او عدم قدرة الراعي الاميركي على القيام بالدور الذي خصصه لنفسه وفرضه على الآخرين. وهو يكرر يومياً اصدار مواقف محبطة ويطلق اوصافاً مأسوية عن حال عملية السلام: "العملية تحتضر" و"على وشك الانهيار" و"في مأزق خطير" و"امام طريق مسدود". ويحجم عن اتخاذ المواقف المناسبة او اعلان من المسؤول عن وصول العملية لحالتها المأسوية، ويصمت على سياسات نتانياهو القاتلة لها ويقدم له دعماً كبيراً. اما ماذا يمكن ان تقول وتفعل القمة، فالواضح ان بامكانها ان تقول اشياء كثيرة ضرورية، وان تفعل اشياء قد تكون قليلة لكنها مهمة جداً. فبجانب الشروع في اعادة تنظيم العلاقات العربية الداخلية السياسية والامنية والاقتصادية والعلمية، ووضع ميثاق شرف ينظم العمل المشترك في ظل وجود الخلافات، لا بد من ان تكون هناك سياسة عربية واضحة وخطوات عملية ملموسة مقرونة باعادة تحديد المسؤوليات والواجبات تجاه حالة عملية السلام شبه الميؤوس منها. ومن غير المنطقي ان يبقى العرب ينتظرون ما يمكن ان يقوم به الآخرون، وأن يستمروا في الظهور عاجزين، وان لا يعملوا المتاح سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً. فمواقف اسرائيل تعتمد في كثير من الاحيان على العجز العربي. واستمرار حالة العجز والتردد السائدة ستؤدي حتماً الى مزيد من اضاعة الوقت ومن ضياع الحقوق. وتشجع الآخرين على التدخل اكثر فأكثر في شؤونهم، وتولد مزيداً من الضغوط الاميركية عليهم. وقد تتسبب في تفجير صراعات تناحرية في ما بينهم. وتشجع كل طرف من الاطراف العربية على البحث عن حلول لمشاكله وقضاياه خارج الاطار العربي وبالتحالف مع آخرين، حتى لو كانت ضارة بمصالح بعض العرب ومؤذية للمصالح القومية وللاستراتيجية العربية المشتركة، ان وجدت. وإذا كانت القناعة مشتركة بأن كلينتون غير قادر على القيام بدور الراعي العادل والنزيه، حتى اذا رغب، يصبح المطلوب ان يعلن العرب بأن الادارة الاميركية عاجزة عن رعاية عملية السلام ودعوة العالم والأمم المتحدة لتحمل مسؤولياتها. وربط اعلانهم بخطوات عملية موحدة تجذب تدخلاً دولياً اوسع. وإذا كانت القناعة العربية مشتركة بأن نتانياهو يريد ان ينسف الاتفاقات التي وقعها مع الفلسطينيين، وان يدفن عملية السلام، ولا يمكن التقدم على طريق السلام في عهده... الخ، يصبح المطلوب عربياً اعلان التمسك بالسلام كاستراتيجية لحل صراعات المنطقة ونزاعاتها المستفحلة. والحفاظ على المكاسب التي تحققت على المسارين الفلسطيني والأردني، ودعم وإسناد الموقفين السوري واللبناني المتمسكين بوحدة مساريهما وبمواصلة المفاوضات من حيث توقفت وليس من حيث يريد نتانياهو، ومواصلة التمسك بالاتفاقات الموقعة ورفض اي تلاعب فيها. وافهامه بأن التلاعب بالاتفاقات مع اي طرف عربي يهدد مصير الاتفاقات مع الآخرين، وإعلان مقاطعته ووقف التفاوض معه لحين الالتزام بتنفيذ ما اتفق عليه ووقعه. وربط هذا الاعلان بوقف اشكال التنسيق الامني وكل اللقاءات الثنائية الفلسطينية - الاسرائيلية السرية قبل العلنية. ووقف كل خطوات التطبيع السياسي والتجاري التي قدمت للاسرائيليين من قبل العرب تشجيعاً لهم على السير في طريق السلام، ورهن عودتها بعودة الحكومة الاسرائيلية للسير عليه باستقامة، ووقف اجراءاتها احادية الجانب وبخاصة عمليات الاستيطان التي تقوم بها في هذه الأيام داخل اسوار مدينة القدس القديمة وفي مواقع اخرى متعددة. وفي انتظار ان تتوضح المواقف العربية من مسألة انعقاد القمة لا بد من ان تكون هناك مواقف فلسطينية حاسمة وقاطعة تقول للعرب والعالم ولشعبها موقفها من توجهات نتانياهو، وبخاصة نسبة الانسحاب المعروفة والشروط الموضوعة حولها. فالتردد والعجز الفلسطيني يؤديان الى مزيد من اضاعة الوقت ومن ضياع الحقوق. وعدم وضوح الموقف واستمرار اللقاءات العلنية والسرية يضعف القدرة على حشد الطاقات العربية. واعتقد ان المصلحة الوطنية، بما في ذلك تعزيز الموقف التفاوضي الفلسطيني، باتت تفرض على القيادة الفلسطينية اعادة النظر فوراً في ترتيب الاولويات الوطنية ووضع مسألة تصليب البناء الداخلي، وتعزيزعلاقات السلطة مع مختلف الفئات. وفي سياق الحديث عن القمة لعل من الضروري القول اذا تعذر عقد القمة، كما هو واضح، خلال فترة قريبة فمن المهم ان لا تقود الدعوة والتحركات والتباينات تجاه عقدها الى تعميق الانقسام وتوسيع التناحر بين الانظمة العربية. وان لا تتحول اذا عقدت الى ميدان للمزاودة ولتصفية الحسابات. فمواجهة التحديات الخارجية اهم بكثير من تصفية الحسابات الداخلية. * كاتب وسياسي فلسطيني