الدوسري: التحديات بالمنطقة تستوجب التكامل الإعلامي العربي    إضافة خريطة محمية الإمام لخرائط قوقل    "الشؤون الاقتصادية": اكتمال 87% من مبادرات الرؤية    "البحر الأحمر" تسلم أول رخصة ل"كروز"    المملكة تفوز بجوائز "WSIS +20"    القادسية يتوج ب"دوري يلو"    الهلال يعلن تمديد عقد مدربه جيسوس    وزير الداخلية يدشن مشروعات حدودية أمنية بنجران    حفل تكريم طلاب وطالبات مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية بالمنطقة    طائرات "درون" في ضبط مخالفات المباني    رونالدو.. الهداف «التاريخي» للدوري    وزير الحرس الوطني يرأس اجتماع مجلس أمراء الأفواج    أمريكا: العودة لرفع الفائدة.. سيناريو محتمل    «الشورى» يطالب «حقوق الإنسان» بالإسراع في تنفيذ خطتها الإستراتيجية    أمير تبوك يطلع على استعدادات جائزة التفوق العلمي والتميز    5 أعراض يمكن أن تكون مؤشرات لمرض السرطان    تحذير لدون ال18: القهوة ومشروبات الطاقة تؤثر على أدمغتكم    هذه الألوان جاذبة للبعوض.. تجنبها في ملابسك    إعادة انتخاب المملكة لمنصب نائب رئيس مجلس محافظي مجلس البحوث العالمي    70 مليار دولار حجم سوق مستحضرات التجميل والعناية الشخصية الحلال    القيادة تهنئ رئيسي أذربيجان وإثيوبيا    سعود بن نايف: الذكاء الاصطناعي قادم ونعول على المؤسسات التعليمية مواكبة التطور    المملكة تدين مواصلة «الاحتلال» مجازر الإبادة بحق الفلسطينيين    رفح تحت القصف.. إبادة بلا هوادة    الملك يرأس جلسة مجلس الوزراء ويشكر أبناءه وبناته شعب المملكة على مشاعرهم الكريمة ودعواتهم الطيبة    أمير الرياض ينوه بجهود "خيرات"    «أمانة الشرقية» تنفذ 3700 جولة رقابية على المنشآت الغذائية والتجارية    مؤتمر بروكسل وجمود الملف السوري    هيئة تنظيم الإعلام: جاهزون لخدمة الإعلاميين في موسم الحج    «جائزة المدينة المنورة» تستعرض تجارب الجهات والأفراد الفائزين    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي اليوم    مكتب تواصل المتحدثين الرسميين!    هؤلاء ممثلون حقيقيون    أمير المدينة يستقبل السديس ويتفقد الميقات    الهلال الاحمر يكمل استعداداته لخدمة ضيوف الرحمن    الإسراع في بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد    تتويج الفائزين بجوائز التصوير البيئي    كلية القيادة والأركان للقوات المسلحة.. ريادة في التأهيل والتطوير    أسرة الحكمي تتلقى التعازي في محمد    تواجد كبير ل" روشن" في يورو2024    في نهائي دوري المؤتمر الأوروبي.. أولمبياكوس يتسلح بعامل الأرض أمام فيورنتينا    العروبة.. فخر الجوف لدوري روشن    أخضر الصم يشارك في النسخة الثانية من البطولة العالمية لكرة القدم للصالات    «أوريو».. دب برّي يسرق الحلويات    القارة الأفريقية تحتفل بالذكرى ال 61 ليوم إفريقيا    الحسيني وحصاد السنين في الصحافة والتربية    اختتام معرض جائزة أهالي جدة للمعلم المتميز    ولاء وتلاحم    بطاقات نسك    مثمنًا مواقفها ومبادراتها لتعزيز التضامن.. «البرلماني العربي» يشيد بدعم المملكة لقضايا الأمة    أمريكي يعثر على جسم فضائي في منزله    وزارة البيئة والمياه والزراعة.. إلى أين؟    شاشات عرض تعزز التوعية الصحية للحجاج    دعاهم للتوقف عن استخدام "العدسات".. استشاري للحجاج: احفظوا «قطرات العيون» بعيداً عن حرارة الطقس    عبدالعزيز بن سعود يلتقي القيادات الأمنية في نجران    سلمان بن سلطان: رعاية الحرمين أعظم اهتمامات الدولة    ملك ماليزيا: السعودية متميزة وفريدة في خدمة ضيوف الرحمن    إخلاص وتميز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اختلاف قراءة محمد خاتمي عن عبدالقديم زلوم . المواقف الاسلامية من المسألة الديموقراطية
نشر في الحياة يوم 05 - 05 - 1998

منذ بدء الموجة الثالثة للديموقراطية، حسب المراحل التي اقترحها صامويل هانتنغتون، شهدت الساحات الاسلامية في مختلف البلدان العربية والاسلامية نقاشات ساخنة حول الديموقراطية، والموقف الاسلامي منها. وأدت هذه النقاشات الى بروز وجهات نظر مختلفة ومتفاوتة ومتعددة من المسألة الى درجة صار متعذراً معها القول بوجود موقف اسلامي واحد منها.
ويكمن الاختلاف في سببين هما الاختلاف في فهم الديموقراطية من جهة، والاختلاف في فهم الاسلام، من جهة ثانية.
يُعزى اختلاف الاسلاميين في فهم الديموقراطية، من بين اسباب اخرى، الى عدم انتباه بعضهم الى ما يمكن تسميته بپ"تاريخية" المصطلح. وهي ظاهرة اضحت موضع قبول واقرار كل الباحثين في تاريخ الافكار السياسية. فليس هناك مفهوم واحد للديموقراطية في كل العصور، انما تطور بتغير الزمن واختلاف الاوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية للبشرية، حتى اصبح من الصحيح الزعم ان المعنى الاثيني للديموقراطية الذي اكد عليه بيركليس مثلاً لم يعد له وجود في الوقت الحاضر، وان الحياة افسحت المجال لظهور ما يمكن تسميته بالديموقراطية المعاصرة التي يعتقد هانتنغتون انها مجرد "آليات لاقامة المؤسسات الحاكمة ومحاسبتها"، كما قال في مقال له في مجلة "الديموقراطية"، عدد تشرين الأول اكتوبر 1997، ص6.
ونلاحظ ان غالبية المعارضين لفكرة الديموقراطية انما يرجعون الى المفهوم الاثيني لها، الذي يقول ان الديموقراطية "هي حكم الشعب بالشعب وللشعب" الذي لم يعد متداولاً في الاوساط الفكرية والسياسية بسبب الصعوبات المفهومية والاجرائية والتطبيقية التي تعترضه.
ومن هؤلاء الاسلاميين المعارضين بعنف للديموقراطية زعيم حزب التحرير الاسلامي عبدالقديم زلوم الذي انتهى في 27 ايار مايو عام 1990 من كتابة رسالة من 62 صفحة بالحجم الصغير حول الديموقراطية حملت العنوان الطويل الآتي: "الديموقراطية نظام كفر يحرم اخذها او تطبيقها او الدعوة اليها". وصدرت طبعة ثانية للرسالة في آب اغسطس عام 1995 من دون الاشارة الى مكان الطبع في المرتين وذلك بسبب الطابع السري الذي يلف مجمل نشاطات حزب التحرير وأعماله.
ينطلق زلوم في مناقشة الديموقراطية من التعريف المدرسي الكلاسيكي المنسوب الى العصر الاثيني والقائل ان الديموقراطية هي "حكم الشعب للشعب بتشريع الشعب". وهذا هو في الواقع ليس نص التعريف لأن زلوم ادخل فيه عبارة "بتشريع الشعب". لكن يمكن التجاوز عن هذا، للتركيز بدلاً عنه بالاشارة الى ان هذا التعريف لم يعد هو المدخل العلمي ولا الواقعي السليم لمناقشة فكرة الديموقراطية بعد كل التغيرات التي طرأت عليها خصوصاً خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وبالذات منذ اصدر شومبيتر دراسته القيمة حول "الرأسمالية الاشتراكية والديموقراطية" في العقد الخامس من القرن الجاري. ويرى شومبيتر ان الديموقراطية هي "ذلك الترتيب المؤسساتي للوصول الى القرارات السياسة التي تحدد المصلحة العامة من خلال تمكين الناس الشعب نفسه من اتخاذ القرارات عبر انتخاب اشخاص يتولون تنفيذ ارادة الشعب". وواضح من هذا التعريف ان الديموقراطية تحولت الى آلية محايدة، تكتسب مضمونها من خلال ارادة الشعب الذي يقرر طبقاً لعقيدته محتوى النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يحقق مصلحته.
يذكر زلوم ان الديموقراطية "لفظة غربية". وهذا صحيح، بمقدار ما نعتبر ان اللغة اليونانية لغة غربية، الامر الذي يناقش فيه البعض. لكنه لم يذكر ان هناك ممارسات ديموقراطية عرفها العالم غير الغربي حتى قبل الديموقراطية الاثينية، كما عند الفينيقيين الذين يعتقد سيمون هوربلور انهم آباء الديموقراطية الاثينية. وهناك مؤشرات ديموقراطية مشابهة وأكثر وضوحاً في العراق القديم وهذا محل اتفاق وإجماع مؤرخي العصور القديمة. بل ان مانغلابوس يورد نماذج محلية ووطنية للديموقراطية في المجتمعات الافريقية والآسيوية التي لا علاقة لها بالغرب وقبل احتكاكها بالغرب اصلاً. وبالتالي فان الاصرار على اعتبار الديموقراطية بضاعة غربية لا يستند الى اطلاع سليم على التاريخ السياسي لكثير من الشعوب غير الأوروبية.
وإذا كان زلوم مصراً على اعتبار الديموقراطية حكم "كل الشعب بكل الشعب"، فمن الطبيعي ان يجد صعوبة في تطبيق هذا الاسلوب من الحكم، "فان اجتماع الشعب كله في مكان واحد وعلى الدوام للنظر في الشؤون العامة مستحيل، وان يتولى الشعب كله الحكم والادارة مستحيل". وهذا صحيح. وهو النقد المشترك الذي يجمع على القول به كل الباحثين السياسيين، لكنهم يوردونه لا لكي ينقضوا الديموقراطية وإنما لكي يوضحوا ان المفهوم الاثيني القديم لم يعد ممكناً او مقبولاً الامر الذي يحتم بطبيعة الحال تطوير المفهوم الى امر معقول ومقبول.
بعد هذا يبدأ زلوم باطلاق القذائف قائلاً: "الديموقراطية التي سوّقها الغرب الكافر الى بلاد المسلمين هي نظام كفر، لا علاقة لها بالاسلام، لا من قريب ولا من بعيد. وهي تتناقض مع احكام الاسلام تناقضاً كلياً في الكليات وفي الجزئيات، وفي المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، وفي الافكار والانظمة التي اتت بها. لذلك يحرم على المسلمين اخذها، او تطبيقها، او الدعوة اليها تحريماً جازماً".
وتشي العبارة السابقة بأن زلوم يعتبر الديموقراطية نظاماً انبثق من عقيدة، وهو امر يحمل الديموقراطية المعاصرة اكثر مما تحتمل من المعطيات، وهكذا يكشف مرة اخرى عن بعد واضح عن حركة الفكر السياسي العالمي والتطورات التي تحصل فيه. وبديهي ان تقرير موقف اسلامي من أي فكرة يجب ان ينطلق مما عليه الفكرة في وقت تقرير الحكم والموقف وليس عما كانت عليه قبل ذلك مما لم تعد عليه الآن.
ثم يضيف ان الديموقراطية "مبنية على الكذب والتضليل، ونبيّن فسادها ونتنها، وما جرت على العالم من مصائب وويلات ومدى فساد المجتمعات التي طبقت فيها"، ويقول ان "القول ان البرلمانات في البلاد الديموقراطية تمثل رأي الاكثرية وان الحكام منتخبون برأي الاكثرية، وانهم يحكمون بما تشرعه الاكثرية وتريده هو قول يخالف الحقيقة والواقع وهو كذب وتضليل".
وتكشف هذه العبارة عن خلط غير مقبول على صعيد البحث العلمي بين الفكرة وتطبيقها، فلا يجوز على صعيد البحث العلمي ان نتهم الاسلام بالتخلف مثلاً لأن المسلمين متخلفون، فواقع المسلمين لا يكشف عن طريق الدلالة الالتزامية عن حقيقة الاسلام، كذلك الامر بالنسبة للديموقراطية. فوجود ممارسات معينة في المجتمعات الآخذة بالديموقراطية لا ينتقص من فكرة الديموقراطية في المساحة التي تغطيها من المساحة السياسية للمجتمع. فهذه اعراض لحقت الديموقراطية "بالعرض لا بالذات"، كما يقول ابن رشد، الذي يوضح قاعدة ذهبية تقول: انه "ليس يلزم ان غوى غاو... ان نمنعها عمن هو اهل لها".
ويقف زلوم موقفاً متشدداً من فكرة الحريات العامة ويقول: "ان من اشد ما بليت به الانسانية ما جاء به النظام الديموقراطي من فكرة الحريات العامة، التي ترتب عليها ما ترتب من ويلات للبشرية، ومن انحدار المجتمعات في البلدان الديموقراطية الى مستوى احط من مستوى قطعان البهائم".
ويرى ان الحريات الأربع المنسوبة الى الديموقراطية، اي حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية التملك والحرية الشخصية، "غير موجودة في الاسلام، فالمسلم مقيّد في جميع افعاله بالاحكام الشرعية، وليس حراً في اي فعل، ولا توجد في الاسلام حرية، الا حرية تحرير العبيد من الرق، وقد انتهى الرق من زمن بعيد. والحريات الأربع تتناقض مع الاسلام وأحكامه تناقضاً تاماً في كل شيء"، "فهي افكار كفر وحضارة كفر وأنظمة كفر وقوانين كفر".
وبناء على ذلك اصدر فتواه بحرمة الاخذ بها والعمل بها وقال: "لذلك يحرم على المسلمين اخذها او الدعوة اليها او اقامة احزاب على اساسها او اتخاذها وجهة نظر في الحياة او تطبيقها، او جعلها اساساً للدستور والقوانين، او مصدراً من مصادر الدستور والقوانين، او جعلها اساساً للتعليم او لغايته. ويجب على المسلمين ان ينبذوها نبذاً كلياً، فهي رجس وهي حكم الطاغوت وهي كفر وأفكار كفر وأنظمة كفر وقوانين كفر ولا تمت الى الاسلام بأية صلة".
على خلاف عبدالقديم زلوم، يطرح رئيس الجمهورية الايرانية محمد خاتمي موقفاً مختلفاً من الديموقراطية. وإذا اردنا ان نصور حجم الفرق بين الرأيين لكفانا ان نصور الفرق بين الرجلين:
فزلوم زعيم حزب سري يتخذ موقف المعارضة المطلقة لكل انواع الحكومات والأنظمة القائمة، في حين ان خاتمي متخصص بالعلوم الشرعية وصل الى رئاسة جمهورية اسلامية عبر عملية انتخابية. فالفرق بين خاتمي وزلوم هو الفارق بين رجل الدولة ورجل المعارضة. فالثاني ينطلق من قناعات نظرية ربما اصابتها ظروف العمل السري والمطاردات الامنية بشيء من الصلابة التي تجعل من الصعب على صاحبها ان يتقبل احداث اي تغيير فيها، في حين ان الأول ينطلق من التجربة العملية وما تفرضه من دروس وتجارب وعبر، ولا بد انه يتذكر قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: في التجربة علم مستأنف. وعلم التجربة يختلف عن علم الكتب، اذ هو في الثاني نظريات ما زالت بحاجة الى تمحيص ومراجعة وتثبت. وألهمت تجربة الحكم في ايران منذ عام 1979 مع كل التقلبات التي تعرض لها، الهمت هذه التجربة الرئيس خاتمي دروساً مهمة لعل في اهمها وأولها ان الانسان هو القيمة الأولى في العملية السياسية وانها تتجلى في تنمية الانسان، لكن التنمية مشروطة بالحرية. وتبلورت هذه القناعات في منظومة فكرية طرحها خاتمي في عام 1995 على الشكل الآتي:
اولاً، لن يكون اي تحول انسانياً وفاعلاً ما لم تكن هناك مشاركة ارادية واعية للبشر في ايجاده.
ثانياً، يتمثل الشرط الأساسي في حضور الانسان ومشاركته الواعية الحرة في ظاهرة التقدم والتغيير، بوجود فكر مستقر ثابت في المجتمع.
ثالثاً، لن يتحقق وجود فكر مستقر وفاعل الا في اطار الحرية.
ويستخلص من هذه المقدمات نتيجة جوهرية تقول انه لا يمكن ان ننتظر دخول أي تحول ايجابي على اي مجتمع الا مع شيوع الحرية ورسوخها فيه.
اما ما هي الحرية التي يقصدها فهي: "حرية الفكر، وتوافر عناصر الأمن في ابدائه، وتهيئة المقدمات اللازمة لتأمين تلك الحرية وضمان هذا الأمن" ذلك "ان التغيير والتقدم ينبغي ان يُسبقا بالفكر، والفكر لا ينمو الا في اطار الحرية وعلى أرضيتها".
يبدأ خاتمي في صياغة موقفه من الديموقراطية من تحديد موقف مبدئي من مسألة الدولة، ومصدر مشروعيتها. فالدولة عنده انتاج بشري، وليس كياناً الهياً، حتى لو كانت دولة اسلامية. وهو في هذا يتوافق مع رأي مؤسس حزب التحرير المرحوم تقي الدين النبهاني، الذي قال في كتابه القيم "نظام الحكم في الاسلام" ان دولة الخلافة الاسلامية "دولة بشرية وليست دولة الهية" واضح فيه ان "الخلافة منصب بشري، يبايع فيه المسلمون من يشاؤون، ويقيمون عليهم خليفة من يريدون من المسلمين".
لكن... لا تقي الدين النبهاني مضى في هذا الرأي الى نهايته الطبيعية ولا عبدالقديم زلوم، على خلاف خاتمي الذي فعل ذلك وقرر ان الناس هم المسؤولون عن انتاج السلطة، الامر الذي لم يتوصل الىه حزب التحرير. وهذا هو جوهر حل الازمة مع الديموقراطية، ان كانت هناك ازمة، او جوهر المصالحة معها على المستوى الاسلامي. فالدولة كيان بشري، وإذا كانت مشكلة الدولة مع مجتمعها هي مشكلة الشرعية، فان حل هذه المشكلة يكمن في اقرار ان هذه المشروعية تستمد من الناس انفسهم. ولا بأس بالتفريق بين المشروعية السياسية والشرعية الدينية والتأكيد على ان المقصود هو المشروعية السياسية، وان الناس هم مصدر هذه المشروعية السياسية، وليس الشرعية الدينية، التي لا علاقة للناس، بل لمطلق البشر بها. فارادة الناس لا تضفي شرعية دينية على احد، لكنها تفعل ذلك بالنسبة للمشروعية السياسية.
يقول خاتمي في حوار اجرته مجلة "المنطلق" اللبنانية في العدد 115 في ربيع/ صيف 1996: "انني شخصياً اعتقد ان الحكومة امر مفوض للناس. والدين قد رسم القواعد الكلية والضوابط العامة للنظام السياسي، الا ان تحديد ما يناسب هذه الامور او ما لا يناسبها موكول الى الناس، كما ان قيام الحكومة واستمرارها يتبعان ارادة الناس ورغبتهم". ويضيف: "اذا اعتبرنا ان رأي الشعب هو مصدر شرعية الحكومة وجب علينا التسليم بأن رأيه هو شرط دوامها واستقرارها". و"أرى ان ارادة الناس ورغبتهم شرط اساس لقيام الدولة ولضمان دوامها. بل بوسعي ان أتصور قيام دولة خارج ارادة الناس ورغبتهم، ولكن يصعب عليّ تصور استقرارها ودوامها لأنها غير مطلوبة اصلا". و"لا يمكن لدولة اسلامية ان تقوم ولا يمكن لحكومة ان تستمر بمعزل عن الناس وإرادتهم، فللشعب الدور الأساس والحاسم في هذا المجال. ومثل هذا ينطبق على الحكومات غير الاسلامية ايضاً، لأن الكلمة الفصل يجب ان تكون دائماً للشعب".
ويقرر ان الدين لم يحدد شكل الحكومة الاسلامية على رغم انه "رسم القواعد الكلية والضوابط العامة للنظام السياسي" كما قال في الفقرة السابقة. و"ليس هناك شكل واحد متفق عليه بين الفقهاء والمفكرين الاسلاميين للحكم الاسلامي ولا شرائط مخصوصة متوافقاً عليها، لأن الفهم الموحد والرؤية الموحدة للاسلام غير موجودين". "وفي ما يتعلق بمسألة الدولة فإن الدين قد حدد الضوابط الأساسية والاطار العام وأما الحكومة فأمر مرجعه الى الناس".
وهذا امر يكاد يكون موضع اتفاق كل الباحثين في شؤون النظام الاسلامي، باستثناء الذي يرون اعادة انتاج دولة المدينة ومن بعدها الدولة العربية الاسلامية التي اقامها الخلفاء الراشدون بكل حذافيرها وتفاصيلها. ويعتبرون ان هذا هو الموقف الشرعي الوحيد. اما غيرهم من كبار المفكرين والفقهاء المسلمين فيرون ان الاسلام وضع خطوطاً عريضة لبناء النظام السياسي في مجتمع المسلمين، تاركاً التفاصيل الى المسلمين انفسهم يتوصلون الى وضعها من خلال التجربة والخبرة الاجتماعية وتوظيف الطاقة الابداعية للعقل البشري.
ما هي الديموقراطية عند خاتمي؟
اذا كان زلوم اكتفى في فهم الديموقراطية بالرجوع الى تعريفها المدرسي الكلاسيكي الاثيني متجاهلاً تاريخية المصطلح والتغيرات التي طرأت عليه، ينطلق خاتمي من المفهوم المعاصر مقدماً رؤية يمكن تفكيك عناصرها الى الآتي:
1- "ان تغيرات كثيرة عبر تاريخها - اي الديموقراطية - قد طرأت عليها، حتى غدت في عصرنا هذا الطريق الوحيد للوصول الى الحكومة". وبهذا يتجاوز خاتمي التعاريف المدرسية الكلاسيكية ويمسك بزمام المفهوم المعاصر لها الذي افرزته التطورات المتلاحقة والتغيرات الكثيرة التي لحقت بهذا المفهوم حتى اوصلته الى ما هو عليه الآن. فپ"الديموقراطية تعني ان الحكومة من الشعب وفي خدمته ومسؤولة امام الناس وتجاههم وهذا يستلزم حرية التفكير والاعتقاد وحرية التعبير وحرية الاجتماع وغير ذلك من النشاطات". و"الحرية السياسية تعني ان الناس هم مصدر شرعية الحكومة، وان لهؤلاء الناس الحكم النهائي لها وعليها. بكلمة اخرى، ان الناس هم أساس الحكومة، وفيهم تضرب جذورها وان بيدهم مصيرها ايضاً". وهي تعني عنده: "حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية محاسبة الحكومة ومساءلتها".
اذن، فپ"هذه هي الديموقراطية المطروحة: الدولة تنبع من الشعب، والحكم والبت بأمرها يعود الى الناس وارادتهم، وهذا يقتضي حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الاجتماع". و"يمكن اعتبار الديموقراطية امراً اصيلاً وسبيلاً الى تنظيم الاجتماع الدنيوي".
2- ان الديموقراطية ليست بضاعة غربية حصراً، فخاتمي يرى ان "للديموقراطية جذوراً موغلة في التاريخ". واليوم نحن نعرف هذه الجذور بفضل البحوث التي اجراها العديد من المفكرين المحايدين.
3- لعل العنصر الاكثر اهمية في فكرة خاتمي عن الديموقراطية هي ادراكه انها "آلية للحكم" وليست عقيدة او مذهباً بل ولا حتى نظاماً سياسياً. وهذا ما يقول به الباحثون في الديموقراطية المعاصرة. "ان الديموقراطية هي السبيل الى استقرار نظام معين، اي انها آلية وان الحكومة للشعب وان ارادة الشعب هي التي تحدد شكل الحكومة. وهذا قد ادى في الغرب الى العلمانية والليبيرالية ولا بد له من ان يؤدي في المجتمع الاسلامي الى شكل يساير فكر الناس الاسلامي". و"انها في ادق دلالاتها طريق وسبيل الوصول الى نظام سياسي. وهذه الديموقراطية يمكن ان تفضي الى نظام هو هنا ان ارادة الناس هي التي تحدد اسلوب الحكم وما يقر في نهاية الامر يتبع ارادة الناس".
4- واذا كانت الديموقراطية "آلية" فهي اذن ليست معروضة في مقابل الاسلام، وانما في مقابل الديكتاتورية، فنحن لسنا امام خيارين: اما الاسلام او الديموقراطية، انما بين الديموقراطية او الديكتاتورية، "انها الديموقراطية. واذا لم نحترم ونرغب في هذا السبيل فلن يكون امامنا سوى التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط… ما من طريق ثالث البتة، والذين يرفضون الديموقراطية سبيلاً فانهم يدعون الى الديكتاتورية والقهر". و"لا احسب ان عاقلاً ينصحنا بترك الديموقراطية للبحث عن بديل آخر".
5- وفي العمق يثبت خاتمي حقيقة ان الديموقراطية لم تعد مرتبطة ارتباطاً عضوياً ولا سياسياً بالعلمانية والرأسمالية، فلا يشترط لكي تكون ديموقراطياً الا تكون علمانياً او رأسمالياً. بل من الممكن ان تكون علمانياً ورأسمالياً، ولكن ديكتاتورياً ايضاً، وما مثل تركيا عنا ببعيد. وهنا يقول خاتمي "اعتقد جازماً انه لا تلازم بين الديموقراطية والعلمانية والليبيرالية".
6- واذا كانت هذه هي الديموقراطية، فان خاتمي يصل الى استنتاجه من ان الديموقراطية ليست متناقضة مع الاسلام، حين يقول: "الديموقراطية عندي لا تتنافى طريقاً او سبيلاً مع الاسلام" وهي "لا تتنافى مع الاسلام ولا تتعارض معه".
المصادر:
1- عبد القديم زلوم، الديموقراطية نظام كفر.
2- محمد خاتمي، مطالعات في الدين والاسلام والعصر.
3- تقي الدين النبهاني، نظام الحكم في الاسلام.
4- راؤل مانغلابوس، ارادة الشعوب.
5- David Held, Models of Democracy.
6- John Dunn, Democracy.
7- Samuel P. Huntington. The Future of the Third Wave, Jornal of Democracy, October 1997.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.