قام 60 شخصاً مسلحاً من الميليشيات التابعة لبعض الاقطاعيين المنتمين الى الحزب "الثوري الدستوري" المعروف باسم PRI الحاكم في المكسيك في 25 كانون الاول ديسمبر الماضي بإطلاق النار على مجموعة من الفلاحين الهنود كانوا يقيمون الشعائر الدينية في احدى الكنائس الخشبية القديمة في قرية اكتيال التابعة لمنطقة تشياباس الجنوبية، التي شهدت مع مطلع 1994 انطلاق الحركة "الثاباتية" الثورية نسبة الى اميليانو ثاباتا زعيم حركة تحرير المكسيك. واسفرت المذبحة عن مصرع 45 شخصاً بينهم 21 امرأة و14 طفلاً وتسعة رجال، وطفل رضيع، اضافة الى 25 جريحاً يرقدون بالمستشفيات نتيجة للأعيرة النارية التي اصابتهم اثناء محاولتهم الهروب. وعلى رغم محاولات الرئيس المكسيكي ارنستو زيديو ادانة المذبحة واعتبارها "عملاً وحشياً وجريمة غير مقبولة"، تؤكد كل الشواهد ان الذين ارتكبوها ينتمون الى حزبه، اذ اكد القس صامويل رويث المسؤول الديني في منطقة تشياباس، الذي يلعب دور الوسيط بين الثوار الثاباتيين والحكومة، ان الذين ارتكبوا المذبحة من حزب الحكومة، ويتلقون اوامرهم من المسؤولين المحليين. واشار الى انه تم ابلاغ السلطات الرسمية قبل ايام من ارتكاب المذبحة ان هناك من يخطط لارتكابها، بعد ان تسرّبت انباء حول اجتماع حضره مسلحون من قرية تشوروس القريبة، وتم ابلاغ المسؤولين عن الامن بتلك الانباء، وكانت الاجابة سلبية. واكد القس انه اثناء اطلاق النار اتصل مسؤول الكنيسة التي وقعت بها المذبحة برجال الامن الذين اكدوا له ان طائرة مروحية في طريقها الى المنطقة، ولم تصل الطائرة الا بعد انتهاء المذبحة التي استمرت تسع ساعات كاملة، واكد شهود ان رجال أمن كانوا على بعد 200 متر فقط من منطقة الحادث، ولم يحاولوا التدخل على رغم سماعهم اطلاق النار. الحادث ليس جديداً على تاريخ دول اميركا اللاتينية ولا يعتبر جديداً على تاريخ المكسيك المعاصر، ولن يكون الاخير، والضحايا دائماً من الفلاحين الهنود سكان البلاد الاصليين، الذين يعتبرون ضحايا كل السلطات على مرّ العصور منذ وقوعهم فريسة للمكتشف الاوروبي قبل خمسة قرون. لكن الجديد هذه المرة هو التوقيت الذي تمت فيه المذبحة، اذ لم تمض سوى اسابيع قليلة الى هزيمة الحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية، التي فقد فيها الغالبية البرلمانية للمرة الاولى منذ حوالى 70 عاماً، اضافة الى اقتراب الانتخابات الرئاسية، التي يبدو الفوز فيها لأي مرشح من الحزب الحاكم حالياً بعيد المنال، خصوصاً بعد ان انتقلت رئاسة مجلس العامة الى المعارضة. لذلك يرى المراقبون ان هذه المذبحة تعتبر بداية سلسلة من الاعمال الارهابية المتوقع تواصلها التي تحاول من خلالها بعض زعامات الحزب الحاكم اعادة عقارب الساعة الى الوراء بالقوة، لأن السنوات المقبلة تؤكد ان قاعات المحاكم ستشهد قضايا الفساد والإثراء غير المشروع وارتكاب الجرائم بالجملة، لأن الاعضاء البارزين في "الحزب الدستوري" الحاكم ينتمون الى الاقطاع الريفي المحلي المنغلق على نفسه، ويعتبرون ان الارض وما عليها من بشر وحيوان ملكاً لهم لا ينازعهم فيها احد. وينتمي سكان المدن الكبرى منهم الى مافيات المخدرات، او يرتشون من الشركات المتعددة الجنسة لتمرير مشاريعهم التي تهدف الى استغلال ثروات البلاد. وتهدف السلطات المركزية التي لا تزال في يد الحزب الحاكم من خلف هذه المذابح الى اعادة انتشار الجيش في منطقة تشياباس التي خرجت من تحت سيطرتها طبقاً للاتفاق الذي وقعته الحكومة مع الثوار الثاباتيين في الجنوب خلال عام 1995، واول بنوده ابعاد الجيش عن المقاطعة لأن الثوار يعتبرون قوات الجيش والبوليس ادوات في ايدي الاقطاعيين الذين يرهبون بها الفلاحين الهنود. ومنذ خروج الجيش اصبحت مصالح الاقطاع المنتمي للحزب الحاكم مهددة، ولم يعد بين ايديهم اسلحة يرهبون بها الهنود الا سلاح الارهاب الذي تم استخدامه في هذه المذبحة الاخيرة. اضافة الى الجيش والبوليس تقوم السلطات المحلية التابعة للحزب الحاكم بإثارة الخلافات القبلية المتوارثة في تلك المنطقة التي لا تزال تعيش في تخلّف كامل، فتقوم بتسليح بعض رجال القبائل التشول وتزوتزيل وتثير بينهما الخلافات حتى تبدو المذابح وكأنها عمليات انتقامية تعود الى اصول قبلية، وان كان الهدف منها ارهاب الفلاحين الذين يؤيدون ثوار جيش التحرير "الثاباتي" في منطقة تشياباس، خصوصاً وان الثوار لهم قواعد مهمة في تلك المنطقة، ويعتمدون عليها في القيام بعملياتهم العسكرية ضد القوات الحكومية. وتستغل السلطات ايضاً الخلافات القائمة بين الكنائس المسيحية المختلفة التي انتشرت في السنوات الاخيرة بشكل مكثف، في محاولة لاجتذاب الهنود الذي يعتنق اكثرهم ديانات وثنية، فتقوم السلطات المحلية بتحريض الاهالي ضد بعض الكنائس، خصوصاً الكنيسة الانجيلية او الكنيسة الكاثوليكية التي تعتنق افكار التحرير، وتحاول ان تلعب دور الوسيط بين الثوار والحكومة وهو الدور الذي تنظر اليه حكومة الحزب الحاكم على انه خطر، لأن رجال الكنيسة يبدون تعاطفاً واضحاً مع الهنود ضحايا العنف المسلح في ريف تشياباس وغاباتها. لذلك كثيراً ما يجد رجال الدين كنائسهم مغلقة، او يتظاهر بعض المسلحين امامهم باسلحتهم ويمارسون ارهابهم لمنع الاهالي من ممارسة الشعائر الدينية. ويدلل المراقبون على ان الحكومة تهدف من المذابح الى عادة فرض سيطرتها على المنطقة. وخلال عام 1995 كان للجيش 74 نقطة تمركز محددة في الاتفاق مع الثوار الثاباتيين، لكن الحكومة بدأت في خروق هذه الاتفاقات منذ عام 1996 بزيادة عدد نقاط تمركز الجيش الى 96، وقبل ايام قليلة من المذبحة وصل عدد نقاط تمركز الجيش الى 170. على رغم محاولات الرئيس المكسيكي نفي الاتهام ضده وضد حزبه بإدانة الحادث، كشفت اعترافات الموقوفين بانتمائهم للحزب الحاكم. وأكدوا بأن الاسلحة التي كانت بحوذتهم سلّمهم إياها الجيش، وتم تدريبهم على استخدامها في معسكرات تابعة للحكومة. وجاء القاء القبض على عمدة تشيناهو، الذي يعتبر أحد زعماء حزب الحكومة في المنطقة، كمتهم رئيسي في المذبحة كشاهد يكذّب تصريحات رئيس الدولة. يمكن تبرير موقف حكومة المكسيك الرسمي التمسك بكرسي السلطة، على رغم انه لا يوجد دعماً في الداخل، بل يجد اصواتاً مطالبة بتقديم الجناة الى المحاكمة، لكن لا يجد احد تبريراً لرد فعل القوى الخارجية المؤثرة في سياسة المكسيك الداخلية، ولم تجد دماء الهنود ضحايا المذبحة الاخيرة صدى لدى الذين يرفعون شعارات حقوق الانسان في كل مكان، فلا الولاياتالمتحدة ولا اوروبا تعدّت تقديم واجب العزاء للرئيس، واكتفت بالمطالبة بالتحقيق في الامر. وكأن الامر يتعلق بحدث قليل الاهمية، لأن مصالحهم الاقتصادية بين ايدي من ارتكبوا الجريمة.