من «دهاليز» النسيان، أعاد ملك الحزم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز قضايا فساد منسية في السعودية إلى السطح، لتعاد ملفاتها إلى التحقيق والتدقيق بأثر رجعي، وكأن ذاكرة الزمان والمكان ثبتت الوقت على الدقائق الأولى من يوم مرعب كان الفساد بطله. تصدرت تلك القضايا المنسية ما عرف ب«كارثة جدة»، التي اعتبرها المراقبون من أكبر قضايا الفساد في تاريخ السعودية، وكانت التهم الموجه إلى المتورطين فيها هي إزهاق الأرواح والممتلكات، ولاسيما أن الفساد تجسد في كل زواياها، كما ان ضحاياها بالمئات، وخسائرها بالبلايين. وتعود تفاصيل قضية الفساد في كارثة جدة إلى ما قبل تسع سنوات، عندما دهم «المطر» سكان عروس البحر الأحمر في ال25 من تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، ولقي فيها 116 شخصاً حتفهم، وكان هناك عشرات المفقودين، أشارت حينها الإحصاءات الرسمية الى ان الاضرار شملت مئات المنازل و3000 آلاف سيارة غرقت في السيول، ويعتقد أن كثيراً من الضحايا غرقوا داخل سياراتهم. كانت مشاهد الجثث ورائحة الموت تفوح في ارجاء المدينة، ولاسيما الاحياء الاكثر تضرراً، وخصوصاً أن مياه السيول لم توقفها في ذلك الوقت أبنيتهم الأسمنتية، إذ داهمتها وأغرقتها، واستخدم الطيران المروحي التابع للدفاع المدني وسيلة لإنقاذ من هرب منهم الى سطوح المنازل خوفاً من الغرق، بعد أن ملأت السيول الأدوار الأرضية في المساكن، وشلت الحركة المرورية في طرقات الأحياء المنكوبة التي اصبحت بحيرات مائية، كما شلت المدينة بأسرها وأعلنت حال الطوارئ فيها. كشفت كارثة جدة في 2009 عن حجم فساد طاول المدينة عقوداً، قضايا كثيرة كشف عنها في حينها، وأصدرت الحكومة السعودية أمراً بإنشاء لجنة لتقصي الحقائق لمعرفة السبب الرئيس في غرق ثاني أكبر المدن السعودية في كميات أمطار لا تصل إلى المستوى الكارثي؛ وبعد ما يقارب أربعة أشهر، وتحديداً في الخامس من شهر آذار (مارس) عام 2010 ظهرت نتائج اللجنة، التي برأت بالبراهين والأدلة المطر والسيول مما حدث في جدة، وان الفساد الذي تجسد في قضايا عدة، منها الرشاوى والتزوير واستخدم السلطة بغير وجه حق كان هو السبب، وبدأت السلطات السعودية عملها من خلال التحقيقات، وكانت التهمة هي ازهاق الارواح، واقتادت الكارثة العشرات الى مكاتب التحقيق لمعرفة ملابسات ما حدث، فمن ضمن القضايا كان بيع مخططات أراضٍ في مجري السيول، ولاسيما أن ما غرق من احياء كان نتيجة عاملين احدهما انتشار الابنية في مخططات داخل اودية ومجارٍ للسيول، وثانيهما ان ما صرف على مشاريع الصرف الصحي في المدينة اختفى، واكتشف ان ثاني المدن السعودية لا يوجد فيها شبكات للصرف الصحي، بل إنها مقامة على مياه الصرف الصحي! تلك التهم ثبتت على المتورطين فيها، عندما عاد المطر ومعه السيل بعد عام وشهر، وتحديداً في ال26 من كانون الثاني (يناير) 2011 ليلقى فيها 10 أشخاص حتفهم. ولم تختلف مشاهد الدمار والرعب في كارثة جدة الثانية عن سابقتها سوى الاختلاف في المواقع، ففي الكارثة الجديدة كانت الاحياء والطرق المتضررة مختلفة تماماً عن سابقتها، ما أكد أن الفساد انتشر في المدينة بأسرها. وبلغت نسبة الأمطار 111 ملم، والتي شكلت سيولاً جارفة شقت طريقها من جبال شرق جدة، عبر وادي مريخ ووادي بني مالك الكبير، إلى غربها وصولاً إلى البحر الأحمر، قاطعة 13 كيلومتراً من قلب جدة بقوة عاتية، وكان شارع فلسطين، الذي يربط شرق المدينة بغربها، مسرحاً لتلك الأحداث. وتوزعت السيول في نحو 80 في المئة من مساحة جدة المأهولة، وجالت طرقها وأنفاقها بمثابة مجرى بديل عن مجراها الطبيعي، الذي تعمد بعضهم إخفاءه بالسرقة. واستمر الهطول إلى ثلاث ساعات على مساحة 400 إلى 600 كم2 بكمية هطول بلغت 102 إلى 120 ملم، كان من أسوأ ما حدث في الكارثة الجديدة هو انهيار سد أم الخير وتضرر الأحياء المجاورة له، إذ داهمت البيوت وأغرقتها، إضافة إلى غرق مئات السيارات في الشوارع، ما دعا إلى اعلان حال الطوارئ من جديد وتعليق الدراسة، بعد ان اصاب جدة الشلل واصبح التنقل فيها مستحيلاً. وعادت من جديد المطالب الشعبية بإيقاف الفساد ومحاسبة أصحابه، والالتفات إلى ملفاته التي كانت ما تزال منظورة منذ الكارثة الأولى، والموقفون كانوا بالعشرات، بينهم من يعمل مسؤولاً في «الأمانة» وفي أقسام عدة، ومسؤولون في قطاعات حكومية أخرى تورطوا في الكارثة، وحتى قطاع الأعمال كان له نصيب، إذ برزت أسماء من رجاله في قائمة المتورطين، ومع مرور الوقت كانت تتكشف أسماء وتبرأ اسماء أخرى، والكل ينتظر نتائج جلسات المحاكمة، التي كانت علنية أمام الجميع. بعد ما يقارب خمسة أعوام انتهت التداولات والجلسات القضائية في أكبر قضية فساد، وحكم على عدد من الذين تورطوا فيها، وثبت تورطهم بالدليل، أحكام عدة، منها السجن والغرامات المالية، في حين بُرِّئ بعض من سبق إدانته. وفي عام 2015 أعلن الحكم النهائي في القضية، وأغلقت ملفاتها إلى أن فتحت من جديد للتحقيق بأثر رجعي قبل أيام، بعد إعلان خادم الحرمين بتشكيل لجنة عليا لمحاربة الفساد.